الحرب على الفيروس؟حسام بدراوي
قلت: أعتقد أنها كوريا الجنوبية. فتجاربها المتعددة فى مواجهة الأوبئة، ووقف انتشارها.. يجب أن تدرس! وقد بدأت جهودها منذ أن ظهر وباء SARS-1 فى عام 2002-2003، وتسبب فى وفاة العديد من الكوريين. ثم عادت وطبقت أسلوبها الوقائى المبتكر مع وباء متلازمة الشرق الأوسط للجهاز التنفسى MERS فى عام 2015، لتقضى عليه تماماً خلال شهرين اثنين فقط، لا غير!
ولقد حدثنى صديقى العزيز، العالم المتميز د. أسامة حمدى، الأستاذ بجامعة هارڤارد، عن أن كوريا الجنوبية أدركت مبكرا أنه عندما يظهر وباء جديد.. لن يستطيع العالم اكتشاف لقاح له، أو التوصل إلى علاج فى الوقت المناسب وبالكمية الكافية (كما هو الوضع حاليا!) فقررت بدلًا من ذلك أن تستثمر أموالها فى تنمية قدراتها على سرعة التشخيص، وإنتاج كمية كبيرة من التحاليل السريعة التى تحدد عدد الحالات المصابة بدقة متناهية، وفى فترة وجيزة.. وهو ما مكنها من إجراء 15 ألف تحليل فى اليوم الواحد! ففى حين أجرت الولايات المتحدة الأمريكية فى منتصف شهر مارس الماضى، 74 تحليلاً لكل مليون شخص.. أجرت كوريا 5200 تحليل لكل مليون مواطن! وقد مكنها ذلك من رصد معظم الحالات المصابة وحصرها بدقة.
كما أنها استثمرت فى إنتاج الملابس الواقية، والكمامات. لذا كان من السهل على حكومتها أن تنصح جميع أفراد الشعب الكورى بارتداء الكمامات داخل وخارج منازلهم.. فى حين تعثرت البلدان الأخرى فى توفير كمامات كافية لشعوبها، أو حتى تلبية احتياجات القطاع الصحى بها!
.. أيضا قامت الدولة بإلزام جميع المصابين والمخالطين لهم.. بتنزيل تطبيق، على الهواتف المحمولة الخاصة بهم، أعدته مسبقاً، يستخدم خاصية التتبع، وترسل من خلاله إشارة إنذار إذا ما تحرك الشخص إلى خارج منزله، خلال فترة «العزل المنزلى». وفى هذه الحالة، تفرض عليه غرامة تقدر بـ2500 دولار، لمخالفته أمر العزل. كما طلبت منهم تسجيل أعراض المرض مرتين يومياً من خلال التطبيق، فتمكنت بذلك من المتابعة عن بعد، والتدخل السريع لنقل المرضى للمستشفيات إذا لزم الأمر.
لقد نجحت كوريا فى أن تهبط سريعاً بعدد حالات الإصابة بـ كوڤيد 19 من 900 حالة يومياً فى مرحلة ذروة الانتشار.. إلى 74 حالة فقط.. ودون اللجوء إلى وقف أنشطة الحياة العادية، مثلما يحدث فى أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية الآن. فلم يتأثر اقتصادها إلا بقدر قليل.
وكما تعلمون.. فإن كوريا الجنوبية معروف عنها أنها من أكثر دول العالم استثمارا فى مجالى التعليم والتكنولوچيا. لذا كان من السهل على المجتمع اتباع التعليمات بدقة وحزم، والتواصل بفاعلية مع الأجهزة الصحية. والنتيجة أن معدل الوفيات فى كوريا من إجمالى حالات الإصابة- لم يتعد 1.5%، وهو ما يعد من أقل المعدلات العالمية! ولعل دول العالم جميعا تتعلم مستقبلاً من هذه التجربة الكورية الناجحة!!
قال الشاب: إننى وزملائى فى حيرة من أمرنا يا دكتور! فنحن نقرأ كثيراً.. وأحياناً يصيبنا العجب من دلالات الإحصاءات والأرقام العالمية!
قلت: وما الذى يحيركم؟!
قال زميله: دائما تذكرنا يا أستاذنا بالمعايير العلمية، وضرورة الاتفاق على التعريفات عندما نتناقش.. حتى يكون الحوار فعالاً. لذلك نريد أن نبدأ بتعريف الوباء.
قلت: أحسنتم. ولعل التعريف يكون مدخلاً لتأكيد أو تبديد حيرتكم، وتخوفكم!
بداية إن الإعلان عن ظهور وباء (Epidemic) يعنى انتشار مرض معدٍ بعينه، بصورة قوية فى منطقة محددة من العالم، سواء كانت دولة واحدة، أو أكثر من دولة متجاورة فى منطقة جغرافية واحدة، وهو ليس له علاقة بالتغييرات التى تطرأ على خصائص هذا المرض. فإذا ما انتشر المرض المعدى فى أكثر من منطقة جغرافية، وأكثر من قارة.. صار جائحة (Pandemic).
ومن هنا، ووفقاً لمنظمة الصحة العالمية.. فإنه يتم الإعلان عن تفشى وباء «عندما ينتشر مرض جديد، لا يتمتع فيه الناس بالحصانة، فى جميع أنحاء العالم، بما يفوق التوقعات».
من ناحية ثانية، فإن الوباء يتمثل فى زيادة مفاجئة فى الحالات المرضية أو فى المرض الذى يمكن أن يكون متفرداً فى دولة واحدة، أو مجتمع واحد.
قالت الشابة المتشائمة: القول الفصل- كما قرأت- فى اعتبار تفشى مرض ما.. وباء عالمياً.. متروك بيد منظمة الصحة العالمية، وليس هناك تحديد لعدد معين من حالات الوفيات أو الإصابات، أو لعدد البلدان المتأثرة الذى يجب الوفاء به.. ليمكن الإعلان عن الوباء! وهو ما يترك مساحة سياسة فيما ينشر، تتدخل فيها عوامل قد لا تكون لها علاقة بالمرض، ولكنها مرتبطة بإيجاد حالة من الهلع والخوف، وما يتبعهما من آثار وأرباح للبعض، وخسائر لآخرين. وقد يكون أحد أسباب إعلان تفشى المرض ووصفه بالوباء هو وصول المرض وانتشاره فيما بين ما يعرف بـ«الكتلة الحرجة». وعندها يجب أن يبدأ التعامل معه بجدية!.
قال زميلها المشاكس: يا د. حسام.. إن عدد الأطفال المصابين بالالتهاب الرئوى فى العالم يقدر بطفلين فى الدقيقة الواحدة، بينما يصل عدد الوفيات من جراء الإصابة بالالتهاب الرئوى سنويا إلى أكثر من مليون طفل، وحوالى 300 ألف شخص من البالغين. أيضا عدد حالات الإصابة الجديدة بمرض الدرن.. تحسب بالدقيقة، وتصل أعداد الوفيات إلى أكثر من 1.5مليون حالة وفاة سنويا. الفارق الوحيد أنها إصابات يحدث معظمها فى البلدان النامية، ولا يصل المرض إلى أوروبا أو الولايات المتحدة بنفس المعدلات. وإلا كنا شاهدنا ما نشهده الآن مع ڤيروس كورونا المستجد!
ودعنى أذكركم.. بأن كل الضجيج الذى صاحب مرض نقص المناعة المكتسب «الإيدز» لم يحدث نتيجة لوفاة ملايين البشر فى إفريقيا.. بل حدث بعدما بدأ انتشاره فى بلدان أوروبا وفى الولايات المتحدة!!
هناك شىء ما غير مضبوط، نراه، ويدركه العقل.. ولكن لا نستطيع وضع أيدينا عليه!!
قلت: نعم لديك الحق فى الشكوك. ولكن.. هذا جدل نظرى فى هذه اللحظة. إذا كان هناك خطر من الوباء، وتوسع انتشاره فى مصر..فعلينا أن نواجه ما نحن بصدده يا شباب.. فلا نركن إلى تهوين المخاطر، أو نتقاعس عن القيام بواجبنا تجاه المجتمع وحمايته.
قالت الشابة صاحبة نظرية المؤامرة: أنا أعتقد أن هناك خداعا يتم على أعلى المستويات فى العالم، ويقوم الإعلام بدور مرسوم له فيه!!
قلت: دعونا نعد للسؤال الأول.. ماذا يجب أن نفعل، آخذين فى الاعتبار التجارب التى حولنا؟!
فمن خلال مناقشتى مع الخبراء، وقراءاتى فى كثير مما يكتب فى العالم حول الخط الفاصل بين إغلاق الاقتصاد ومأساته، ومضار التباعد الاجتماعى على حركة الحياة.. وبين ترك المجتمع يعمل حتى لو أدى ذلك إلى وفاة البعض، فى سبيل عدم قتل الاقتصاد…. أجد أنه صحيح.. لا يمكن أن نضع حياة الإنسان فى اختيار أمام الاحتياج الاقتصادى. وحديث كل من رئيس وزراء بريطانيا، ورئيس الولايات المتحدة الأمريكية، بشأنه كان يبدو غير إنسانى عندما أثارا هذه النقطة فى بداية تفشى الجائحة.. وإن تراجعا عنها جزئيا فيما بعد!
ولا بد أنه توجد هناك حلول لهذا التناقض الذى يؤدى فى نهاية الأمر إلى ذات نفس المأساة: هلاك البشرية!!
إذن الوسيلة الوحيدة المتاحة لإعادة دورة العمل والاقتصاد بدون التضحية بالناس.. تتمثل فيما نفذته بالفعل كوريا الجنوبية، وتبدأ ألمانيا هذه الأيام فى القيام به، ألا وهو «Mass testing» أى إجراء «فحص جماعى» لجميع العاملين، وإذا أثبت الفحص وجود أجسام مضادة للڤيروس لديه.. يعود مباشرة للعمل، ولا توضع له أية محاذير، أو محظورات فى الحركة!! ويجب إصدار شهادة موثقة له بذلك. هذا ما تنوى ألمانيا فعله للتغلب على هذا التناقض.. بدمج الجانب الإنسانى بالمنطق الاقتصادى.
■ نصيحتى هى أن تستبق الدولة الأحداث.. بالاستثمار فى «الفحص الجماعى».. بدلا من انتظار وقوع مأساة، توقف دولاب العمل والاقتصاد. فى هذه الحالة سيكون أقل كلفة من البدائل!!
■ ربى كن فى عون متخذى القرار فى بلادى هذه الأيام.. لأن كل بديل آخر قد يكون له آثار جانبية خطيرة.. وعدم اتخاذ قرار الآن تبعاته ستكون أكثر وأكبر.. كما أن الوقوف فى منتصف الحلول يضع على كاهل المواطن أعباء كل أضرار القرارات المتأخرة، ولا يحقق له أيًّا من فوائدها.