الأمل فى العمل للمستقبل
حسام بدراوي
إننى أرى جهودا عظيمة وعملا جادا لإصلاح حال البلاد والنهوض بها وبشبابها. ولكن المستقبل يعتمد على بناء الإنسان القادر على صناعته والحفاظ عليه. ومدخل التأثير على عقل ووجدان الأطفال والشباب هو التعليم والثقافة فى المؤسسة التعليمية وداخل الأسرة، لذلك أوجه مجموعة مقالاتى التالية إلى هذا الهدف، واضعا تجربتى وخبرتى فى خدمة بلادى.
إن مقومات نجاح أى سياسة تعليمية يجب أن تعتمد على عدد من الأسس، من أهمها أن التعليم والتعلم عمليتان مستمرتان تبدآن من المولد وحتى نهاية الحياة. إلا أن التعليم النظامى يمثل أهم حلقاته ويؤدى الدور الرئيسى فى إكساب الفرد مهارات الاتصال ومعرفة اللغة والرياضيات والفنون والحاسب الآلى والقدرة على الحصول على المعلومة والتعلم الذاتى، والسلوكيات المتصلة بكل ذلك والقدرة على التكيف مع متغيرات المستقبل.
إن تطوير التعليم عملية هادئة ومتدرجة، ولا ينبغى إحداثها بصورة مفاجئة، ومن الضرورى أن يُمَهد لها بين المنفذين والمستفيدين، إلا أن ذلك لا يجب أن يعوق أهمية سرعة الحركة فى تغيير سبل الإدارة المركزية، والمناطق التعليمية والمدارس، وتحديث أساليبها وتطوير وتعديل مسؤولياتها. (اللامركزية).
كذلك فإن تطوير التعليم فى المجتمع المصرى لا ينبغى أن ينعزل، بأى شكل، عما يحدث من تطوير فى نظم ووسائل التعلم فى العالم كله.
وعلينا أن نتذكر أن المدرسة مازالت هى وحدة التعليم الأساسية، والمعلم هو خليتها الحية، وإدارتها هى جهازها العصبى، وأى تطوير لابد أن يعتمد على إعداد المعلم، حيث إنه هو صانع التطوير الأول، وهو وسيلته ولابد من إعادة النظر فى أحواله الاجتماعية والمادية والعمل على رفع مكانته الأدبية فى المجتمع.
تقول الحكمة إنه «لا يرقى مستوى أى تعليم فى أى أمة فوق مستوى مدرسيه».
.. كل نجاح لابد له من استراتيجية، وفى الأمم كثيرة عدد السكان مثل مصر، فلابد من التطبيق التدريجى، وتحقيق حجم حرج من الإنجاز له قوة ذاتية محركة لباقى المجتمع تجعله راغباً فى نفس النجاح. ولابد من حماية التطوير التدريجى تشريعيا.
أحيانا تخلق المجتمعات تحديات لنفسها، وتغرق فيها، وتستهلك طاقة الدولة، ومنها تحدى عنق زجاجة التعليم الثانوى، ويرتكز التغلب عليه، فى رأيى، فى توفير أماكن لجميع الطلبة فى التعليم العالى وجعل العرض أوسع من الطلب ولنا فى هذا توجه واستراتيجية تحفظ حقوق الشباب فى التعلم.
وحتى تتحقق رؤية تطوير التعليم فى مصر، فلابد أن نأخذ فى الاعتبار أهمية التحديد الدقيق لوضع التعليم الراهن بمنظور مقارن بما يدور حولنا على المستويين الإقليمى والعالمى، بصدق، وليس لإرضاء الذات، أو إرضاء القيادة السياسية، وأن يتم ذلك فى إطار من المسؤولية التى تدعمها سياسة تعليمية شفافة معلنة، ومفعلة واقعيا بشكل لا مركزى، فى إطار زمنى معروف مع محاسبية تقييمية بنّاءة من أصحاب المصلحة والإعلام واحترام لقيم متفق عليها تسمح ببناء وجدان سوى لشباب فخور ببلاده ولديه الأمل فى مستقبله.
إننى أؤكد تكرارا على أهمية استدامة الالتزام بمرجعية واستراتيجية معلنة، تتم مراجعتها كل عدد من السنوات. وقد اقترحنا فى رؤية التطوير تشكيل مجلس أعلى للتعليم يضمن استدامة التطبيق مهما تغيرت الحكومات.
وفى إطار هذه الرؤية علينا التحول إلى الرقمية، كمنهج فكرى، متكامل، فى الإدارة والتدريس والتقييم والمتابعة. على الجميع التفكير رقميا والتفاعل رقميا والحصول على المعارف رقميا وإلا خرجنا من المنافسة العالمية.
وحيث إن الامتحانات المركزية تمثل تحديا مجتمعيا فإن استخدام التقييم الطلابى ممكن أن يكون وسيلة لدعم التطوير وليس هدفا فى حد ذاته ولا مشكلة. ويؤكد العلم أن مرتكزات التقييم وفلسفته لا تتغير بتغير وسيلته لأنها تعتمد على معايير عالمية هى:
ـ الصلاحية: أى أن الامتحان يقيس فعلا ما هو مطلوب قياسه وفق المنهج المحدد.
ـ الموثوقية: أى أن الامتحان يعطى ذات النتائج للطلاب حتى إذا تغيرت وسائله.
– العدالة والإنصاف وتكافؤ الفرص.
إننا يجب أن نتجه إلى تحويل تقييم الطلاب إلى أن تكون عملية عادلة وشاملة، تختبر المعارف والمهارات والقدرات، لمرحلة التعليم المدرسى وألا تُكرس ممارسات سلبية مثل الدروس الخصوصية، والغش الجماعى فى الامتحانات للخروج من مأزق علامات التقدير المنخفضة التى تؤدى إلى المقارنة بالآخرين والحكم المطلق بالفشل، أو بتحويل الغش الجماعى إلى ثقافة مجتمعية.
لقد تغيرت النظرة إلى مفهوم التقييم، فأصبحنا نراه على أنه وصف بدلا من قياس للأداء، ملف أعمال بدلا من درجة لقياس لحظى فى زمن محدد، بنائى تشخيصى وليس مُصدر أحكام.
فى حقيقة الأمر أن النجاح فى الامتحانات هو دلالة لنجاح المدرسة والمدرس وليس الطالب، لأن كل التلاميذ والطلاب لديهم القابلية للنجاح إذا تم تعليمهم جيدا.
إن النظام التعليمى المصرى بكل عناصره يعانى من تحديات زادتها أزمة الكوفيد حدة.
ولابد لنا أن نعترف بأن الانتقال من الرؤية والسياسة إلى التطبيق يواجه دائما مستجدات جديدة، وأننا يجب أن نقف أمامها، نواجهها، ونناقشها بالعقل والموضوعية، ساعين إلى تخطيها وصولا إلى النتائج المرجوة منها، وعلينا أن نتشارك مع المجتمع فى فهم هذه التحديات، والثبات على سياسات التطوير حتى يمكن الانتقال من المكان الذى نقف فيه إلى المكان الذى نقصده.
ويأتى فى مقدمة التحديات:
(أولا): ضعف ثقة المجتمع فى مؤسسات التعليم الحكومية الرسمية وظهور نسق لا نظامية موازية للنظام التعليمى خارج المدرسة والانتشار الكبير للدروس الخصوصية.
(ثانيا): ضعف الثقة فى الركن الأساسى للعملية التعليمية وهو المعلم وانخفاض قدره الاجتماعى وتقليص صلاحياته فى تقييم وتقويم التلميذ.
وتجدر الإشارة إلى أن انحسار ريادة المعلم، وتراجع دور المدرسة التنويرى يأتى فى مقدمة التحديات التى يجب مواجهتها.
(ثالثا): انخفاض درجة إتقان اللغات، بما فيها اللغة العربية وضعف المستوى فى الرياضيات والعلوم، وابتعاد الشباب عن التخصص فيهما.
(رابعا): انخفاض حجم الأنشطة الطلابية أو انعدامه فى كثير من الأحوال، بكل ما يحمل من معانٍ سلبية فى بناء الشخصية.
(خامسا): وجود فجوة كبيرة فى مناهج التعليم وعدم ملاحقتها للتسارع الحادث فى المعارف وضرورة الربط بينها وبين احتياجات المجتمع وسوق العمل.
(سادسا): الانتشار الجغرافى غير المسبوق للمدارس فى كل أنحاء مصر، بما فيه من إيجابية الإتاحة، إلا أنه يشكل تحديا كبيرا فى إداراتها مركزيا، وصعوبة بالغة فى الارتفاع بمستواها وتقييم أدائها.
(سابعا): وجود أكثر من فترة دراسية فى حوالى ٢٠٪ من المدارس، وبالتالى انخفاض ساعات التمدرس، وزيادة ظاهرة غياب التلاميذ بشكل ملحوظ خصوصا فى المرحلة الثانوية، مما يهمش دور المدرسة فى بناء شخصية التلاميذ ويهدر القيمة التربوية لوجودها.
(ثامنا): ضغط الامتحانات العامة بشكلها الراهن سواء التقليدى أو ما نتج عنها من أساليب جديدة نظرا لجائحة كورونا وأثر ذلك على الطلاب وعلى الأسرة المصرية، وكونها لا تقيس قدرات التفكير العليا والإبداع وتخلق مناخا اجتماعيا وسياسيا من الغضب والإحساس بالظلم ينعكس على ازدياد فقدان الثقة فى مصداقية المؤسسات التعليمية.
(تاسعا): غياب الفهم السياسى الذى يتعامل مع الزيادة الطردية للقوى المقاومة للتغيير والتطوير، مما يعوق محاولات التقدم فى العملية التعليمية ويُحّمل الوزارة المركزية وحدها مسؤولية إحداث التغيير وإدارته.
(عاشرا): عدم اكتمال البنية التحتية للتحول الرقمى فى التعليم للطلبة فى منازلهم والمدرسين فى فصولهم والإدارة المدرسية البعيدة كل البعد عن الرقمية.
وسيظل العامل البشرى وقصور تدريب المدرسين على التعامل الرقمى سببا رئيسيا فى تأخر حركة التطوير.
إننى أرى أن التباطؤ فى مواجهة تلك التحديات بإرادة قوية ووفق خطة متكاملة معلنة سيؤدى بشكل مباشر إلى التأثير السلبى على حقوق الأطفال والشباب من خلال تهميش أكبر للفقراء، وعدم قدرة التعليم بوضعه الحالى على دعم الحراك الاجتماعى الإيجابى كناتج مباشر أو غير مباشر له.
كما أنه سيؤدى إلى انتقال الفئات الأكثر قدرة ماديا إلى التعليم الخاص والأجنبى، داخل وخارج مصر، مما قد يخلق خللا مجتمعيا وفوارق طبقية كبيرة.
إن تحميل الفئات الأكثر فقرا تكاليف تزيد عن طاقتها فى الدروس الخصوصية، وعدم استفادة مؤسسات التعليم الرسمية من هذا الإنفاق الخاص، يعنى الكثير من الفرص الضائعة، والمجانية غير الحقيقية، والأثر الاجتماعى السلبى على الشعور العام.
السؤال هو: هل نستطيع تخطى كل ذلك؟
والإجابة: نعم نستطيع.
وهذا هو موضوع مقالاتى القادمة.. شاملا التعليم العالى والفنى والأزهرى والبحث والتطوير.
السؤال الأهم هو: كيف وليس فقط ماذا؟