التفكير في حلم العدالة
كنت أقرأ كتاباً بعنوان مشوق ” مُتْ فارغاً”، للكاتب تود هنري يتكلم عن أكثر الأراضي ثروة في العالم ، وينفي أنها بلاد الخليج المليئة بالنفط ، ولا بلاد أفريقيا المليئة بالماس ، ولا البلاد الغنية بالتكنولوجيا ، ولكن الأغني هي المقابر.. لأنها تحتوي علي ملايين البشر الذين رحلوا عن الدنيا وهم يحملون ملايين الأفكار التي لم تخرج الي النور ولم يتم الاستفادة منها.
الكتاب يتكلم عن أن ثروة البشرية هي الأفكار . ويحفز الكاتب كل إنسان أن يُفرغ أفكاره ويوثقها لتستفيد منها مجتمعاتهم ، وتحويلها لشئ ملموس قبل فوات الأوان وقبل أن تبقي مخبأة في القبور دون أن تري النور وتظل مدفونة مع أصحابها تحت التراب.
“لا تذهب الي قبرك وأنت تحمل أفضل ما لديك ، ومُتْ فارغا بعد أن تملأ حياة البشر بأفكارك”.
رأيته تعبير بليغ وغير تقليدي، وذكّرني بكتاب الأستاذ العقاد “التفكير فريضة إسلامية”الذي قرأته وانا في المرحلة الثانوية ثم بما قاله إبن رشد لتلميذه الذي كان يبكي علي كتبه عندما أحرقها الحكام الجهلة ومتطرفي الفكر ، وقال:” إذا كنت تبكي حال المسلمين فاعلم أن بحار العالم لن تكفيك دموعاً، أما إذا كنت تبكي الكتب المحروقة فاعلم أن للأفكار أجنحة و هي تطير لأصحابها”.
نعم للأفكار انجن تطير بها ، وجاء الي ذهني ع عبارة قرأتها تقول
“حين يطرق الرقي باب أمة من الأمم يسأل: أهنا فكر حر ؟ فان وجدهح دخل … والا مضى.”
وقول ديكارت ” أنا أفكر ، اذن أنا موجود.”
وأنا مؤمن بأن ما لا يوثق من الأفكار لم يوجد. لذلك فقد أخذت علي عاتقي أن أسجل أفكاري ، وأُطبق ما أستطع منها، وأنشر خلاصة تجاربي لمن يمكنه الاستفادة منها و بها واضعاً في اعتباري قول جواهر لال نهرو””عندما نفكر في الغايات يجب ان لا نتجاهل الوسائل”
ومن داخل هذا المنظور ، فأنا أنظر لشعار الجمهورية الجديدة بجدية، بل والتزام بطرح الأفكار التي تساهم في بناءها وبناء مستقبل مصر.
لذلك فإنني مع مجموعة من الشباب و الخبراء والسياسيين نجتمع بين الحين والآخر ، لا لنسأل ، كما يفعل العديد من الناس، ماذا يقصدون بالجمهورية الجديدة؟ ، و كأننا في انتظار ما سيمليه علينا آخرين ، بل نتحاور في كيف نكون فاعلين بأفكارنا في بناء هذه الجمهورية .
لم نختلف كباراً وشباباً. في أن قلب الجمهورية الجديدة هو نظام العدالة الناجز، الذي بدونه لا تقوم للدولة قائمة..
و أن هناك وجوبية لإصلاح نوعي وفكري لمؤسسات العدالة ومؤسسات إنفاذ القانون «الشرطة» . هذه الدعامة هي واحدة من أهم دعامتين لبنيان الدولة المدنية الحديثة بجانب فتح آفاق المعرفة من بوابة التعليم والتعلم والثقافة .
إن العدالة غير الناجزة أو البطيئة أو الانتقائية وإحساس المواطن بالظلم ينافي وجود الدولة المدنية الحديثة. و لتطوير هذه المؤسسة علينا اتخاذ بعض القرارات الهامة والسعي إلى استدامتها.
إن العدل هو أساس الحكم ، وحتي قبل نشوء النظم الديمقراطية الحديثة ، كان القاضي هو سند الدولة مع الحاكم.. والآن في إطار التوجه لدولة مدنية حديثة، وبناء أسس وركائز مصر الجديدة، فإن مؤسسة القضاء ونظام العدالة يجب أن يكون في القلب.
إن دولة الحق والقانون تقوم على أساس إستقلال القضاء وفصل السلطات وحماية حقوق الإنسان والأقليات، ودور العدالة لا يتحقق إلا بتأكيد أن فصل السلطات التشريعية، و التنفيذية، والقضائية، يأخذ معناه الحقيقي فقط ، عندما تخضع كل السلطات للقانون. فالتشريع لا يمكن أن يعبر عن إرادة الأمة إلا في حالة احترام حقوق كل المواطنين، والسلطة التنفيذية لا يمكن أن تؤدي وظائفها وتمارس سلطتها التي أعطاها لها الشعب بالانتخاب الحر بدون إحترام للقوانين وضمانات حقوق المواطنين.
وكما أن الحرية تنقلب الي فوضي إن لم يضع لها القانون إطاراً ، فإن السلطة التي يمنحها الشعب للحكومة تنقلب الي قهر واستبداد إن لم يردعها إحترام الدستور بوجوب تداول السلطة وينظم عملها القانون .
أضيف أنه مهما كانت الضغوط فإن اللجوء الى إستخدام المحاكم الاستثنائية يحد بشكل كبير من التمتع بحقوق المواطنين، فالأمر لا يتعلق فقط بالحقوق الإجرائية، كالحق ًفي محاكمة عادلة أمام محكمة مستقلة ومحايدة ومنشأة بقانون، وخاضعة لإجراءات محددة سلفا في القوانين، بل كذلك بالحقوق التي لا يجوز المس بها، حتى في حالات الطوارئ والاستثناء ، كالحق في السلامة من التعذيب، والمعاملات المهينة بالكرامة الانسانية، والحق في السلامة من الإخفاء القسري، والاعتقال.
لقد آن الأوان في استعادة ثقة المواطنين في مدى نجاعة القضاء في حماية حقوق الموطنين في جمهوريتنا الجديدة.
إن إقامة وترسيخ دولة الحق يقوم أوًلا وأخيرًا علىُ الدور الذي من الممكن أن يضطلع به الجهاز القضائي بشكًل محايد ومستقل في إخضاع باقي السلطات الأخرى للقانون، و في حماية حقوق المواطنين.
يتعين على مصر، في الجمهورية الجديدة، أن تؤكد في الدستور والقوانين وسياساتها المعلنة على الاستقلال الكلي الفعلي للسلطة القضائية عن باقي أجهًزة الدولة. وسيقول قائل أن ذلك لا يحتاج إلى تأكيد لأنه وارد في الدستور الحالي والسابق والأسبق، ولكني أُركز هنا علي الاستقلال الفعلي وليس الشكلي . فالمحاكم المستقلة والنزيهة هي أساس النظام القضائي الذي يضمن احترام حقوق المواطنين .
و أؤكد أن الحماية الخاصة التي يتعين أن يتمتع بها القضاة والمحامون وأعضاء النيابة العامة توجب عليهم مسؤوليات خاصة. فمبدأ إستقلال القضاء لا يجيز لهؤلاء حق تجاوز حد سلطتهم لتحقيق منافع شخصية تجيز لهم الًتعدي على حقوق الأفراد.ومن ثم لا يجوز للقضاة البت في الدعاوى طبقًا لأهوائهم الشخصية، ولا إنتمائهم الديني أو الأيديولوجي ، إنما طبقا للوقائع و توصيفها القانوني مهما كانت الضغوط عليهم من سلطة أو من رأي عام .
إننا نبحث عن مبادرة جديدة للحكم، بالاتفاق بين ما نحلم به من دولة مدنية حديثة وبين القوة الحقيقية على أرض الواقع، مبادرة لا تحرم البلاد من إمكاناتها الإنسانية ولا من مؤسساتها الفاعلة الوطنية، مبادرة تعطى للحرية مكانها واحترامها بضبط العدالة الناجزة التى لا تسمح للحرية بالتحول إلى فوضى، ولا بالتلاعب الانتقائي للقانون. مبادرة تسمح لعموم الشعب بالاختيار الحر، وحسن الاختيار لممثليه في البرلمان . هذه هي الفلسفة وراء الكلمة ، ولابد أن يتوافق الفعل معها.
وأعود للأفكار ، وللحوار، فلا خاب من إستشار ، ولا عيب من طرح الأفكار والمبادرات ، وتجنب المخاوف ، والتعلم من تجاربنا السابقة ،و تجارب غيرنا…
فلتُعقد الندوات، وتنطلق الأفكار ، ولنستمع الي بعض بحرية ، فإن الفكر هو إعمال العقل في المعلوم للوصول إلى معرفة المجهول..
يا سادة إن التفكير هو أساس الحكمة ، وكما قال أفلاطون ” فنحن مجانين اذا لم نستطع أن نفكر ، ومتعصبين اذا لم نرد أن نفكر ، وعبيد إن لم نجرؤ علي التفكير”.
وفي النهاية ” فإن الانسان ما هو إلا نتاج أفكاره فما يفكر به ، يصبح هو” كما قال المهاتما غاندي،
ولنَمُتْ فارغين كما قال عنوان الكتاب الذي بدأت به المقال بعد أن نملأ الدنيا بالأفكار .
وأضيف أن الله قد أوجب العدل وجوبا مطلقاً وأمر بتحقيقه في الأقوال والأفعال والتصرفات والحكم والفطرة والتقييم والشهادة والعلاقات وتكررت كلمة العدل ومشتقاته ثمان وعشرين مرة في القرآن الكريم , فتارة يذكر الله العدل الذي جائت به الرسالات السماوية فقال تعالى في سورة الحديد ( لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ ) , وتارة يذكر العدل في المعاملات بين الناس يقول تعالى في سورة الشورى ( وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ ) , وتارة يذكر العدل في الأحكام كما قال تعالى في سورة النساء ( إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً) , وفي موضع اخر جعل الله العدل دليلا على التقوى فقال في سورة المائدة (اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) .