السبت , 21 ديسمبر 2024
الرئيسية / بقلم د حسام بدراوي / بعد 25 يناير / الانتخابات البرلمانية والدولة المدنية الحديثة

الانتخابات البرلمانية والدولة المدنية الحديثة

قال الشاب السياسى: ألا تعتقد يا دكتور أنه آن الأوان لينتقل الحوار إلى الانتخابات البرلمانية التي ستحدث خلال أسابيع وتؤثر علينا لمدة خمس سنوات قادمة؟.

وأضافت زميلته: لقد أنهينا حوارنا الأسبوع الماضى بالرغبة في مناقشة قيم الحرية والعدالة والنزاهة، وهى احتياجات المرحلة الحالية في بناء الوطن والمواطن، ومتشوقون للحوار حول الحريات، وهى واحدة من القيم التي نرى أن جيلكم قد أهدرها!.

قلت: الحرية قيمة كبرى، وقد تكون الأولى في ترتيب القيم، وتحتاج إلى العدالة وتطبيق القانون وإلا انقلبت إلى فوضى تهدم ولا تبنى. والوسيلة التي ابتدعها الإنسان لمشاركة الشعوب في حكم نفسها هي: الديمقراطية وممارسة اختيار الشعب لممثليه.

قال الشاب السياسى: سمعناك تدعو لتحالفات حزبية، بل لاندماجات سياسية، فما الذي يجمع أي تحالف حزبى إن كانت مختلفة في أيديولوجياتها من اليمين إلى اليسار؟

قلت: الذي يجمع التحالف الحزبى الانتخابى هو الإيمان بالدولة المدنية الحديثة، التي أشار إليها الدستور بعد كارثة الحكم الدينى لمدة عام، والذى أسقطه الشعب بإرادته الحرة وتحرُّكه الفعال في ٣٠ يونيو. وتذكروا يا شباب أن دستور مصر يبدأ بهذه العبارة:

«نحن الآن نكتب دستورًا يستكمل بناء دولة ديمقراطية حديثة، حكومتها مدنية».

«يقوم النظام السياسى على أساس التعددية السياسية والحزبية، والتداول السلمى للسلطة، والفصل بين السلطات والتوازن بينها، وتلازم المسؤولية مع السلطة، واحترام حقوق الإٍنسان وحرياته على الوجه المبين في الدستور».

هذه هي مقدمة الدستور والمادة الخامسة منه، والذى وافق عليه الشعب المصرى بأغلبية ساحقة عام ٢٠١٤.

الدستور هو مرجعيتنا، والشرعية هي طريقنا، والقانون هو وسيلتنا.

قالت الشابة المثقفة: وما الدولة المدنية التي تقصدها ويقصدها الدستور؟

وقال زميلها: ولماذا نريد دولة مدنية أساسا، ولماذا نسميها هذا الاسم الذي يجعلها في مقابل الدولة الدينية أو الدولة العسكرية، وهو ما يثير الحساسيات بلا معنى؟!.

قلت: الدولة المدنية الحديثة لها حكومة تحافظ وتحمى كل أعضاء المجتمع بغض النظر عن انتماءاتهم القومية أو الدينية أو الفكرية. وهناك عدة مبادئ ينبغى توافرها في الدولة المدنية، والتى إن نقص أحدها فلا تتحقق شروط تلك الدولة، أهمها أن تقوم تلك الدولة على السلام والتسامح وقبول الآخر والمساواة في الحقوق والواجبات، بحيث إنها تضمن حقوق جميع المواطنين، ليس كهبة من الحاكم، ولكن كحق من واجبه الحفاظ عليه.. ومن أهم مبادئ الدولة المدنية ألا يخضع أي فرد فيها لانتهاك حقوقه من قبل فرد آخر أو طرف آخر. فهناك دوما سلطة عليا هي سلطة الدولة من خلال آليات ناجزة للقانون، والتى يلجأ إليها الأفراد عندما يتم انتهاك حقوقهم أو تُهدد بالانتهاك. فالدولة هي التي تطبق القانون وتمنع الأطراف من أن يطبقوا أشكال العقاب بأنفسهم.

من مبادئ الدولة المدنية الثقة في عمليات التعاقد والتبادل المختلفة، فالدولة المدنية لا يوجد بها تعسف ولا نقض للتعاقدات لصالح فئة عن فئة. وتتميز الدولة المدنية بتكافؤ الفرص بين المواطنين والمؤسسات بأسس معلنة، كذلك الإيمان وتطبيق مبدأ المواطنة والذى يعنى أن الفرد لا يعرف بمهنته أو بدينه أو إقليمه أو بماله أو بسلطته، وإنما يُعرف تعريفًا قانونيًا اجتماعيًا بأنه مواطن، أي أنه عضو في المجتمع له حقوق وعليه واجبات. وهو يتساوى فيها مع جميع المواطنين.

ومن أهم مبادئ الدولة المدنية أنها لا تتأسس بخلط الدين بالسياسة. كما أنها لا تعادى الدين أو ترفضه، بل إن الدين يظل في الدولة المدنية عاملًا في بناء الأخلاق وخلق الطاقة للعمل والإنجاز والتقدم. إن ما ترفضه الدولة المدنية هو استخدام الدين لتحقيق أهداف سياسية، فذلك يتنافى مع مبدأ التعدد الذي تقوم عليه الدولة المدنية، كما أن هذا الأمر قد يعتبر من أهم العوامل التي تحول الدين إلى موضوع خلافى وجدلى، وإلى تفسيرات قد تبعده عن عالم القداسة وتدخل به إلى عالم المصالح الدنيوية الضيقة.. كذلك تتميز الدولة المدنية بمبدأ احترام القانون والديمقراطية، والذى في جوهره يمنع أن تؤخذ الدولة غصبًا من خلال فرد أو نخبة أو عائلة أو نزعة أيديولوجية.

ويتم تداول السلطة فيها في إطار من حرية الفرد في التعبير والترشح والانتخاب، وتوضع كل مؤسساتها في نطاق المحاسبية، وتتوازن السلطات التنفيذية والرقابية والقضائية فيها، فلا تتوغل سلطة على أخرى.

أما لماذا نريد حكمًا مدنيًا بالتعريف الذي ذكرته، فذلك لأن تداول السلطة، والرقابة على مؤسسات الدولة، والتوازن بين السلطات، هو الحامى للأفراد ولحقوقهم المذكورة في الدستور. إن إمكانية تداول السلطة تضع كل حاكم أمام لحظة تركه الحكم وحساب الجماهير. نعم، هناك نظم ديكتاتورية حققت طفرات تنموية، ولكنها الاستثناء، ويوتوبية الديكتاتور العادل الذي رغم دوام حكمه لا تأخذه سَكرة السلطة ويظن أنه فوق القانون غير ثابتة.

قالت زميلتهم: إذن، أي نظام حكم يحقق هذا هو نظام حكم جيد!.

قلت: نعم.

قال آخر: وما المعاكس للدولة المدنية الحديثة؟

قلت: المعاكس للحكم المدنى هو الحكم الدينى الذي يستخدم الدين والعقيدة لتحقيق سلطات سياسية، ولا يعترف بالمواطنة إلا لمن يدين بدينه. هو حكم ديكتاتورى متسلح بالدين..

والمعاكس الثانى هو الحكم الديكتاتورى الذي يتسلح بأيديولوچية إنسانية مفروضة على الشعب، كما كان الحكم الشيوعى الذي فشل فانهار وسقط.

والمعاكس الثالث هو أي نظام حكم ديكتاتورى يتسلح بتخويف الشعب لفرض إرادة فئة منه على الحكم.

ويشترك الثلاثة في شىء واحد هو عدم تداول السلطة سلميا إلا بثورات وانقلابات وهدم واغتيالات.

قالت الشابة المثقفة: هل تتجنب الكلام عن الدولة العسكرية يا دكتور؟

قلت: لا يا ابنتى، إن تعريف الحكم العسكرى ليس من تأليفى، فهو الحكم الذي يتسلم فيه العسكريون السلطات كلها ويوقفون العمل بالقوانين المدنية أو يخضعونها لسيطرتهم. وهو نظام استثنائى تلجأ إليه الدول في حالة الأزمات الطارئة واختلال الأمن، وتقرر فيه حالة الطوارئ بصفة دائمة حتى يزول الخطر عن البلاد، وتمنح فيه السلطة التنفيذية سلطات واسعة حتى يعود الأمن والاستقرار للبلد.

ولكن يوجد تعريف آخر للحكم العسكرى الذي يتلحف بالرداء المدنى. وهو الحكم الذي يمنع المدنيين بشكل مباشر أو غير مباشر من الوصول للحكم، ويجهض العمل الحزبى والسياسى حتى لا تكون للقوى المدنية قيمة في الانتخابات، ويتداخل في الحكم المدنى من خلال التحكم في المؤسسات المدنية، فلا تسير أمور البلاد أو يُتخذ قرار إلا بموافقتهم، ويختل التوازن بين السلطات، وتُهمش كل مؤسسات الدولة.

والخطير أنه بمرور الوقت تصبح حجة البقاء في الحكم وإيقاف تداول السلطة مرتبطة بغياب البديل أو عدم كفاءته، وهو النتيجة الطبيعية لتهميش مؤسسات الدولة المدنية. وكثيرا ما يفقد المجتمع ثقته في المؤسسات المدنية، ويتولد إحساس ويقين بأن المجتمع المدنى رخو بلا نظام ولا يصلح لإدارة البلاد.

قد يحدث كل ذلك في دولة ما أو بعضه، وقد تؤدى الأحداث إليه.. ولكن التاريخ يقول إن جميع النظم الديكتاتورية مهما أنجزت في لحظات، فهى كمن يبنى قصرا من رمل على الشاطئ، تنتهى في الأغلب إلى انتهاكات للحريات أو انقلابات أو حروب أو ثورات أو اغتيالات تهدم ما تم إنجازه، وتعود بالبلاد إلى نقطة الصفر مرة أخرى.

قال الشاب الأول: وماذا عن مصر؟

قلت: إن الوسيلة الوحيدة لاستدامة نجاح نظام الحكم في مصر هي التعلم من الأخطاء بتراكم الخبرات وتداول السلطة، أما مصر الآن فتدخل مرحلة ما بعد السنوات الانتقالية، ونحن في فترة رئاسية دستورية جديدة، سيتجدد أثناءها انتخاب البرلمان، وتطبق فيها إجراءات الانتقال إلى اللامركزية ويتم أثناءها انتخاب المحليات لأول مرة بعد أكثر من عشر سنوات، فإننى بتفاؤل أرى أهمية المشاركة الإيجابية في انتخابات البرلمان ورفع سقف الحريات. وهو ما نؤيده، ونعرضه للاختبار بإعلان تحالف انتخابى في إطار الشرعية والقانون.

إن حرية الترشح، والحق في الاختيار بين البدائل، والتوازن بين السلطات، والمحاسبية هي أساس الحكم الرشيد.

التعليقات

التعليقات