الخميس , 21 نوفمبر 2024
Home / بقلم د حسام بدراوي / بعد 25 يناير / الجمال والسعادة والتعليم مرة أخرى

الجمال والسعادة والتعليم مرة أخرى

دُعيت فى الأسابيع الماضية إلى ثلاثة منتديات للتحدث حول السعادة، والتقت بى مجموعات من الشباب متعجبين من دوام تفاؤلى ونظرتى الإيجابية للأمور. قال واحد منهم: يا دكتور حيرتنا، كيف ترى كل شىء جميلا بهذا الشكل، وكيف تحتفظ بابتسامتك فى أحلك الأوقات؟

قلت لهم: سأركز إجابتى على مدخل الجمال وتأثيره على سعادة الإنسان. إذا فهمتم فلسفة الجمال وتعلمتم كيف تستخرجونه من كل شىء حولكم، ستكونون أكثر سعادة وبهجة. وكل إنسان سعيد سيطلق طاقة إيجابية حوله، والطاقة تتحول إلى فعل وإنجاز.

يا أولادى، إن الجمال سمة مميزة من سمات هذا الوجود، يتجلى فى كل مكان، وهو نوع من النظام والتناغم والانسجام ذى مظاهر وتجليات لا حصر لها، فالدقة والرقة والتناسق والتوازن والترابط ومظاهر أخرى كثيرة يشعر بها الوجدان، وإن لم يستطع التعبير عنها فى أغلب الأحيان. وهذا يمثل درجتين مختلفتين من القدرات لدى الإنسان: قدرة الإحساس بالجمال، وقدرة التعبير عنه. ولأن الإحساس بالجمال الخارجى والداخلى هو إدراك معرفى، فإنه يمكن تعلمه. أما القدرة الأخرى للإنسان والتى تعبر عن الجمال وتُظهره وتبينه، فهى القدرة التى يتمتع بها الفنان مصورًا كان أو أديبًا، أو غيرهما من أصحاب القدرات الفنية المختلفة. وحيث إن العلم والتجربة قد أثبتا أن هناك الكثير من المعارف والمهارات التى يمكن للإنسان تعلمها- خصوصا فى السن الصغيرة- تمكنه من زيادة قدراته فى التعبير عن الجمال، فإن كل إنسان فنان بدرجة من الدرجات، ويبقى التفرد فى الفن للمواهب الخاصة التى ينفرد بها إنسان عن الآخر.

كذلك فإن الشعور العام بالجمال ومظاهره قد يتأثر بثقافة مجموعات البشر فى مكان ما، ويؤثر على وجدان الفرد، فلطالما وجدنا هناك مقاييس نسبية لكل أمة بخصائص الجمال وسماته، والتى قد تتغير فى الأزمنة المختلفة لنفس الشعوب، وقد يشب بعض الناس بحكم ثقافتهم على معايير مختلفة للجمال، فقد كان الإغريق يرون الجمال فى الشباب، وكان الرومان يرون الجمال فى الفخامة والنظام والقوة.. وافترض الفنان الإغريقى أن الذكاء والعقل يكمنان فى تناسق الأبعاد. أما فيثاغورس فقد عرّف الجمال بأنه جوهر آلية التناسق العددى التى تنطبق على أبسط الظواهر وأعقدها. وفسر العقّاد الجمال بأنه حرية الحركة.

وجمال الموسيقى كجمال الوجود، يكمن فى النسب والعلاقات الرياضية، كما يكمن جمال الكون فى الانسجام الدقيق بين حركة الكواكب والنجوم. والفن فى الحضارة الإسلامية قد عبر عن قيمة جمالية مستمدة من الأشكال الهندسية والألوان، فكان تعبيرا عن روح جديدة وعقلية فلسفية لها طابعها الخاص.

إن الجمال هو نوع من الحرية فى الوجدان، وأى مفكر عاقل فى تطوير التعليم عليه أن يضع مفهوم الجمال كشىء يمكن إدراكه ضمن اهتمامات المدرسة والمعهد التعليمى، لأن وظيفتنا كما قلت دائما هى بناء قدرات الإنسان، ويجب أن توضع له قواعد فى النظام التعليمى الذى يربى ويعد شباب مصر للمستقبل.

أيها السادة.. عندما تتمزق الروح، وينفصل العمل عن المتعة، ويغيب الشغف والإلهام، تتفكك الوحدة والتناغم، تكون الحاجة شديدة إلى الجمال وإدراكه أكبر وأكثر أهمية، ولا أعنى بذلك دراسة الفن لذاته، بل إننى آخذ ذلك إلى مرام أوسع، ليكون الجمال وسيلة لاستعادة الوحدة المفقودة فى المجتمع.

ودعنى أيها القارئ الكريم آخذ الموسيقى كمثل، فالموسيقى هى أكبر الفنون تجردًا عن الأهداف العملية، لأن وسيلتها فى التأثير على النفس الإنسانية لا تخدم أغراضا خارجة عن نطاق الفن، فليس شأنها مثلا شأن العمارة التى تستخدم فى البناء، وتفيد فى تحقيق أغراض أخرى غير مجرد إحداث البهجة الجمالية، إلا أنها فى دراستها البسيطة تبنى الإحساس والمعرفة بالتناسق والتناغم، وتصل إلى علم الرياضيات من مدخل الجمال والمتعة، وتكون مهارات ممارستها الدقة والإجادة والمثابرة والالتزام، فأنا لا أنظر هنا للموسيقى بشكل مجرد، بل كأساس من أسس التعليم. كذلك الحال بالنسبة للكلمة والتصوير وأنواع الفن الأخرى، فلكل مدخل فائدة عامة وأخرى خاصة بنوعه.

إن النفس البشرية الذوّاقة للجمال هى النفس القادرة على الإبداع والابتكار ورؤية ما هو جميل والبناء عليه..

إن طبيعة الإنسان، دون التحريف الذى نفعله به فى التربية الأسرية أو المناخ التعليمى أو الإعلامى الذى يركز على السلبيات والأخطاء، تنجذب وحدها إلى كل ما هو جميل، وقد ورد عن رسول الله (ص) «إن الله جميل يحب الجمال»، وقد شاءت قدرة المبدع الخالق، سبحانه وتعالى، أن يجعل من الجمال – فى شتى صوره – مناط رضا وسعادة لدى الإنسان. إن استساغة الجمال حقٌ مشاعٌ، حقٌ للجميع لا يحتاج الإنسان فيه أن يكون ذا مركز أو صاحب سطوة أو مال ليتمتع به.

ويقول الدكتور زكى نجيب محمود: «الإنسان العادى من جمهور الناس إذا عرف فى حياته الجارية كيف يفرّق بين ما هو جميل وما هو قبيح فيما يحيط به من أشياء، فإن معرفته تلك تجعل منه إنسانا أفضل يفرق أيضا بين الخير والشر، فالخير دائما جميل».

الجمال مثله مثل السعادة، ليس قيمة سلبية، ولكنه ينبع من قوة مبدعة قادرة، تثير الفكر والتأمل، وتفتح أبواب الإيمان واليقين. وإذا كان الاستمتاع بالجمال مباحًا، فإنه مدخل إلى ارتقاء الروح والذوق، وسمو النفس وخلاصها من التردى والسقوط، ومحرك للفكر كى يجول إلى ما هو أبعد من المظاهر الحسية فقط. فالجمال فى الحقيقة سبب من أسباب الإيمان السوىّ، وعنصر من عناصره، والقيم الجمالية الفنية تحمل على جناحيها ما يعمق هذا الإيمان ويقويه ويجعله وسيلة للسعادة والخير فى هذه الحياة.

إن فلسفة الأخلاق، وعلم المنطق، وفلسفة الجمال، بدرجات متفاوتة من العمق، يجب أن تندرج فى وجدان الشباب حسب المرحلة العمرية التى يدرسون فيها بشكل أو بآخر. إن اختيار مناهج الأدب والشعر وفنون الكلام يجب أن يتناسق مع هذه الرؤية، وإدماج هذه المنهجية بلا تردد فى التعليم هو جزء يجب ألا ينفصل عن رؤية التطوير الشاملة.. إلا أننى أؤكد أن الأهم ليس فى منهج يُدرَّس، بل فى معلم يفهم هذه القيمة، ومدرسة ومعهد تكون فلسفة الجمال رائدة لمضمونها.

نصيحتى

كن جميلًا.. ترَ الوجود جميلا،

كن سعيدًا….ترَ الوجود سعيدا،

وتعالوا ننشر طاقة إيجابية فى بلادنا،

وننظر إلى أجمل ما فى حولنا،

وأجمل فيمن حولنا،

فكل شىء فيه جمال،

ابحثوا عن الجمال فتأتيكم السعادة،

فَنِعَم الله لا تُعد ولا تُحصى، لنا وحولنا.

……………………..

علّقت على كلامى والدة واحدة من الشباب فى جلستنا قائلة:

اسمح لى بالتدخل فى حديثك مع الشباب، فكلامك جميل ومؤثر جدا يا دكتور حسام، وفعلًا الواحد لازم يتفاءل عندما يسمعه ويقرؤه. لذلك أرى ألا توجه كلامك ونظرتك الجميلة للحياة للجيل الجديد فقط، فى حين أننا أيضا كجيل أكبر نحتاج طاقة إيجابية وقد تكون حاجتنا أعمق، يعنى إحنا كمان وجيلنا «حالمون بالغد»، ولابد أن نتذكر أن لكل مرحلة عمرية حلمها، يمكن بطريقة مختلفة، لكن علشان نقدر نعيش ونحس بالتفاؤل لابد أن نكون حالمين بالغد. رأيى أن الشباب يعرف أيضا أن كلامك المطمئن وهذه النظرة الإيجابية يؤثران على كل الأجيال، مش جيلهم فقط. أنا والله لا أتفلسف، بالعكس أنا نفسى أوصل كلامك لقلب كل إنسان كبير أو صغير.. وأن نكون كلنا «حالمون بالغد».

التعليقات

التعليقات