الجامعات تتعرض للهجوم
بقلم حسام بدراوي
هذا العنوان هو عنوان مقال افتتاحى لجريدة نيويورك تايمز بقلم مجلس التحرير يوم ١٦ مارس ٢٠٢٥.
وتعليقا وإضافة إلى المقال أريد أن أوضح رؤيتى حول الجامعات ودور التعليم العالى وأعود إلى المقال وانعكاساته.
ما الأغراض التى ترجى من التعليم العالى فى أى أمة؟ وماذا نطلب منه وله؟.. قد يخيل لنا أن الأمور واضحة فى أذهان الجميع، وهى غير ذلك حتى فى أذهان بعض المتخصصين. التعليم العالى هو هذا النوع من التعليم الذى يرسم ملامح المستقبل، ويبنى البشر القادرين على صنع التنمية وليس ملء فراغ الاحتياجات، يبنى الإنسان صانع الفرصة ومحققها وليس فقط المستفيد منها.
تولت الجامعات عبر القرون عددا من الوظائف الاجتماعية، ويشكل تنوعا مثل هذه الوظائف الشخصية الفريدة التى تكتسبها الجامعة. وتحتاج كل الجامعات إلى «التكاثر» و«الانتشار» و«التطور» فى ذات الوقت، كما أنها تحتاج إلى معرفة أسباب التغير أو أسباب التمسك بالتقاليد. ولكى يتسنى لها القيام بهذا عليها أن تتشكك فى ما تم اكتسابه وتختبر أيضا أنماط التفكير المختلفة الموجودة فى المجتمع.
كما أن على الجامعة أن تقوم بالمخاطرة بتقديم كل ما هو غير متوقع للمجتمعات التى تستسهل بقاء الأمر كما هو عليه، بل وتحارب التجديد والتغيير حفاظا على الواقع الذى تم التعود عليه حتى ولو كان منتقدا.
وتجسد الجامعات عمليات التغيير، حيث إن دورها فى المجتمع هو ابتكار الجديد واستيعابه، ونقل وصنع المعرفة، وتحقيق التناغم والتكيف ما بين المعرفة وكيفية الحصول عليها واستخدامها فى وقتنا الحاضر، ومتطلبات المستقبل.
إن الجامعات تُبنى على محورين: أحدهما ينتقل من التركيز على الوجود المباشر (احتياجات الرفاهة) إلى الواقع الجديد (الدعوة للبحث عن الحقيقة) والأخر ينتقل من المعارضة (الجانب الإنتقادي) إلى الموافقة (جانب الالتزام ومساهمة المؤسسة فى الإنتاجية الاجتماعية). وتؤدى الجهود المبذولة لتحقيق الاتساق ما بين تلك الوظائف دائماً إلى البحث عن وحدة الهدف كما يظهر فى كلمة uni-versitas نفسها.
وتعد عملية التحديث هى الوظيفة المنوط بها الجامعات فى كل المجتمعات. وحتى يتسنى لنا تعريف الحداثة وفهم مضامينها المؤدية إلى التغير الاجتماعى والتطور العلمى ينبغى للجامعات بوصفها من المؤسسات الضرورية للأمة ولبنة للتطور الثقافى أن تقوم بمسح البيئة التى تنشأ فيها وأن تدرك تعقيدات التغيير المحتملة،
وهذا يعنى الحرية الأكاديمية والاستقلالية المؤسسية.
عمليا يعنى ما تقدم تحديد الاستراتيجيات التى تؤدى بها إلى وضع سياسات مؤسسية يمكن اختبارها وقياسها والتثبت منها ويفرض هذا توافر المساءلة.
حضرت فى جامعة استكهولم عاصمة السويد مؤتمرا مهما لسفراء الماجنا كارتا للقيم الحية للتعليم فى الجامعات Magna Charta ambassadors of living values، وهو مشروع لدمج القيم التى تتبناها عملية بولونيا فى التعليم العالى فى وجدان إدارة الجامعات، وأعضاء هيئات التدريس والطلاب والعاملين لخلق مجتمع جامعى أفضل.
علماً بأن مبادئ إعلان بولونيا الذى تلتزم به الجامعات المشتركة يشمل المبادئ الأساسية التالية:
١. أن الجامعة مؤسسة مستقلة فى قلب المجتمعات؛ إنها تنتج وتفحص وتقيم وتنشر الثقافة عن طريق البحث والتعليم، لتلبية احتياجات العالم من حولها، ويجب أن يكون تعليمها البحثى مستقلا أخلاقيا وفكريا عن كل سلطة سياسية أو قوة اقتصادية.
٢. أساس وجود الجامعة هو الحرية فى البحث والتدريب هى المبادئ الأساسى للحياة الجامعية، ويجب أن تضمن الحكومات والجامعات، كل على حدة، احترام هذا المطلب الأساسى، مع رفض التعصب والانفتاح دائمًا على الحوار.
وكنت قد نشرت ورقة بحثية مهمة مع زميل من سويسرا «الدكتور أندريا باربان» بعنوان الجامعات: صانعة حضارة أم مقدمة خدمة تعليمية، أشرت فيها إلى أن على الجامعة تلبية أربعة أهداف ألا وهى «تحقيق الرفاهة، والنظام، والمعنى، والبحث عن الحقيقة» وأنهيتها بمقولة الدكتور طه حسين حول الجامعات والذى كتبها فى كتابه القيم «مستقبل الثقافة فى مصر» الذى يقول فيها إن الجامعة لا يتكون فيها العالم وحده، وإنما يتكون فيها الإنسان المثقف المتحضر الذى لا يكفيه أن يكون مثقفا، بل يعنيه أن يكون مصدرا للثقافة، ولا يكفيه أن يكون متحضرا، بل يعنيه أن يكون منمياً للحضارة».
لماذا أكتب ذلك؟ لأن اليوم تتعرض الجامعات فى معقل الحرية فى الولايات المتحدة للهجوم من إدارة ترامب مما سينعكس على قيم التعليم العالى فى العالم كله من وجهة نظرى.
تقول صحيفة نيويورك تايمز فى عددها الصادر فى ١٦ مارس ٢٠٢٥:
«عندما يسعى زعيم سياسى إلى دفع الديمقراطية نحو شكل حكم أكثر استبدادية، فإنه غالبًا ما يسعى إلى تقويض مصادر المعلومات المستقلة والمساءلة. ويحاول الزعيم نزع الشرعية عن القضاة، وتهميش الهيئات الحكومية المستقلة، وتكميم وسائل الإعلام. وقد فعل الرئيس الروسى فلاديمير بوتين ذلك على مدى ربع القرن الماضى. وبدرجات أقل، فعل ذلك مؤخرًا رئيس الوزراء المجرى فيكتور أوربان، ورئيس الوزراء الهندى ناريندرا مودى، والرئيس التركى رجب طيب أردوغان».
من المعروف أن إضعاف التعليم العالى يُشكّل جزءًا مهمًا من هذه الاستراتيجية.
يُفترض بالباحثين الأكاديميين أن يبحثوا عن الحقيقة، ويُدرك المستبدون الناشئون أن الحقيقة التجريبية قد تُشكّل تهديدًا لسلطتهم.
قال السيد بوتين: «المعلمون هم من يكسبون الحروب» ومع ذلك أغلق هو والسيد أردوغان الجامعات، واعتقلت حكومة السيد مودى علماء معارضين، وعيّن السيد أوربان مؤسساتٍ مواليةً لإدارة الجامعات.
تقول صحيفة نيويورك تايمز أيضا فى نفس المقال: «لم يصل الرئيس ترامب بعد إلى حدّ إعاقة الديمقراطية الذى وصل إليه هؤلاء القادة الآخرون، ولكن من السذاجة تجاهل خطواته الأولى لتقليد نهجهم»، فقد أقال مراقبى الحكومة، والقادة العسكريين، والمدعين العامين، وخبراء الأمن القومى. ورفع دعاوى قضائية ضد مؤسسات إعلامية، وهددت إدارته بتنظيم مؤسسات أخرى. وألمح إلى أن القضاة عاجزون عن كبح سلطته، ووصف ترامب اعتقال السيد خليل أحد قادة المظاهرات المؤيدة للفلسطينيين فى جامعة كولومبيا، بأنه «الأول من بين اعتقالات عديدة قادمة»، فى إشارة إلى أن الرئيس يريد كبح جماح حرية التعبير بين المهاجرين الكثيرين فى الجامعات.
وكتب على مواقع التواصل الاجتماعى: «من ينقذ وطنه لا يخالف أى قانون».
وهى نفس ادعاءات كل ديكتاتور عبر التاريخ.
تقول نيويورك تايمز «تُعدّ حملة السيد ترامب متعددة الأوجه ضد التعليم العالى جوهر هذه الجهود الرامية إلى إضعاف المؤسسات التى لا تؤيد روايته للواقع». والأهم من ذلك، أنه يُسنّ، أو يُفكّر، فى تخفيضات كبيرة فى موارد الجامعات فقد أعلنت إدارة ترامب عن تخفيضات حادة فى المدفوعات الفيدرالية التى تُغطى التكاليف العامة للبحث العلمى، وحثّ نائب الرئيس جيه دى فانس وجمهوريون آخرون على زيادة حادة فى ضريبة الوقف الجامعى التى وقّعها السيد ترامب خلال ولايته الأولى. يُمكن لهاتين السياستين معًا أن تُخفّضا الميزانيات السنوية لبعض الجامعات البحثية بشكل كبير ومؤذى.
يُضيّق السيد ترامب الخناق على التعليم العالى بطرق أخرى أيضًا. فقد سرّحت وزارة التعليم حوالى نصف قوتها العاملة، مما قد يُصعّب على الطلاب الحصول على المساعدات المالية. وأدى الإلغاء شبه الكامل للوكالة الأمريكية للتنمية الدولية إلى إلغاء منح بقيمة ٨٠٠ مليون دولار لجامعة جونز هوبكنز وحدها. وفى ٧ مارس، استهدفت الإدارة جامعة واحدة، مُعلنةً أنها ستُنهى منحًا بقيمة ٤٠٠ مليون دولار لجامعة كولومبيا عقابًا لها على ردّها غير الكافى على معاداة السامية فى الحرم الجامعى!.
تعتمد القيادة الأمريكية فى مجال البحث الطبى والعلمى على التمويل الفيدرالى، فعادةً ما لا تُجرى الشركات الخاصة، حتى الكبيرة منها، الكثير من الأبحاث الأساسية التى تُفضى إلى اكتشافات جديدة نظرًا لعدم اليقين الشديد بشأنها؛ حتى التجارب الناجحة قد لا تُفضى إلى منتجات مربحة لعقود وهنا يأتى دور الدولة المهم غير الهادف للربح والذى يسعى برؤية مستقبلية لقيمة البحث وليس الكسب التجارى اللحظى.
تقول نيويورك تايمز: «لقد تصرف عددٌ كبيرٌ من الأساتذة ومسؤولى الجامعات فى السنوات الأخيرة فى كبرى الجامعات الأمريكية المرموقة كأيديولوجيين ليبراليين بدلًا من أن يكونوا باحثين عن الحقيقة التجريبية». سعى الأكاديميون إلى إسكات النقاش حول قضايا مشروعة، بما فى ذلك إغلاقات كوفيد، وعلاجات التحول الجنسى، والتنوع، والمساواة، والشمول. وقد وجد استطلاعٌ أجرته جامعة هارفارد العام الماضى أن حوالى ٧٠٪ فقط من خريجى السنة الأخيرة لا يشعرون بالراحة فى التعبير عن آرائهم حول المواضيع المثيرة للجدل.
إننى أقف مساندا الحرية الأكاديمية والاستقلال المؤسسى لصناع المستقبل من الشباب، ليس فى مصر وحدها بل فى العالم كله.