الخميس , 21 نوفمبر 2024
Home / بقلم د حسام بدراوي / بعد 25 يناير / أين نحن من تاريخ المستقبل

أين نحن من تاريخ المستقبل

أين نحن من تاريخ المستقبل
إن الوضع السياسى والاجتماعى والتقنى فى آخر عقد من القرن العشرين وأول عقدين من القرن الواحد وعشرين يبدو وكأنه فوز ساحق للتوجه الغربى نحو الليبرالية، ورأسمالية السوق وحقوق الإنسان فى معركة استمرت قرابة أربعة عقود بعد الحرب العالمية الثانية ضد الأيديولوجية الفاشية والشيوعية.. ولكن بعد خيال نهاية العالم بهذا النصر، ظهر أن الليبرالية الغربية تحولت دون وجود المضاد إلى وحش كاسر يرسم خريطة استعمارية جديدة، وتعانى داخليًا من وجود أزمات وتحولات متقاطعة وفقدان للمصداقية.
ويبدو لى أن ثورتى «تكنولوجيا المعلومات» و«التكنولوجيا الحيوية»، هما الآن أعظم تحديات الجنس البشرى منذ وجوده، وأعظم فرصة له فى نفس الوقت.
ويبدو لى أن احتمالات دمج تكنولوجيا المعلومات والتكنولوجيا الحيوية- كما قرأت وسمعت ورأيت أخيرا- قد تؤدى فى المستقبل القريب إلى خلق إنسان سوبر بقدرات فوق بشرية، مع إخراج مليارات الأشخاص من أسواق العمل، وتقويض مزعج للحرية والمساواة.
بل يمكن لهذا التطور باستخدامات الذكاء الاصطناعى وخوارزميات البيانات الضخمة خلق ديكتاتوريات رقمية لم يعرفها البشر من قبل، مع تركيز القوة فى أيدى نخب صغيرة عابرة للحدود التقليدية للدول بشكلها التاريخى، بينما سيعانى معظم مواطنى العالم من الاستغلال أو يتم إلقاؤهم فى سلال المهملات.
وأثناء نمو هذا التحول، وحتى يتحقق، ما زال السياسيون يدورون فى أرضية صراعات القرن العشرين ومحاولة رسم أوضاع جيوسياسية تتناسب مع تمسكهم بالقوة كما اعتادوها.
هكذا أرى الأزمة الحالية بين روسيا وأوكرانيا وأوروبا والولايات المتحدة حول استدامة النظام الذى تم تشكيله بعد انهيار الاتحاد السوفيتى خلال التسعينيات، والذى لم يكن لروسيا أى اعتبار فيه. ومنذ وصول الرئيس الروسى فلاديمير بوتين إلى السلطة، كانت روسيا تتحدى هذا النظام بأشكال مختلفة بهدف الاعتراف بحق موسكو فى مجال المصالح المتميزة فى فضاء ما بعد الاتحاد السوفيتى.
اتخذت روسيا أخيرًا خطوة أخرى بتهديد بغزو أكثر شمولًا مما حدث من قبل لأوكرانيا، وهو غزو من شأنه أن يُقوض النظام الأوروبى الحالى، ويحتمل أن يعيد تأكيد تفوق روسيا التى تصر على أنه «شرعى»، لتأكيد مكانها فى القارة الأوروبية وفى الشؤون العالمية بالطريقة التقليدية.
فى اعتقادى أن بوتين يستغل هذا الوقت، نظرًا لضعف الولايات المتحدة وتدهور قدرتها على اتباع سياسة خارجية متماسكة. لقد جعلته العقود التى قضاها فى المنصب أكثر تأكدا بشأن عدم استدامة الولايات المتحدة فى السلطة الدولية، حيث يتعامل بوتين الآن مع الرئيس الخامس للولايات المتحدة، وقد أصبح يرى واشنطن كمحاور غير موثوق به.
إن العنصر الأساسى فى عقيدة بوتين هو جعل الغرب يتعامل مع روسيا كما لو كانت الاتحاد السوفيتى القديم، قوة يجب احترامها وعمل حساب لها، مع حقوق خاصة فى جوارها وصوت فى كل قضية دولية جادة وعكس عواقب الانهيار السوفيتى وإعادة التفاوض بشأن التسوية الجغرافية التى انتهت إليها الحرب الباردة.
فى رأيى أن بوتين يؤكد أنه يجب على الغرب أن يدرك أن روسيا تنتمى إلى مجلس الإدارة العالمى، بعد ما صوره بوتين على أنه إذلال التسعينيات، عندما أُجبرت روسيا الضعيفة إلى حد كبير على الانضمام إلى أجندة وضعتها الولايات المتحدة وحلفاؤها الأوروبيون.
.. ولكن هل مجلس إدارة العالم فى ظل ما ذكرته فى بداية المقال سيعتمد على نفس ركائز القرن العشرين؟!.
على الأقل، هناك مساحة زمنية لابد من ملئها قبل الانتقالة النوعية لحكم الديكتاتورية الرقمية التى ستتحكم فى العالم قريبًا.
إن قدرة موسكو على تهديد جيرانها عسكريًا تمكنها فى ظل متغيرات اللحظة من إجبار الغرب على الجلوس إلى طاولة المفاوضات، كما كان واضحًا جدًا فى الأسابيع القليلة الماضية.
يصف بوتين الانهيار السوفيتى بأنه كان «كارثة جيوسياسية كبيرة فى القرن العشرين»، ويأسف لحقيقة أن 25 مليون روسى وجدوا أنفسهم خارج روسيا، وانتقد بشكل خاص حقيقة أن ١٢مليون روسى وجدوا أنفسهم فى الدولة الأوكرانية الجديدة. كما كتب فى مقال مؤلف من خمسة آلاف كلمة نُشر فى الصيف الماضى بعنوان: «حول الوحدة التاريخية للروس والأوكرانيين» يؤكد فيها أن مواطنين روسا وجدوا أنفسهم بين عشية وضحاها وقد حُرموا من وطنهم التاريخى، وكتب بوتين أن أوكرانيا تتحول بواسطة الغرب إلى «نقطة انطلاق ضد روسيا».
وتُعتبر مقالة بوتين التى وُزِعت على الجيش الروسى بمثابة حشد نفسى للغزو المنتظر.
تعتقد موسكو أن التصور الذهنى الذى وضعه الغرب فى العقل الجمعى الدولى شاملًا الشعب الروسى نفسه هو ضعف روسيا، وأن ذلك له صدى لدى سكان البلاد وهو ما يجب أن يتم تعديله، وأن لروسيا حقًا فى مجال المصالح المتميزة فى فضاء ما بعد الاتحاد السوفيتى.
من ناحية أخرى، تسعى إدارة الرئيس الأمريكى جو بايدن جاهدة لإصلاح التحالف الأوروبى الذى أضعفته سياسة الرئيس ترامب بحماقة.. لكن هناك ما يكفى من الشكوك داخل أوروبا حول استمرارية التزام الولايات المتحدة بعد عام ٢٠٢٤، حيث وجدت روسيا بعض النجاح فى تعزيز الشكوك والتأكيد على أن الدول التى تعتمد على مساندة الولايات المتحدة هى فى الحقيقة واهمة، فالولايات المتحدة تتخلى عن حلفائها ببساطة، وبالعربى الدارج: (المتغطى بالولايات المتحدة عريان).
إن الهدف النهائى هو التخلص من النظام الدولى الليبرالى القائم على قواعد ما بعد الحرب الباردة، والذى روجت له أوروبا واليابان والولايات المتحدة لصالح نظام أكثر ملاءمة لروسيا.
بالنسبة لموسكو، قد يشبه هذا النظام الجديد تحولًا إلى تجسيد جديد لنظام ثلاثى القطبية، يُقسم فيه العالم إلى مناطق نفوذ ثلاثية الأقطاب: (روسيا والولايات المتحدة والصين)، وقد يكون التقارب المتزايد بين موسكو وبكين معززًا بالفعل للدعوة إلى نظام جديد تمارسان فيه نفوذًا أكبر فى عالم متعدد الأقطاب.
إننى أعتقد أن أكبر الخاسرين تاريخيا بسقوط الاتحاد السوفيتى وتحلل دُوله وانفصالها واختفاء العالم مزدوج القطبية كان العالم الثالث النامى. إن تَفَرُّد الولايات المتحدة بالسلطة العسكرية والاقتصادية والسياسية جعلهم مع الغرب متغطرسين بشكل فج، بل أصبح عندهم حرية التصرف فى بلاد متعددة، انتهت بتمزيق العالم العربى وتفككه، وهو ما كان لا يمكن أن يحدث فى ظل ثنائية القطبية.
الولايات المتحدة والغرب الأوروبى أساءوا استخدام سلطتهم المطلقة على العالم (كما يحدث من الأفراد عندما تكون لديهم سلطة مطلقة)، وأعادوا رسم الخرائط الاستعمارية القديمة بشكل جديد، وقلبوا نظم الحكم، واعتبروا دمار الشعوب فى العراق وسوريا وليبيا وأفغانستان.. وغيرها، والانهيار السياسى فى مصر وتونس مجرد آثار جانبية لمشيئتهم فى توزيع الثروة، ولرؤيتهم المقصورة على تركيب الإسلام السياسى، (المعتدل فى قولهم) المتحالف معهم، على الحكم فى بلاد كانت على منصة انطلاق اقتصادى فى العراق ومصر وتونس، رغم التأخر فى التنمية السياسية التى كان من الواجب الضغط لإحداثها، ومساندة الشعوب فى إنفاذها وليس تفكيك الدول وإرغامها.
إن ظهور الصين كقوة اقتصادية جبارة، وظهور روسيا كقوة عسكرية متمكنة، قد يقسمان العالم إلى أقطاب ثلاثة فعلًا.. وهو فى رأيى فى صالح الدول النامية وإفريقيا.
أما الفرصة الحقيقية لنا فهى فى إمكانية المشاركة فى النظام الذى سينشأ قطعًا بعد مرحلة العالم ثلاثى الأقطاب بشكله التقليدى إلى عالم السيطرة التكنولوجية ودمجها بالتكنولوجيا الحيوية.
علينا أن نستفيد من الوضع الدولى الحالى والمستقبلى، ولا نبتعد عن التأثير فى الأحداث، مما يستدعى العمل بجدية فى بناء الإنسان المصرى القادر على المواجهة والانتقال إلى الحداثة، بل إلى مرحلة ما بعد العالم ثلاثى القطبية، الذى لن يستطيع الصمود طويلًا أمام ثورة التكنولوچيا وبداية تحكم فئات وأفراد فى حياة البشرية، وإلا سنخرج من تاريخ المستقبل.
نعم.. تقليديًا، علينا أن نعلم أن مصر القوية داخليا اقتصاديًا، والمتماسكة اجتماعيًا، والمؤثرة عسكريًا، هى التى تستطيع أن تؤثر فى الأحداث ولا تكون مجرد رد فعل لما يحدث حولها.
والأهم هو مصر المستعدة رقميًا وتكنولوجيًا، لتكون جزءًا من مستقبل يتكون الآن.
أنا أرى أن الخطر الحقيقى على مصر يأتى من عدم أولوية بناء الإنسان تكنولوچيًا ومعرفيًا وثقافيًا. إن الاستثمار فى البشر هو الأمل، وبناء البنية التحتية التكنولوچية هو الأهم، لنكون من صناع مستقبل البشرية، وإلا ستكون سلة المهملات هى مكاننا.
رابط المقالة
http://www.almasryalyoum.com/news/details/2521635

التعليقات

التعليقات