حوار الأربعاء الأسبوعي
“أعظم المهن وأجدرها بالتقدير”
بقلم حسام بدراوي
مهنة الطب وخدمة المرضى هى من أعظم المهن وأجدرها بالتقدير. ولكن كما يحدث فى كل شىء حولنا، تطورت المعرفة ووسائل الحصول عليها، وتطور تدريس الطب وتداخلت فيه الرقمية، وتغيرت وسائل تقديم الخدمات وسرعتها. الطبيب والممرض والخدمات المساندة كلها تعمل فى تناسق وتكامل، وبناء النظام الصحى لأى دولة يعتمد على إدارة رقمية لها رؤية، وبنية إنسانية مكلفة، وسنوات دراسة وتدريب طويلة، وتمويل مستدام. تقع الجامعات ومؤسساتها الصحية وأطقمها للبحث والتطوير فى قلب ذلك، ونظم التأمين الصحى التى تضمن استدامة التمويل.
قال لى الشاب خريج كلية الطب: هل تتصور يا دكتور أن أوائل الدفعة لا يريدون وظيفة فى الجامعة الآن، ويهربون من التعيين فى وزارة الصحة، والأغلبية تبحث عن السفر لأوروبا وأمريكا.
قلت: أعلم ذلك، مع أن العمل فى الجامعة أو فى وزارة الصحة يُكسب الخبرات ويفتح طرق التفوق والحصول على الشهادات العليا ثم التعيين كأعضاء هيئات تدريس أو استشاريين، مما يرفع القامه ويزيد الشرف.
ضحكت زميلته وقالت: الزمن اختلف يا دكتور.. ما نلاقيه من معاملة غير منصفة من أهالى المرضى والإعلام بلا تقدير لساعات عملنا غير الإنسانية أو مرتباتنا الهزيلة التى لا تفتح بيوتا ولا تسمح ببدء الحياة..
.. جعل ما كان مطلبا وغاية، رفضاً وهروباً من صغار الأطباء.
قال أحد الزملاء: قرأت عن عضو برلمان يهاجم الأطباء فى مكان عملهم متهما إياهم بالتقصير، وقبلهم رؤساء أحياء، ومحافظين. فهل كل هؤلاء ظالمون؟
قلت يا صديقى ما لا تعرفه أن الأطباء يلاقون الأمرين من نقص مستلزمات، يشترونها فى أحيان كثيرة من أموالهم، وساعات عمل متصلة وأعداد كبيرة من المرضى وعليهم مواجهة جمهور غاضب يحّمل الطبيب أحياناً ما لا ذنب له فيه، لوفاة قريب أو نقص إمكانات أو حدوث مضاعفات يقبل بها العلم والمهنة.
قال: ألا تدافع عنهم نقابة الأطباء وترعاهم؟!
قلت: النقابة، كما أرى، يدها مغلولة، ويوجد برود بينها وبين وزارة الصحة. لا خطاباتهم يُرد عليها، ولا اقتراحاتهم تناقش، ولا تدخلهم تعطيه الدولة أهمية. وهى النقابة التى تمثل المهنة..
قال: هى نقابة إخوانية ولا إيه؟
قلت: لا، بل تيار مدنى معتدل..
قال واحد من أطباء الحالمين بالغد: ساعات أحس أن هناك جهات فى الدولة لا تفضل التعامل مع التيار المدنى المعتدل الذى يتوافق ويختلف أحيانا ويحتاج إلى مجهود وثقافة فى الحوار والإقناع ويستسهلون التعامل من يمكن إتهامهم ، يا دكتور أري أن جزء من ضعف إدارة الدولة هو عدم تحمل الإختلاف في الرأي ، وتقسيم الناس الي موالين وشبه خدم ومعادين وشبة خونة
قلت: النقيب أستاذ محترم مرموق ومنتخب بجدارة مرتين وقبلها عميد لكلية طب قصر العينى، ومجلس إدارة النقابة معه يمثلوننى وكل طبيب فى مصر. احترام النقابة من احترامنا كمجموع أطباء مصر ولا يعقل عدم التعاون معهم.
وأضفت، أتفهم ما تقول يا بني ، وحجة المتطرف دائما مبنية علي عدم القدرة علي الإختلاف وعدم المعرفة التي تسمح بالحوار، ولكننا لنا دور كأطباء ومعالجين أن يتسع صدرنا فما تزال للمهنة إحترامها وسموها.
واستطردت قائلا: فلنكن إيجابيين. الدولة تحتاج أطقما طبية ذات كفاءة وخبرة، فماذا تقترحون؟
قال الطبيب حديث التخرج والشغوف بالبحث والإحصاءات: أزمة نقص الأطباء ليست حقيقية وحلها ليس بزيادة عدد الخريجين، بل فى الاحتفاظ بهم. فالإحصاءات تقول إن لدينا ٣٠ كلية طب بين حكومى وخاص وقوات مسلحة يتخرج فيها ما يقرب من 12000 طبيب سنويا. وعدد الأطباء البشريين وفقا لآخر إحصائيات نقابة الأطباء حوالى 240000، منهم حوالى 130000 طبيب بمصر والباقى خارج مصر نتيجة إعارات أو هجرة، تتزايد بشكل مطرد فى السنوات الأخيرة ولا سيما بعد فتح أبواب دول كثيرة لاستقبال الأطباء المصريين والترحيب بهم، ومعلوماتى أن آلاف فيزات السفر تعطى للأطباء لأوروبا وأمريكا لتغطية احتياجات هذه الدول.
واذا اعتبرنا المعيار العالمى 1.8 طبيب لكل ألف نسمه فإن نسبة الأطباء للسكان فى مصر هى 1.3 طبيب لكل 1000 نسمة، وبالتالى، نسبتنا ليست بعيدة عن المعيار العالمى.
قلت: هذا تعميم قد يخل بنتيجة الإحصاءات لأنه حسب علمى فإن الأطباء بالحكومة (بوزارة الصحة) عددهم وفق آخر إحصاء قرأته وقد يكون قد تغير فيه عجز قدرة حوالى خمسين ألف طبيب.
هذا العجز يتزايد نتيجة هجرة واستقالة عدد كبير من الأطباء فى السنوات الأخيرة كما تقول. إذن عدد الأطباء ليس جوهر التحدى، بل هو نقص عدد الأطباء العاملين بوزارة الصحة هو التحدى.
ثم استدركت قائلا:
- ونقطة مهمة أخرى فى العجز، حيث ينتج من عدم توازن توزيع الأطباء على المحافظات. ناهيك عن غياب بعض التخصصات مثل طبيب الأسرة والتخدير والرعاية المركزة وغيرها..
قال صديقى: إذن هى مسألة إدارة للموارد البشرية.
قلت: قد يكون هروب الأطباء مرتبطا ارتباطا وثيقا بفن الإدارة ولكنه مرتبط أيضا بالعائد المادى والمعنوى وعوامل الجذب المالية والأكاديمية فى العالم. فمن غير المعقول أنه بعد 15 عاما من الدراسة والتدريب والجد يكون مرتب طبيب الامتياز 2200 جنيه بالشهر وحوالى 3000 جنيه للطبيب المقيم، وأن تكون بيئة العمل والسكن المتاحة لهم غير ملائمة فى المحافظات، إلا أننى يجب أن أشهد أن هناك اهتماما بدأ يظهر قبل وازداد بعد أزمة كورونا.
- وأضفت: وفى رأيى أن التقدير المعنوى للطبيب وحمايته هو العنصر الأكثر تأثيرا، وغيابه قد يكون سببا مباشرا لفهمنا هجرة الأطباء وتركهم عملهم. لقد لاحظنا قبل أزمة كورونا كم الاعتداءات المتكررة والضرب والإهانة للأطباء والاعتداءات على المنشآت الصحية اليومية دون رادع وهو ما يؤلمنى ويحزننى.
قال صديقى: لقد سمعتك أكثر من مره تتكلم عن تغير دور وزارة الصحة عما كان، فماذا كنت تقصد؟
قلت: إن الوزارة عليها قيادة تقديم خدمات الرعاية الصحية الأولية، من خلالها أو بالشراكة مع القطاع الخاص، على أن يتحمل التكلفة نظام التأمين الصحى. الدولة هى منظم تقديم الخدمة وليس مقدمها، وراعى الجودة وواضع معاييرها، وجامع البيانات ومحللها ومنفذ سياسة الدولة المعلنة، وكذلك المسؤول عن الصحة العامة، والغذاء الصحى والبيئة، ومقاومة الأمراض المتوطنة والأوبئة والأمراض المزمنة والمحفز للحياة الصحية للمواطنين. الوزارة هى عقل الدولة فى رعاية المواطنين الصحية، وقد نجحت أخيرا فى التخلص من فيروس سى الكبدى الوبائى، كما نجحت عبر التاريخ فى تخلص البلاد من البلهارسيا، وشلل الأطفال، والسل الرئوى وغيرها من الأمراض المتوطنة، وكان برنامجها فى تطعيم الأطفال ناجحا ومؤثرا فى تقليل نسب وفيات الأطفال وزيادة متوسط عمر المصريين إلى 72 سنة بزيادة تصل إلى 20 سنة عما كان فى الخمسينيات. هذا إنجاز تراكمى للدولة يستحق الإشادة، بأيدى أطبائها وأطقمها الصحية..
قالت الطبيبة الشابة: وما هو رأيك فى زيادة عدد الأطباء بتخريج دفعات استثنائية أو تحويل الصيادلة إلى أطباء بشريين لتغطية النقص الناتج من هروب الأطباء وليس النقص المطلق فى عددهم..
قلت: إن تخريج دفع استثنائية من كليات الطب يمثل واقع تفكير وفلسفة لا أفهمها، وليس لها مثيل. الطبيب لكى يكون مؤهلا لتقديم الخدمة الصحية يحتاج على الأقل لعشر إلى اثنتى عشرة سنة من التعليم والتدريب والممارسة تحت إشراف. ولا يعنى تخريج دفع استثنائية إلا تخريجهم قبل اكتمال تعليمهم أو تدريبهم مما سيمثل كارثة. أما تحويل الصيادلة إلى أطباء فهو ممكن ولكنه يحتاج إلى نظام دراسى جديد، ولا أفهم أن صيدليا ناجحا سيترك مهنته المحترمة التى يتكالب عليها الشباب، ليقضى أربع سنوات جديدة فى تعلم مهنة الطب البشرى. إن هذا تصور ساذج إلا لو كان المقصود زيادة عدد الصيادلة الإكلينيكيين، وهو تخصص صيدلى وليس تحويلا إلى طبيب بشرى.
ولكن الممكن الآن هو التوزيع المتزن للأطباء على البلاد، باستخدام المحفزات وليس الجبر والإهانات.
إن كنا ننوى الإصلاح، فالعامل البشرى فى الرعاية الصحية من أطباء وتمريض ومهنيين ومديرين هو الهم الأكبر. يا أولادى هذه أعظم مهنة وأجدرها بالاحترام والتقدير. مهنه الرعاية بالبشر المتكاملة أركانها بأجنحة التمريض والعلاج الطبيعى والصيدلة الإكلينيكية والبحث العلمى الطبى والخدمات المساعدة والمساندة لمهنة الطب والحكماء..
هذا وقت التكاتف بين أجهزة الدولة وممثلى خدمات الرعاية الصحية وليس وقت الخلاف. هذه دعوة منى للجميع أن نستمع لبعض لأننا شركاء الوطن.