الأربعاء , 11 ديسمبر 2024
الرئيسية / بقلم د حسام بدراوي / بعد 25 يناير / مواجهة ساخنة بين الأجيال

مواجهة ساخنة بين الأجيال

قالت الشابة الجريئة الذكية: تقول لنا يا دكتور إن التعليم والإعلام والثقافة هى أهم أعمدة بناء الوجدان، وإن الأسرة والمدرسة والمجتمع مسؤولون عما نراه من عنف وتحرش وفساد، إذن عليكم ألا تنتقدوا الشباب بل يجب أن تلوموا أنفسكم كجيل مسؤول عن كل ذلك؟

قلت: عندك الحق كله يا ابنتى.

قالت: فلنبدأ بالتعليم، ما هو الموقف من وجهة نظرك؟

قلت: يقضى الطفل والشاب من عمره حوالى ثمانية عشر عاما فى مؤسسات التعليم المسؤولة عنها الدولة، ومن هنا تكمن أهمية وصول رؤية ورسالة قادة المجتمع الخاصة بحقوق المواطنة والانتماء إلى مصر والفخر والاعتزاز بها، واحترام المرأة وحقوقها بشكل تراكمى مباشر وغير مباشر لأطفالنا وشبابنا. ولا يوجد مكان يتجمع فيه كل المواطنين لمدة 14 سنة فى المدرسة و4 سنوات فى الجامعة فى إطار له جدران، محدد الزمان والمكان مثل المؤسسات التعليمية.

وعلينا أن نعترف أنه إذا تخرج الشاب أحادى الفكر، متعصبا، وغير قابل للتعددية، عنيفا أو متطرفا ومتحرشا من هذه المؤسسات التعليمية، فلابد أننا نفعل شيئا خطأ.

قالت الشابة: مع كل احترام، أنا أشك أن لدى الأجيال المسؤولة رؤية متفقا عليها واستراتيچية تراكمية وأعتقد وزملاء لى، أن سبب التحدى الذى يواجهه الشباب هو التباس أفكار جيل الآباء. نحن بكل اخطائنا نتاج عدم وضوح رؤيتكم وتخبط أفكاركم.

قلت: هات كل ما عندك..

قالت: أنتم جيل مع من سبقوكم التبست عندكم المفاهيم سياسيا واجتماعيا وثقافيا. هل نحن دولة مدنية حديثة كما يقول بعضكم وكما نؤمن نحن أم دولة دينية سلفية.. الأمور أمامنا مختلطة. هل يحترم المجتمع حرية الرأى ويحترم المرأة ومؤمن بالتعددية وعنده التسامح الذى يقبل المختلف عنه؟. أشك أن جيلكم مستقر على توجهاته، أنتم فى صراع حول مفاهيم منذ بدء القرن العشرين وتلوموننا على ما حدث فى وجداننا.

قلت: حتى لا ندخل فى جدل بدلا من الحوار، فأنا أوافقك ولكنى أبحث عن الحلول.

قالت: نعود للتعليم..

قلت: فى كتاب د. طه حسين الشهير «مستقبل الثقافة فى مصر» كان يتحدث عن الأمية فقال بحكمة، إن محو الامية لا يعنى تعلم القراءة والكتابة ولكنها محو أمية القراءة والكتابة والفهم، لأننا لو محونا أمية القراءة والكتابة بدون فهم أصبح من يقرأ ولا يفهم، عرضة لان يتحكم فيه من يفكر. فالمسألة ليست قراءة وكتابة لكنها مسألة تتضمن عمق فهم، وقدرة على الاختيار، واتخاذ القرار، والتمييز بين الخطأ والصواب.

إن تحدى التعليم مسألة عابرة للحدود، فلا يوجد شىء اسمه تعليم مصرى أو أجنبى فالتعليم واحد، لانه يقوم على اسس واحدة والتطور يسير فيه على نفس النهج، لكن فى آخر 10 سنوات حدث شىء لم يكن موجودا من قبل وجاءت جائحه كوفيد ١٩ وأوضحت عمق الأزمة.

فى آخر 10 سنوات أصبحت التكنولوجيا فرضا رئيسيا فى الحياة، والتعليم يتغير تغيرات شاملة فى وسائله ووسائل توصيل المعرفة للطلاب. فقد أصبحت المعرفة متاحة للجميع وبدون تكلفة، فتغير دور التعليم من مجرد نقل المعرفة لأذهان الطلاب إلى معايشة الطلاب فى المدرسة والجامعة بما يعنى أن القضية أصبحت رقمية التعليم وأنسنته وليست منهجا يتغير وإنما نموذج للمعايشة داخل إطار مؤسسة التعليم فى إطار رقمى وإنسانى فى نفس الوقت.

إننا نتكلم الان على التعليم بعد كورونا، والتعليم عن بعد والوسائل الجديدة وكيفية استخدامها. ولكننى أعى أنه من الممكن أن ننجح فى تطوير التعليم ونستخدم وسائل التطور بشكل فائق، لكننا قد نخرج أيضا وبدون قصد، المبتكر والعالم والمبدع والعبقرى ولكنه فى نفس الوقت، المتطرف فى الفكر والعنيف والمتحرش. فالمسألة ليست فى إدخال منهج لحقوق الإنسان لمنع العنف أو إصدار التعليمات بمنع التحرش واحترام المختلف، ولكنها طريقة حياة داخل المؤسسة التعليمية التى يخرج منها هذا الشاب/ الشابة قادرا على التمييز بين الحق والباطل وأن يعيش فى إطار يحترم حقوق الاخرين من غير منهجية العنف الزائد الموجود فى المجتمعات الحديثة. إن صنع الوجدان يتم فى مؤسسات التعليم، فى الاسرة، من الإعلام، فى مناخ الثقافة العامة والفنون. وتتداخل فى التعليم أمور جديدة مثل اللعب والالكترونيات واستخدام الانترنت والوصول للمعارف غير المحدودة واليوتيوب وغيرها.

كل هذه التكنولوجيا متاحة للأطفال والشباب بدون أى تحكم من جانبنا ومن يحاول الوقوف أمام استخدامها فمصير جهوده الفشل.

هل هذه محنة أم فرصة..!

إذا تعلمنا كيفية استخدام أدوات العصر لخلق الوجدان الذى يسمح بالتسامح وقبول التعددية وقبول الاخر واحترامه والسلام مع النفس ومع الآخرين أصبحت لدينا فرصة للقفز فوق تحديات بنيت عبر السنين. وإذا انتظرنا أن يأتى الحل بالدعاء والتمنى فإن المجتمع سينزلق أكثر ويغرق فى تناقضات فرضت على جيلنا ومن سبقونا نتيجة الجهل، بين الحداثة والسلفية وبين التنوير والجاهلية وبين العلم والمعرفة وخرافات الماضى ومعتقدات خلقت فى وجدان الناس فى وقت كانت فيه المعرفه قليلة ومنهجية العلم غائبه.

والحكمه والخبرة تقول:

أولا: إنه لا يوجد نظام تعليمى يرتقى فوق مستوى معلميه، فلو أننا نتكلم عن منهج يدرس وعن إدراك للحقوق يتم تدريسه للاجيال الحديثة، وصناعة مستقبل، وصناعة شخصية فيجب تركيز هدفنا على القائمين على العملية التعليمية من معلمين ومديرين لأنهم الميسرون لحصول الطالب على المعرفة فى المؤسسة التعليمية فيجب أن نحدد هدفنا بالارتقاء بمستوى المعلم ومستوى التعليم معا.

الحكمة الثانية تقول، إنه لتحسين مستوى التعليم يجب تهيئة المناخ للمتعلم فإذا كان مناخ التعليم قبيحا وليس به جمال فلا تنتظر من المتعلم أن يحب الجمال أو أن يصفو وأيضا لو كان المناخ مليئا بالكذب وانعدام الامانة فلا يجب أن ننتظر من التعليم أن يرتقى لمستوى أعلى نظنه سيتواجد وحده.

الحكمة الثالثة تذكرنا بالذى يفرق الإنسان عن سائر المخلوقات وما الذى أودعه الله فى الانسان يميزه عنهم؟.. الإجابة هى الخيال والحلم وتراكم المعرفة والإرادة الحرة فى اتخاذ قراره.

الأطفال هم أكثرنا خيالا وأوسعنا حلما ولو تأملنا العنف الذى نقدمه لأطفالنا فى الألعاب والأفلام السينيمائية والرسوم المتحركة لأدركنا حجم البث الوجدانى الذى نغرزه فيهم ويشكل أحلامهم. ويجىء البث الآخر من مدعى التدين بالخرافات التى لا أساس لها فى ديننا السليم الجميل لتكتمل منظومة وجدانية لا علاقة لها بالحداثة والعلم.

إن احترامى للأزهر الشريف يعلمه القاصى والدانى، إلا أن هذا لا يمنعنى من التساؤل فى كيفية التأثير على وجدان طالب يقضى أربع عشرة سنة من الدراسة فى مدارس ثم أربعة أعوام فى جامعة فى التعليم الأزهرى ولم يجلس بجانبه مسيحى ولم تجلس بجانبه فتاة- أن يتقبل أن يكون هؤلاء مواطنين معه لهم نفس الحقوق.

إذا كانت هناك سياسات فيجب تطبيقها على الجميع لأنه لا ينبغى أن يكون لدى مسار يسمح بأحادية الفكر، ومسار آخر يسمح بتعددية الفكر فالرسالة لا بد لها أن تتغير فأنا لم أصادف إلى الآن رسالة تجمع بين التوجهين. نحن نريد إبداعا أكثر فى دمج الأفكار وإزاله الالتباس.

فى رأيى أن ذلك مسؤولية الحكومات وقادة المجتمع، ويجب أن نظهر جدية حقيقية فى التعامل فى هذا الأمر. بدون أن نفعل هذه المفاهيم الإنسانية ونعرفها وندمجها فى وسائل التكنولوجيا الجديدة فمن الصعب جدا أن نتوقع جيلا جديدا أكثر إبداعا وأكثر عبقرية وأكثر تسامحا وأقل تطرفا فى نفس الوقت.

نعم يا ابنتى، عندك حق وعلى جيلنا أن يسعى معكم وبكم للخروج من هذا المأزق وتخطى الالتباس فى المفاهيم وفرض طريق بلا تناقض بين ما نقول وما نفعل.

وللحديث بقية..

التعليقات

التعليقات