التعليم و فلسفةً العودة للكُتّاب
بقلم
حسام بدراوي
فلسفة التعليم الأساسي ليست مجرد تعليم مبادئ القراءة والكتابة، بل هي بناء الأساس الفكري والإنساني الذي يدعم النمو المتكامل للفرد ليصبح جزءًا من مجتمع عالمي يعزز القيم الإنسانية والتنمية المستدامة.
إن أهداف فلسفة التعليم الأساسي هي
أولاً : تنمية الفضول الطبيعي للطفل و تعزيز الرغبة في التعلم والاستكشاف.
وثانياً اكتساب مهارات التفكير الناقد و تجهيز الأطفال لفهم العالم وتحليل المواقف بذكاء.
واحد من أهم أهداف التعليم الأساسي هو تعزيز مهارات الاتصال والتواصل و تعلم القراءة، و الكتابة والفهم، و التعبير عن الأفكار، والتعاون والعمل كفريق .
التعليم الأساسي يهدف الي بناء الأساس العلمي والأدبي للأطفال و تعليم المهارات الأساسية في العلوم، الرياضيات، الأدب، والفنون.
يأتي غرس القيم الأخلاقية والاجتماعية و إعداد الأطفال ليصبحوا أفرادًا ملتزمين تجاه مجتمعاتهم حيويا في هذه المرحلة العمرية للتعليم الأساسي من خلال المعايشة داخل المؤسسة التعليمية ، باللعب والأعمال الثقافية بين ذوي الأديان المختلفة والبنات والأولاد وقبول الآخر واحترام الإختلاف.
نظام الكُتّاب هو أحد أقدم أنظمة التعليم التي ظهرت في العالم الإسلامي وفي مجتمعات أخرى. ارتكز هذا النظام على تعليم الأطفال القراءة والكتابة وحفظ النصوص الدينية، وكان يُمثل أولى مراحل التعليم الأساسية. تطورت فلسفة هذا النظام لتلبية الاحتياجات الثقافية والدينية والاجتماعية للمجتمع، وتم استبداله بنظم التعليم الأساسي بإشراف وزارات التعليم بنظم عابرة للحدود بمعايير دولية لبناء عقول تستطيع مواكبة المستقبل. .
يمكن تلخيص فلسفة نظام الكُتّاب تاريخياً بالتعرف علي الهدف الأول لهذا النظام في وقته. الكُتّاب كان هدفه ، تعليم الأطفال النصوص المقدسة، خاصة القرآن الكريم، حيث اعتُبر ذلك أساسًا لتكوين الفرد المؤمن الذي يعي تعاليم دينه حيث كان التعليم الديني يمثل جوهر العملية التعليمية.
يركز الكُتّاب على تعليم القراءة والكتابة كوسيلة لتمكين الأفراد من فهم النصوص الدينية، والتواصل مع الآخرين، والمشاركة في الأنشطة اليومية من هذه القاعدة. كان يهدف أيضاً الي تعليم النظام والانضباط من خلال الالتزام بمواعيد الدراسة وطاعة المعلم.
الطاعة كانت فلسفة للكُتاب وكان يعاقب من لا يطيع الشيخ بالتوبيخ و بالضرب أحياناً كثيرة.
تعليم الأطفال اللغة العربية في الكتاتيب كان جزءًا من الحفاظ على الهوية اللغوية والثقافية، خاصة في ظل ارتباطها بالنصوص الدينية.
نظام الكُتّاب كان بسيطًا في بنيته وتنظيمه، حيث لم يتطلب موارد كبيرة. كان يعتمد على جهود فردية من قبل المُعلِّم، وغالبًا ما كان يتم في أماكن بسيطة مثل المساجد أو الزوايا و على الرغم من بساطته، أثبت النظام فعاليته في وقته في تخريج أجيال قادرة على القراءة والكتابة وفهم النصوص الدينية.
بالإضافة إلي فلسفة الطاعة فإن الحفظ الشفهي للنصوص كان منهجًا أساسيًا، حيث ساعد الأطفال على تطوير ذاكرتهم لتكرار النصوص الدينية بمرور الوقت.
كان المعلم ( المؤدب ) في الكُتّاب يُعتبر شخصية هامة في المجتمع، ليس فقط لنقله علوم الدين ، بل أيضًا لدوره في غرس القيم الأخلاقية والاجتماعية كما كان يراها المجتمع في زمانها.
الكُتّاب كان مكانًا لإعداد الأفراد الذين يمكنهم فيما بعد العمل كأئمة، كتبة، أو حتى موظفين إداريين، ولا ننكر أن بعضا من كبار مفكرينا تعلم في الكتاب ولكننا لا نقيس النظام بالفلتات والعباقرة ولكن بعموم الخريجين .
كان الكُتّاب نموذجًا تعليميًا بسيطًا وفعالًا أسهم في محاربة الأمية، وتعزيز الهوية الثقافية من المنظار الديني .
الآن ونحن في القرن الواحد والعشرين ، في عالم تتجدد فيه المعارف كل يوم ، وتتعدد فيه أدوات التعلم ونظم التدريس تطرح الدولة العودة لنظام الكُتّاب ولم نقرأ ولم نشاهد ولم نتعرف علي فلسفة هذا الطرح سوي أن
منهج الكتاتيب المقترح سيكون تحت إشراف وزارة الأوقاف وليس وزارة التعليم!!!
و يقول ممثل وزارة الأوقاف أنهم سيتعاونون مع وزارات أخري!! و سيعلمون الأطفال ، كل القيم التى نص عليها الدين الإسلامي.
في الماضي القريب ، ليس في مصر فقط بل في بلاد إسلامية اخري كان وما زال الكُتّاب حضّانه ايضا لترسيخ مبادئ التطرف الديني ورفض كل ما هو غير إسلامي حسب تعريف الشيخ المعلم ..
الحاضر يقول أن الدنيا تغيرت واحتياجات الأطفال اتسعت وقدرات طفل اليوم أكبر من طفل الأمس لذلكً تغيرت فلسفة التعليم من الحفظ والتلقين
اليً التفكير النقدي والابداع والابتكار.
فلسفة التعلم هي البحث والوصول
اليً الحقيقة والبرهان ، بالشك وليس تصديق ما ليس له برهان لمجرد أن المعلم أو الشيخ أو القسيس يقولون ذلك بل عليهم إقناع التلميذ وتشجيعه علي الاختلاف في الرأي طالما في اطار الاحترام ومن
خلال منهجية علمية.
أن الحفظ والتلقين مرتبط بثقافة التعليم النقلي وقتل ملكات الفكر النقدي وهي أهداف التعليم الحديث.
وفي وقت سابق، وجه الرئيس بالدراسة الدقيقة لمبادرة عودة الكتاتيب وجدوى تطبيقها ومدى تأثيرها في تنشئة الأجيال، واجتمع مع رئيس مجلس الوزراء، و وزير الأوقاف لهذا الشأن ولاحظت عدم تواجد وزير التربية والتعليم ، ولم أستطيع تفسير ذلك لأنه المسئول الحكومي عن التعليم.
تواكب ذلك مع طرح وزارة التربية والتعليم لنموذج تعديل نظام الثانوية العامة والذي لفت نظري فيه ادخال مادة التربية الدينية ب ١٥ ٪ وزن أكاديمي أساسي من الدرجات المؤهلة لدخول الجامعة شاملا كليات العلوم والطب والهندسه وهو ما لم أجد له مماثل في أي نظام تعليمي دولي لهذه المرحلة العمرية.
سألت نفسي كذلك عن أكثر ما يسمعه المسلمون في مصر من رسائل تبني الوجدان وتؤثر ببطء وبالتدريج علي العقل الباطن ووجدت ان خطبة الجمعة هي الأهم والأكثر شيوعاً .
وبحساب بسيط وجدت حسب تصريح وزير الأوقاف ان مصر بها اكثر من ١٤٠ الف جامع وباعتبار أن السنة تحتوي علي ٥٢ اسبوع فان المصريين يستمعون الي اكثر من ٧ مليون خطبة جمعة سنوياًً!!!
ماهي مواضيع الخطب ، وما هي رسائلها الظاهرة والباطنة ومحتواها الذي قطعا يؤثر في الوجدان المصري.
واهم من ذلك من الذي يلقي الخطب ودرجة تعليمه وإيمانه بالمعارف التي تتجدد يوما بعد يوم.
الآن تود الأوقاف نشر ٣٠٠٠ كتّاب في قري ومدن مصر ونحن في القرن الواحد والعشرين لنعود الي فلسفة الحفظ والتلقين في اطار مواز للتعليم النظامي الذي من المفترض انه يجب أن يتطور و يتماشي مع المعايير الدولية للمعرفة والعلم.
أنا مسلم موحد بالله ، ولكني رجل علم ولا أخلط الأمور ببعض.
مشكلتنا أن التيارات الدينية عبر التاريخ، وليست الإسلامية فقط ، في معظمها تتهرب من مواجهة التفكير والنقد وتخلط الإنساني بالإلهي بهدف وأد أي حوار .
أغلبية رجال الدين ، ولا يختلف الإسلامي والمسيحي واليهودي عن بعض ، ومعلميه “لا يؤمنون كثيرًا بقضية الفكر بوصفه فكرًا يؤدي إلى الفلسفة” ومنها الي الألحاد .
كانت صرخة التنوير عبر التاريخ هي ” فلنتجرأ علي التفكير”
و لا يمكن مواجهة التيارات التراثية السائدة والتوجه الديني المتزمت السلفي إلا بالفكر والعلم والبحث والفلسفه.
صارت المظاهر أهم من المشاعر، والأخبار أهم من الأفكار، والنقل أهم من العقل، وصورة الدين أهم من جوهره.
اهذا ما ننوي ارساء قواعده في عقول أطفالنا!!!
إنني أري أن كل ما خلقه الله جميل قبل أن تمسه يد البشر، فقد خرج الدين بدوره من يد الخالق بنحو حسن ثم أفسدته أيادي البشر، أفسده رجاله، حراسه، والناطقون باسمه والمتطلعين للسلطة باستخدام تفسيراته. .
اليوم لا يحتاج الدين إلى التفكير وحسب، بل يحتاج إلى التفكير النقدي تحديدًا، وذلك من أجل إعادة بناء الخبرة الإنسانية من جديد، سواء من حيث العلاقة بالنصوص، العلاقة بالتاريخ، و العلاقة بالحضارة المعاصرة،
نحتاج إلى فكر ديني إنساني يراهن على ما هو إنساني في الإنسان. نحتاج إلى الانتقال من الإسلام التقليدي المنتج للفتن عبر التاريخ ، إلى الإسلام الأصيل المنتج للحضارة والتقدم.
ارجو لمن يقرأ هذا المقال أن يتسع فكره لما أقول قبل القفز الي الاتهامات سابقة التجهيز والارهاب الفكري لكل من يطرح مختلفاً او يقاوم العودة الي الماضي.
إن حماية الإنسان وتعليمه يكمن في ان يصبح ناضجاً، وقادراً على الاعتماد على نفسه، وأن يستخدم عقله للتحرر من المعتقدات الغريزية في الحقائق المعطاة، سواء تلك الغرائز الفطرية التي تشكلت في ميدان المعرفة، أو تلك المستوحاة من عادات السلف . هذه هي وسيلته الوحيدة للحداثة والترقي، فالعقل يستطيع أن يدرك كل أشكال المعرفة، وهذا لا يحدث سوي من خلال التحليل والنقاش والحوار والإختلاف وليس الحفظ والتلقين.