الخميس , 21 نوفمبر 2024

ليس له مثيل

أثار شباب «الحالمون بالغد» وجدانى عندما سألونى: لماذا لا نحتفل بعيد الأب كما نحتفل بعيد الأم فى مصر؟ فقالت الشابة الرقيقة: والدى هو مثلى الأعلى، ولولاه ما كنت أنا من أنا. ما قصة عيد الأب يا دكتور؟

قلت: تاريخيا أول من جاءته فكرة تخصيص يوم لتكريم الأب هى السيدة سونورا لويس من ولاية ميتشيجان فى عام ١٩٠٩، أرادت سونورا أن تكرم أباها الذى قام بمفرده بتربية أطفاله الستة بعد وفاه والدتها وقدمت عريضة تُوصى بتخصيص يوم للاحتفال بالأب، وأيد هذه العريضة عدد كبير من الفئات وتم تخصيص يوم ١٩ يونيو للاحتفال بالآباء فى مدينتها وانتشرت هذه العادة فيما بعد فى الولايات المتحدة وفى دول أخرى

وتحتفل كل دول العالم بيوم الأب فى أيام مختلفة، وأغلب الدول العربية، ومنها مصر، تحتفل بهذا اليوم فى ٢١ يونيو.

ولكن أذكركم بأن أجمل ما قرأته فى تكريم الأب والأم سبق تحديد هذه الأعياد بزمن بعيد، فى قول الله تعالى فى سورة الأنعام: «قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا»، وفى سورة الإسراء: «وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولا كريما واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل رب ارحمهما كما ربيانى صغيرا»، أى أن الله عز وجل جاء بالوالدين تاليا لعبادته. فالعناية بهما والاحتفال واجب علينا ليس فى يوم بعينه ولكن فى كل الأيام.

قالت الشابة: لقد كلمتنا كثيرا عن والدتك ولكننا لم نسمعك تتكلم عن والدك، فماذا كان لك وكيف أثر فيك؟

قلت:

بماذا نقيس قيمة الإنسان فى الحياة، سؤال تردد على ذهنى وأنا أتذكر والدى فى عيد الأب بعد سؤالك، فهل أحزن أم أفرح عند ذكره بعد فقدانه؟!

هل أحزن لغيابه عن ناظرى وعقلى وقلبى، هل أحزن لغياب حكمته وعدالته وحبه، هل أحزن لوحشتى لابتسامته وحنانه ورعايته، هل أحزن لفقدانى لصوته وقبلته المميزة، هل أحزن لرؤيتى أمى بعينيها الزائغتين وخوفها الداخلى وجمالها المتوتر عندما نذكره أمامها

هل أحزن لكل ذلك، أم أفرح وأسعد لهذا الوالد والجد والجد الأكبر والعم والخال، أسعد له وأتمنى أن أكون لأولادى مثلما كان لى. أسعد لإنسان أثرى كل فرد فى عائلته كبيرا وصغيرا ولدا وبنتا، أثرانا بعقله وعدالته وحكمته، أعطانا بلا حدود وبلا قيود، جمعنا حوله وجمعنا مع أنفسنا، جعل لكلمة عائلة معنى وشكلا وهوية.

أسعد له ولنا، لرجل كانت حياته كلها وبلا استثناء عطاء مستمرا وفكرا حرا مبتكرا، رجل حمل مسؤولية لكل من حوله، بلا تردد ولا شكوى منذ كان طفلا فى العاشرة من عمره.

أسعد له ولنا، إنه كان والدا لنا نفخر بما أرساه فينا من حب واحترام للعمل، من قرب من الله بلا ضجيج أو مظاهر، من عدالة ونزاهة وكأنهما نسيج حياة بلا مجهود يبذل، من قدرة على التسامح والسماحة مع الآخرين، ويا ليتنى أستطيع أن أكون مثله أو جزءا مما مثله لنا طوال حياته.

هل أسعد وأفرح وأنا أرى حول ذكراه كل هذا الحب والاحترام من كل من عمل معه وكل من لاقاه..

والدى يا ابنتى كان مثلا نراه فى حبه لزوجته، والدتى، وعيناه تنظر إليها دائما بالود والحنان، وهو يوصينا واحدا واحدا برعايتها والقرب منها واحترام رغبتها، وكل واحد منا يردد فى نفسه ويقول كل رجل فينا لأخيه كيف يحبها هذا الحب، وتقول كل واحدة من الأسرة لزوجها، أملى أن تكون مثله أو حتى جزءا منه. رب أسرة جعل كل صغير وكبير، رجل وامرأة يرونه أملا لهم ومثلا وقدوة حتى فى أبسط أمور الحياة.

أتصفح حياة هذه الأسرة فى رحابه، فتح الآفاق أمامنا وحقق لها كل ما كان يحلم به ونحن صغار وجعل لنا مكانة فى المجتمع تسمح لكل واحد فينا بالانطلاق لآماله الشخصية من هذه المكانة، جمع هذه الأسرة فى المتعة والترفيه والسفر ورؤية العالم والانفتاح عليه، فكم من المرات كان لكل صغير وكبير مكانا معه، فى مكان ما فى العالم كله..

رجل جعل طلب العلم فى هذه الأسرة والجدية فى تحصيله وأولويته جزءا لا يتجزأ من حياتنا بل ودفعنا أحيانا، وأولادنا بالتأييد والمساندة. رجل جعل عمل الخير وصدقته الجارية جزءا خفيا فى حياة كل واحد منا، نؤمن به.. منه، ونعمل له.. معه.

رجل جعل ليوم السبت من كل أسبوع عيدا نسعى إليه بكم من الحب غير مسبوق، ربط به كل صغير وكبير فى الأسرة سويا برباط عبقرى، جميل، ظاهرُ وخفى.. فمكانه بيننا وجلسته أمامنا ورؤيته لنا، ستكون دائما ذكرى لا مثيل لها فى حياتنا.

أبقى الله ذكراه حية بيننا وأعطانا القدرة لنكون مثله فليس له يا ابنتى مثيل.

قالت: والدموع فى عينيها، ليت كل ابن وابنة يرون والديهم بنظرتك الشاملة وحبك.

قلت: كل أب وكل أم لأولادهم ليس لهم مثيل. فتعالوا نحتفل بهم فى حياتهم، ونرد لهم الجميل ليس فى يوم عيد الأم وعيد الأب فقط بل فى كل يوم من حياتنا.

التعليقات

التعليقات