الخميس , 21 نوفمبر 2024
Home / بقلم د حسام بدراوي / بعد 25 يناير / دردشة فى السياسة الخارجية

دردشة فى السياسة الخارجية

قال الشاب القارئ المثقف: ما الذى يحدث فى ليبيا يا دكتور، وما تأثيره على مصر؟

انتفضت زميلته وقالت: إحنا مش فاهمين حاجة، كل الأنباء تقول إن قوات حفتر، الذى تؤيده مصر والإمارات، تنسحب وتهزم، وإن قوات حكومة الوفاق الذى تؤيدها تركيا وقطر تتقدم وتستولى على غرب ليبيا.

قال ثالث: يعنى نفهم أن أمريكا وروسيا تؤيدان مصر فى موقفها فى ليبيا، ومع ذلك ينتصر أردوغان بدعم تونسى إخوانى. كلها أنباء تدل على أن هناك ما يتم طبخه فى مطبخ المخابرات والمصالح، وأن هناك خديعة فى مكان ما، فما رأيك يا دكتور؟

قلت: تعالوا نبتعد عن المشهد قليلا لنراه متكاملا.. القوى التى تخطط لإدارة العالم العربى والسيطرة على إرادته هى من وجهة نظرى إيران، وتركيا، وإسرائيل.

والسيطرة على الإرادة لها مدخلان، إضعاف الداخل وتفكيكه، والسيطرة على الجغرافيا والمقدرات الاقتصادية والأسواق العربية.

وما نشاهده فى السنوات العشر الماضية وما قبلها من إعداد قد نجح فى ذلك. انتهت قوة العراق بغزو بريطانى- أمريكى، وتداخلت إيران فى العراق مجتمعيا وجغرافيا. حرب أهلية فى سوريا وتفشى داعشى بإجرام، وتدخل دولى يفكك كل صواميل الدولة، وغزو تركى وحركات انفصال، وللأسف كله بدأ بأموال عربية ضيقة الأفق وقصيرة النظر.

باب المندب ومدخل البحر الأحمر تحت سيطرة إيرانية وحرب أهلية فى اليمن لا تنتهى وقواعد عسكرية إسرائيلية تمتد فى إفريقيا وتحاصر مصر من بعيد ومحاولات للتأثير السلبى على علاقات مصر بمصب بمنبع نهر النيل.

أفلتت مصر من كابوس التقسيم، ولكنها مازالت تحت تهديد الإرهاب وكابوس الحالة الاقتصادية الصعبة.

كل واحدة من هذه الدول الثلاث تمتلك مشروعاً يحاول خلق ثغرات دينية وطائفية وعنصرية فى المنطقة واستغلالها.. وقد سبقها وللأسف مد وهابى من المملكة السعودية، مهد لتغيير بنية المجتمع المصرى النفسية وتراجع التنوير الذى قادته مصر عبر سنوات القرن العشرين وحتى الهزيمة المدبرة فى ٦٧.

قد يختلفون فى الأهداف والوسائل، لكنهم يتفقون فى أمر واحد، وهو القضاء على الأمة العربية وخنق مصدر قوتها وهى مصر. هذا ليس تفكير تآمرى، بل أصبح واضحا وجليا.. مصر القوية هى تهديد صريح لمصالحهم الاستراتيجية.

فما يحدث فى ليبيا يا شباب هو تطبيق لمشروع تركيا للحصول على مصادر الطاقة فى البحر المتوسط وعلى ثروة ليبيا النفطية.. وفى نفس الوقت حصار مصر من الغرب.

ولا مانع من استخدام الإخوان هنا وداعش هناك ونداء للخلافة الإسلامية وكأننا نستحضر أسوأ أيام التاريخ العثمانى لنعيد العيش فيه..

قال الشاب الأول: ولماذا يسمح الرئيس ترامب بتغول تركيا بهذا الشكل ومصر والرئيس السيسى حلفاؤه؟!.

ابتسمت وقلت: هناك مثل ينطبق على أمريكا بحكم تاريخها يقول «المتغطى بأمريكا عريان».

تركيا تأتى بعد إسرائيل فى الأولويات الاستراتيجية الأمريكية فى الشرق الأوسط وليس مصر، وحتى إذا مثل السيد أردوغان عبئا أحيانا على المصالح الأمريكية، فإنه لا يزال حليفا متعدد الأوجه والفوائد، وسيأتى وقت التخلص منه إن آجلا أو عاجلا. فلم يستمر أى حليف لأمريكا بدون أن يخونوه حسب الاحتياج، والله يرحم شاه إيران الحليف الأكبر لهم.

ثم إن العلاقة الاستراتيجية بين تركيا وإسرائيل بالغة الأهمية لأمريكا، بالذات فى مجال الصناعات العسكرية والتعاون الاستخبارى بين البلدين وتبادل المعلومات حول العراق وسوريا ولبنان وحول الأكراد والإخوان وداعش وحماس.

وتسيطر تركيا على مضيق البوسفور، الذى يصل بين البحر الأسود وبحر مرمرة، ومضيق الدردنيل الذى يصل الحدود الجنوبية بين قارتى آسيا وأوروبا.

وأعلم علم اليقين أنه فى نهايات عهد حكم جورج بوش وطوال حكم رئاستى باراك أوباما، كان رجب طيب أردوغان «مصدراً يُعتمد عليه بشدة فى إعطاء نصائح للبيت الأبيض حول سياسات واشنطن فى المنطقة».

وهو صاحب نظرية ضرورة تبنى واشنطن لجماعة الإخوان المسلمين تحت دعوى سوَّقها بقوة، تقوم على أنه إذا كانت «القاعدة» هى الإسلام العنيف الذى ضرب نيويورك وواشنطن فى 11 سبتمبر 2001، فإن «الإخوان» هم «الإسلام المعتدل»، وهو ما اشترته الإدارة الأمريكية بغباء!

ولقد أكدت لى ذلك رئيسة مجلس اللوردات البريطانى، فى لقائى معها، بعد أحداث ٢٠١١ فى مصر وظهور الإخوان كقوة مدعومة من بريطانيا وأمريكا.

وقد يفسر ذلك، الهلع الذى أصاب أردوغان عقب فشل حكم جماعة الإخوان وسقوط السيد مرسى، وفتح أبواب تركيا للهاربين من الإخوان بعد ثورة 30 يونيو 2013.

قالت الشابة: من الذى يدير العلاقات الخارجية لمصر؟

قلت: رئيس الجمهورية دائما هو صانع السياسة الخارجية للدولة، ولكنه ليس وحده، فأجهزة الدولة الأخرى هم أذرعه وأياديه وأصابعه، وأحيانا شركاء عقله. هناك أحيانا يكون للخارجية دور أكبر فى قضايا بعينها، وأحيانا أجهزة المخابرات. المسألة متداخلة، ولابد أن هناك مجلسا يضم هؤلاء سويا للتشاور ووضع السياسات. بلد مثل مصر لا تدار بفكر شخص واحد، بل لابد من وجود مؤسسات تشترك فى وضع السياسيات الخارجية للبلاد حتى تضمن الاستدامة لها.

قال الشاب المثقف: وهل لمصر سياسة خارجية معلنة، أم نستقيها من سياق الأحداث وردود الأفعال؟

قلت: الخارجية المصرية من أعرق مؤسسات الدولة المصرية، وتحظى باحترامى واحترام العالم. ولا يمكن لها أن تسير بشكل عشوائى. طبعا لمصر سياسات خارجية وتوجهات.

وفى رأيى أنه لابد من إيجاد دور فعال أكبر لمصر فى إفريقيا والشرق الأوسط. والعالم. فلم يحدثنا التاريخ الحديث أو القديم عن نهضة لمصر، وهى منكفئة على نفسها، أو مغلقة أبوابها ونوافذها عن العالم، أو أن تكون مصر مجرد ردود أفعال.

إن دور مصر الريادى والتنويرى مازلت أراه حيويا، بل دعامة من دعامات نهضتها.. وهو دور يأتى ليس من فلسفة الوساطة، أو الانتظار، ولكن من فلسفة المشاركة الإيجابية فى صنع المستقبل. إن من لا يشارك فى صنع المستقبل سيكون مستودعا لنفاياته.

ولكن علينا أن نعى أن مصر القوية داخليا هى مصر القوية خارجيا.. والتاريخ يعلمنا أن مصر صدرت التنوير والثقافة فى القرن التاسع عشر وحتى منتصف القرن العشرين.. ومصر صدرت الثورة لكل إفريقيا والعالم العربى بعد ثورتها. ومصر بانتهاجها للاشتراكية نقلت تجربتها إلى الدول المحيطة بها.. إلا أن مصر المستقبل عليها أن تصدر- من وجهة نظرى- الثقافة والتنوير واحترام حقوق الإنسان.. إن مصر فى إطار دورها القائد.. إذا أخذت من الداخل بهذا الإصلاح السياسى.. فإننى أرى دول المنطقة ذاهبة إلى حيث تذهب مصر.. بكل أثرها وتأثيرها.

ولأنى أؤمن بالمنافسة، فلابد أن تكون لدينا استراتيجية تنافسية مع الدول التى ذكرتها وذكرت أهدافها، والتى تشكل بثقلها الاقتصادى والسياسى وأطماعها شكل مستقبل المنطقة.. وأقصد بها مرة أخرى إيران، وتركيا، وإسرائيل.

إن على قيادة مصر دراسة حال هذه الدول والتكتلات بحيادية، فإن تأثير هذه الدول الخارجى سبقه فى إيران نمو علمى هائل واعتماد على الذات رغم المقاطعة الدولية الاقتصادية، وتركيا سبق جنون قائدها توازن اقتصادى وتنموى ممتاز وارتفاع فى مستوى المعيشة، وما يحدث فى إسرئيل من نمو اقتصادى وعلمى وبحثى يجعلها القوة الأكثر تأثيرا الآن فى المنطقة.

إن قدرتنا على مقاومة استراتيچيات هذه الدول حولنا يلزمنا أولا بأن نتفوق عليها حضاريا واقتصاديا وإنسانيا.

فلا ينسينا كل هذا الحديث أن مصر القوية هى مصر الحرة وأن قوة البلاد من قوة أبنائها ليس بالعدد ولا العدة، بل بالعلم والمعرفة والثقافة والاحترام لحقوق مواطنيها بعدالة ناجزة واحترام لمدنية الدولة وتعدد قواها.

التعليقات

التعليقات