قال الشاب الثورى: عادت ذكرى ٢٥ يناير، ويعتصرنا الألم يا دكتور لضياع أملنا وانتهاء حلمنا.
قلت: يا أولادى، الألم والمعاناة يصقلان النفوس ويجعلان من الفحم ألماظ. والعِبرة فى تراكم الخبرة والتعلم من الأخطاء، وليس البكاء على ما فات أو الولولة على ما كان يمكن أن يكون. ثورة ٢٥ يناير فى أيامها الأولى كانت انتفاضة، فيها الكثير مما سيكتبه التاريخ من النقاء والتعبير الحقيقى عن رغبة شعب فى الكرامة والعزة والتغيير إلى الأفضل. قال شاب آخر: لقد شاهدتك فى اليوم الأول للثورة على التليفزيون مع منى الشاذلى، وفى حضور د. أسامة الغزالى وغيره تقول: علينا أن نستمع للشباب، لا أن نواجههم. علينا أن نستوعب غضبهم وآمالهم، لا أن نهاجمهم.. ولقد شجعنى ذلك وأنت كنت من قيادات الحزب الحاكم أن أنزل إلى الميدان بطاقة إيجابية. قالت الشابة الحزينة: «ولكننا خُدعنا فى الكثيرين ممن كانوا حولنا، اللى طلع متدرب فى أوروبا الشرقية، واللى طلع إخوانى متخفى، واللى طلع عميل مخابرات، ولم نسأل أنفسنا هو الأكل والشرب ومصاريف الإقامة واليافطات جاية منين. ولم نسأل أنفسنا مين اللى بينظموا ويدخلوا ويخرجوا ويقسموا ويكتبوا الشعارات، ولم أكن أريد سوى متعة التواجد الإنسانى مع المصريين فى التعبير عن رغبتنا فى تغييرٍ تأخر وحرية كنت أظنها مكبلة، إلى أن عشت الآن فى تكبيل أكتر وحرية أقل وتعبير محدد وخوف من مجرد التجمع والكلام فى السياسة واتهامات مجهزة. إننا وكأننا عملنا ثورة لنهديها إلى الإسلام السياسى». قال شاب آخر: ساعات أحس أن الشعب يعاقب على ثورة يناير، حتى لا يكون لها مثيل مرة أخرى أبدا. وانتفض واحد من المحيطين بى قائلا: «هو إحنا كنّا غلط. أنا كان عمرى وقت الثورة ٢٤ سنة، والآن أنا فوق الثلاثين، قضيتى ألاقى شغل محترم بمرتب أكبر، وشقة أسكن فيها، وأكوّن أسرة صغيرة يمكننى إعالتها، ولا عاوز ثورات ولا عاوز انتفاضات». ابتسمت لهم قائلا: كل اللى بتقولوه صحيح وغلط فى نفس الوقت. ٢٥ يناير كانت انتفاضة شعب، وكان لابد أن تنتهى بتغيير جوهرى فى طريقة إدارة البلاد. الدرس اللى أنا تعلمته هو أن الثورات تحدث عندما ينقطع الأمل فى إحداث حركة وتغيير يمس حقيقة احتياج الجماهير بالطرق الشرعية. الثورة هى فى التعريف الأكاديمى عمل غير شرعى ضد نظام قائم.. إذا نجحت، أصبح النظام مجرما ومتهما ومذنبا، وإذا فشلت أصبح الثوار مجرمين وخارجين عن النظام. الأبطال والمجرمون يغيرون أماكنهم لأن من يكتب التاريخ هم المنتصرون. إن واقع الحياة الذى آمنت به وتأكد إيمانى به بعد يناير أننا أحيانا نحتاج إلى هزة وإفاقة، ولكننا لا نحتاج إلى هدم وفوضى. إن الحكم الرشيد يتيح التغيير من داخله، وبرؤية معلنة ويسمح بالتداول السلمى للسلطة دون ثورات.. الحكم الرشيد يستمع إلى المختلفين معه، ويتحاور مع مَن له وجهة نظر مختلفة، ولابد له من خبراء ومستشارين سياسيين يقومون بذلك له وعنه. والمؤسسات الأمنية عليها أن تحمى ذلك لا أن تمنعه، لأنها لا تحمى نظاماً قائماً بعينه ولا شخصاً بذاته، بل تحمى دولة تتغير فيها النظم. قال شاب آخر: ولكننا نفقد الأمل شيئاً فشيئا، ومجموعات الشباب التى اقتربت من السلطة أخذت الفرصة، والتى لم تفعل يتم إحباطها. وقالت شابة أخرى سياسية النزعة وتنتمى لحزب سياسى: حزب مستقبل وطن يحضر احتفالاته المحافظون، ويحظى بالتأييد والتمويل والمساندة، وكأنه الحزب الحاكم، بل إن الكثيرين منا يتعرضون للضغوط للانضمام إليه وإلا نفقد مميزات تتيحها الدولة للشباب. قلت: استمعوا إلى وأنصتوا، إن الفراغ السياسى خطر كبير، إذا لم تملأه حركة سياسية واعية وأحزاب تستطيع الحصول على مقاعد فى البرلمان، ستملؤه الفوضى أو منظمات الإسلام السياسى بأجنحتها المختلفة، ونعود إلى نقطة الصفر. أى فراغ فى المجتمع سيتم استيعابه بشكل من الأشكال. عندما فشلت الدولة فى التخطيط العمرانى تم ملء الفراغ بالعشوائيات، وعندما تدنى مستوى التعليم وأخطأت الدولة فى جعل الشهادة وليس المعرفة والمهارة هى الهدف، امتلأ الفراغ بالدروس الخصوصية والفساد، ودخلت المعادلة التعليمية مناهج التطرف واختل بناء الإنسان، وعندما لم تحقق الدولة وتوفر للمواطنين مواصلات عامة محترمة تحقق احتياجاتهم ملأ الفراغ التوكتوك والسيرفيس والفوضى.. هكذا فى كل مجال، حتى فى حياتنا الأسرية، إذا لم تملأ المدرسة والجامعة والمنزل حياة الأطفال والشباب بالرياضة ممارسةً ومتعةً، والمسابقات والنشاط الفنى والثقافى، سيملؤ الفراغ الإدمان والتطرف. لذلك فإن تدخل الدولة بأجهزتها لتملأ الفراغ السياسى فى هذه المرحلة كان ضروريا ومفهوما، ولكنه تدخُّل مرحلى، وعليها أن تفهم أنه غير مستدام، وأن التوازن بين التنظيم والتحكم يحتاج عقولاً وفلسفة وليس مجرد إجراءات. أنا واثق بأن السنوات الثلاث القادمة ستشهد حوارا إيجابيا بين الأطراف، لأن مصر جميلة وتملك مقومات حضارة ظهر معدنها فى بداية ثورة ٢٥ يناير وفى ٣٠ يونيو، ولأنه تملؤنى الثقة بأن قيادة البلاد كما ظهر وعيها فى تقدير الخطر على أمن مصر، عندها الوعى لرؤية أهمية الانتقال إلى الدولة المدنية الحديثة التى نسعى إليها والتداول السلمى للسلطة، وأن ذلك لا يتم بإعادة فعل نفس الأخطاء السياسية فى انتظار نتائج مختلفة.. يا شباب.. بلادنا الجميلة تحتاج طاقة إيجابية أنتم مصدرها، وتحتاج مشاركة وبناء بكل أطيافها، والصورة لا تكتمل بلون واحد بل بألوان متعددة.