الخميس , 21 نوفمبر 2024
Home / بقلم د حسام بدراوي / بعد 25 يناير / أكتوبر.. درس الماضى لبناء المستقبل

أكتوبر.. درس الماضى لبناء المستقبل

أكتوبر.. درس الماضى لبناء المستقبل
حسام بدراوي
كعادتى فى شهر أكتوبر أتواصل مع شباب الحالمين بالغد، ومنهم شباب أسرتى والعاملون معى فى جمعياتى الأهلية، وبالذات جمعية تكاتف والتعليم أولا، وجمعية نشر الثقافة والمعرفة، بالإضافة إلى طلبتى فى الجامعة.
فى حوارى الأخير معهم على زووم والذى تكلمنا فيه عن نصر أكتوبر العظيم قلت لهم: إن يوم السادس من أكتوبر هو أعظم أيام حياتى، لأن من لم يعش مهانة هزيمة (٦٧) لا يستطيع تذوق جمال وأثر وقيمة (٧٣).
كنت فى بكالوريوس طب القصر العينى، وكل واحد فينا كان له أخ أو أب أو صديق أو قريب فى الجيش يحارب من أجل كرامة البلاد. كنا نتجمع حول الراديو تقشعر منا الأبدان ونحن نسمع البيانات العسكرية الرزينة الحقيقية، على عكس ما كان يحدث فى ٦٧. تعلم الإعلام من أخطاء الماضى وكان صادقا مع الشعب، وتعلم قادة البلاد من الشعب المصرى العظيم وكانوا على مستوى المسؤولية.
قال لى واحد من الشباب الذين ولدوا بعد هذا اليوم بأكثر من ثلاثين عاما:
مش قوى كده يا دكتور حسام، هناك كتب ومقالات تقول إن مصر لم تنتصر فى هذه المعركة أساسا. نُصدق من؟!.
وقال آخر: ما أنتم قلتم كذلك على حرب (٥٦) وظهر فى الآخر أنه لم يكن نصرا، وأن إسرائيل احتلت سيناء بعدها لولا تدخل الولايات المتحدة، وإجبارها على الانسحاب.
قلت: هذا كلام غير صحيح، لأن المعركة الحربية تُعرف نتائجها بمن فرض إرادته على الآخر. فى (٥٦) مصر فرضت إرادتها على إنجلترا وفرنسا وإسرائيل، وكل بلد يستخدم ما لديه من جيوش ودبلوماسية لتحقيق الغرض.
مصر فى نهاية الحرب فرضت سيطرتها على قناة السويس واستعادت سيناء، إذن نتيجة الحرب كانت انتصارًا لمصر، واستقالة لرئيس وزراء بريطانيا العظمى.
أما فى (٧٣)، فقد كنا نعتقد أساسا، والعالم كله يؤكد، استحالة عبور قناه السويس واختراق خط بارليف، الذى أعتُبر فى وقتها أقوى خطوط الدفاع فى تاريخ الحربية العالمية، مع تفوق تكنولوچى واستراتيچى للطيران الإسرائيلى. لقد كان إيمان العالم بأن هذا وضع نهائى لن يتغير.
ماذا حدث فى النهاية هو عبور قواتنا بتنظيم وقيادة حكيمة، وتغيير الوضع العسكرى المستقر، ثم التفاوض من وضع القوة وليس الهزيمة.. كل ما حدث بعد ذلك هو فتح قناة السويس للملاحة العالمية، وعودة أهالى بورسعيد والإسماعيلية والسويس المهجرين، واستعادة سيناء.
حرب أكتوبر كانت جزءا من استراتيچية متكاملة لاستعادة الكرامة والأرض، بتوافق العمل العسكرى مع الدبلوماسى والقانونى لاسترجاع آخر نقطة فى طابا، وأصبحت سيناء كاملة فى حيازة مصر مرة أخرى.
قالوا: ولكنه تم تحديد عدد قواتنا فى سيناء واستعادة سيناء بهذا الشكل كانت تعتبر منقوصة.
قلت: أنا وأنتم نذهب لطابا وشرم الشيخ وسانت كاترين وكل شبر فى سيناء، وإلى أن بدأ الإرهاب الإخوانى الداعشى بعد ٢٠١١ كنا نذهب للعريش ونجول فى سيناء كما نريد.
كل مكسب له ثمن، ولابد أن نفهم ذلك وندرك أن الجولان لاتزال تحت الاحتلال المطلق بعد حوالى خمسين سنة، وأن الضفة الشرقية كذلك. بل إن إسرائيل بصفاقة أعلنت ضم الجولان إليها، وبدأ العالم يعترف لإسرائيل بملكيتها وها هى أمريكا تعلن ذلك أيضا.
لا تجعلوا المُحبِطين الذين لا يرون سوى الهزيمة ينقلون إليكم طاقتهم السلبية.. مصر انتصرت، حرباً وتفاوضاً، وغَيرنا واقعا جغرافيا وتاريخيا كان من الممكن أن يصبح أمرا واقعاً إلى الآن.
قالوا: نحن نشك فى الحقيقة من كثرة المزايدات حول الأحداث التى نعيشها فكيف بأحداث الماضى؟!.
قلت: معكم حق، وعليكم واجب.
أنا أتفق معكم أن المزايدات الإعلامية والنفخ فى الانتصار وتخبئة الأخطاء وكأننا ملائكة وسوبرمان تشكك فى الحقائق.
بل إن بعض الطرح الذى كَيف النصر وأرجعه إلى ملائكة نزلت لتقف مع الجيش وكأن جلال النصر يعود لغير ضباط خططوا وجنود نفذوا وشعب أفرز أفضل ما فيه ليحقق نصرا.
واجبنا أن نبحث أيضاً، ونقرأ مذكرات أبطالنا وأعدائنا ونُعمل عقولنا. الحق أن جيشنا وشعبنا انتصرا بعد هزيمة، وأننا لم نستسلم، واستعدنا الأرض بعد (٦) سنوات من الاحتلال الإسرائيلى، وكرر الشعب موقفه الحضارى برفضه الاحتلال الإخوانى للبلاد بعدها بأربعين عاماً فى ٣٠ يونيو وكنا نظنه أبدياً لا قدر الله.
الحقيقة أن الجيش استعان بالمؤهلات العليا من المجتمع المدنى فارتفع مستوى أدائه، ودخل العلم جنباته، وأن الشعب بالرغم من قلقه، ونفاد صبره، وهجرة ربع سكانه داخلياً ساند جنوده وغالب آلامه وانتصر.
إننى أود أن أذكر لكم مره أخرى أن يوم (٦) أكتوبر هو أعظم يوم فى حياتى فعلاً، حيث فوجئنا بأن جيشنا يعبر ويحقق نصراً، وشعورى بالفخر والزهو لا أنساه. الكل تطوع على قدر قدراته ومصر انتصرت فعلا.
قال شاب آخر: هل تصدق يا دكتور أن كثيرا من زملائنا لا يعرفون حتى خريطة الأراضى التى مازالت تحتلها إسرائيل.
قلت: ملحوظتك جعلتنى أذكركم أننى كلما قرأت بيانا بالأراضى العربية التى لاتزال تحت الاحتلال الإسرائيلى أجدها تتناقص فى ذاكرة الإعلام اليومى والدورى، فلم يعد يُذكر سوى الضفة الغربية، أما الجولان، ومؤخراً القدس كلها، ومنابع نهر الأردن وقرى من جنوب لبنان وباقى قرى ووديان فلسطين التى توسعت وتتوسع عليها المستوطنات الإسرائيلية- أقول تكاد- تسقط من الذاكرة الإعلامية للأسف، بل إن هناك تقسيماً يحدث فى سوريا نفسها ما بين تركيا وإسرائيل والتقسيمات العرقية. لقد ابتعدت الجولان من مرمى البصر وكان ممكن أن يحدث ذلك لسيناء أيضاً.
إن من عاش ويتذكر أكتوبر ٧٣ لابد أن يكون الآن عمره فوق الخمسين عاما، ويجب أن يكون تدريس حرب أكتوبر فى مناهج التعليم مبنيا على رؤية علمية وليس اجتهادات كلامية بمزايدات تجعل الطلبة لا تصدق الحقائق بعد ذلك.
هناك بطولات لا يُحكى عنها كثيرا، كبطولة الشعب المصرى الذى عاد جيشه مهزوماً هزيمة قاسية ومذلة فى ٦٧، مما اضطر رئيس البلاد للاستقالة كنتيجة للفشل. لم يقبل الشعب الاستقالة، تأييداً للشخص، كما رأيتها فى ذلك الوقت، بل كرمز لعدم قبوله الهزيمة.
وأتذكر نكتاً واستهزاءً بالجيش المصرى فى العالم كله، والبلاد العربية، بل أصبح الزى العسكرى المصرى مجال الاستهانة بالقول والفعل، مع مذلة هجرة مواطنين يعيشون على خط القناة إلى داخل البلاد بالملايين.
هنا ظهر معدن حضارى للشعب المصرى الذى قاوم الموجة السلبية الموجهة إلى الجيش ورفع روحه المعنوية، واشترك كل صاحب شهادة متعلم فى الجيش بدون معرفة وقت خروجه للحياة المدنية وتقبل الشعب مهاجرى وطنه، فى منازلهم ومدارسهم، وأعاد هذا الشعب لجيشه هيبته ومقامه.
هذه معركة لا يتكلم أحد عنها ولا توجد لها ذكريات.
شعب مصر أحيا جيشه بعد الهزيمة وجيش مصر أحيا شعبه بانتصاره فى أكتوبر.
علينا أن نعلم أن هناك دروسا مستفادة نتذكرها ونذكرها فى أكتوبر.
أولها: أن الجيش والشعب منظومة واحدة، ولولا مساندة المجتمع المدنى لقواته المسلحة ما كان النصر، وكل محاولات تقسيم البلاد بفصل الجيش عن الشعب وتقسيم الشعب إلى فئات أيديولوچية ودينية وجغرافية ستفشل بالوعى الحضارى لهذا الشعب العظيم.
ثانيها: أننا لو كنا دخلنا حرب أكتوبر بدون تغيير جوهرى فى مفهوم إدارة المؤسسة العسكرية، والتنسيق بين المدنية والدبلوماسية والعمل الحربى، ما كان النصر. لقد تعلمنا، وقتها، أنه لا يمكن تكرار فعل نفس الشىء بنفس الطريقة وانتظار نتائج مختلفة، فتغير مفهوم العمل العسكرى الذى قاد للهزيمة إلى مفهوم جديد قاد للنصر.
ثالثهما: أنه لا نصر بدون أخطاء وتضحيات، وما لا يُوثق فكأنه لم يكن. وكما نحلل الهزيمة علينا أن نحلل النصر. كانت هزيمة ٦٧ قاسية قاسية قاسية، ولكن حدث التغيير وتراكمت الخبرة ليحدث نصر ٧٣.
عندما حدثت حرب ٦٧ كنت فى الثانوية العامة، وكنا كشباب تحت إحساس كاذب بالقوة وفى انتظار دخول تل أبيب فى نهاية يوم ٥ يونيو. خَدعنا النفاق للسلطة، وخَدَعنا الخوف من إبداء الرأى الحر، وكان الشعب فى حالة سبات، ونشوة كاذبة إلى أن أفقنا وجيشنا يعود هرباً، والعدو فى سماء القاهرة.
درسٌ لا أنساه، خلق فى وجدانى السياسى رفضاً لأحادية الفكر، أو تصديق ما ليس له برهان. خلق فى تركيبتى العقلية رفضا للنفاق ورغبة فى الشفافية والإفصاح.
يا أولادى درس أكتوبر كبير ويمكن تطبيق نتائجه اليوم بالإصرار على تعدد الآراء، وحرية الإعلام، واحترام الاختلاف الذى يُظهر الحقيقة، والبناء لا الهدم، والإيجابية، والعمل كفريق، والاستفادة من طاقات كل الشعب.
كل أكتوبر وأنتم بخير.

التعليقات

التعليقات