الحرية والديمقراطية.. ماذا لو؟!
دائما ما أنظر وأتفحص ما سطره عقلى فى أوقات مختلفة من الماضى لأتعرف على ما طرأ على تفكيرى من تغيرات، وعلى واقع ظروف هذا الزمن لأتعلم، وأجعل للخبرة المكتسبة قيمة أكبر.
واليوم، والأسبوع القادم سأشارك القارئ فى مقالين، كتبا ونشرا عامى ٢٠١٠، قبل ثورة يناير، وآخر نشر فى ٢٠١٧. فتعالوا نقرأ ونقارن بلا حساسية، فقد تم نشر المقالين فعلا فى زمنهما وقبول ما بهما من أفكار فى ظل نظام حكم الرئيس الأسبق مبارك، ونظام حكم الرئيس السيسى. وسأبدأ بمقالى عام ٢٠١٠ تحت عنوان «الحرية والديمقراطية.. ماذا لو؟» يقول المقال عام ٢٠١٠.
خلال تجربتى السياسية عبر العشرين عاما الماضية تتابعت أفكارى واستقر فى وجدانى أولوية وحتمية الديمقراطية طريقاً لمصر للنهضة والتنمية. إلا أننى خلال الخمس سنوات الأخيرة، وفى إطار تجربة ثرية وملهمة فى مجال حقوق الإنسان داخل وخارج مصر، ظهر تساؤل كبير فى ذهنى.. ماذا لو؟
ماذا لو تحقق لمصر تطبيق المحور الرئيسى للديمقراطية فى انتخابات حرة نزيهة، كما تقول النخبة السياسية فى المعارضة الذين يؤكدون على كلمة «حقيقية» للتفرقة بين مظهر الديمقراطية الذى ترسمه إجراءات انتخابات تشريعية ومحلية، ورئاسية فى مواعيدها، والجدل حول نزاهتها ومصداقيتها، وتكرار الرغبة فى نزاهة انتخابات وحقوق المواطنين فى الترشح والإدلاء بالصوت والاختيار بدون ضغوط المال، أو العنف أو التأثير الحكومى على الناخبين الذين يدلون بأصواتهم، بنسبة ضئيلة للغاية تجعل الانتخابات غير ممثلة لرأى المجتمع، بل لرأى نسبة لا تزيد عن العشرين بالمائة فى الإعلان الرسمى، وعن خمسة فى المائة فى وجدان المجتمع بغض النظر عن برهان ذلك أو دقته..
فماذا لو كانت الانتخابات نزيهة مائة فى المائة، وماذا لو تضاعفت أعداد الناخبين، وماذا لو أدلى ملايين المصريين فى الخارج بأصواتهم، هل يحقق ذلك آمالنا، ونصل إلى تحقيق أهدافنا..
فماذا لو أفرزت الانتخابات أغلبية متعصبة أو ضيقة الأفق، لا تعترف بحقوق الأقباط مثلا أو تجعل من المرأة عورة يجب إخفاؤها.. ماذا لو أفرزت الانتخابات نظام حكم دينى يعود بمصر إلى مربع تخطاه الشعب المصرى منذ بداية عصر التنوير الذى قاده وأحياه مفكرون ينتمون إلى المعرفة الدينية الأكثر تسامحا وانفتاحا مثل محمد عبده ومن سبقوه وتبعوه من أئمة الفكر والتنوير مثل طه حسين والعقاد وأحمد لطفى السيد وقبلهم وبعدهم رفاعة الطهطاوى وقاسم أمين ومصطفى كامل ومحمد فريد وسعد زغلول وغيرهم ممن لا يسع مقال واحد لذكرهم بالاسم.
وماذا لو أفرز نظام الانتخابات خليطا من ذلك وهذا.. هل يتحقق لمصر فعلا ركيزة النهضة. إن تلك قضية فى غاية الأهمية، ويجادل فيها نخبة سياسية قائلة إن تلك هى الفزاعة التى تستعملها الدولة والحزب الحاكم لوأد فكرة تداول السلطة والاستمرار فى تزوير الانتخابات لصالح مجموعة واحدة تحكم منذ أكثر من ثلاثين عاما.. فإن كان الشعب- مهما- تدنت اختياراته يقرر فى إطار انتخابات حرة نزيهة، فليكن ما يكون!
والحقيقة التى يجب أن نعيها أن الغرب فى إطار تطور تاريخى تراكمى قد أدمج الديمقراطية والحرية معا، وأصبح عنصرا الديمقراطية الليبرالية متضافرين متناسقين فى وجدان هذه الشعوب فى نسيج سياسى لا يمكن فصل أحدهما عن الآخر…
أما فى عالمنا، فتعالوا نعترف بأن الديمقراطية، والكلام عنها، والمعارك حولها تزدهر، ولكن الحريات تتدهور وأن دعوتنا للديمقراطية هى دعوة ناقصة بل قد تكون كارثية إذا لم يندمج فى نسيجها ازدهار للحريات والفصل بين السلطات.. لقد أتت الديمقراطية غير الليبرالية بأدولف هتلر ولو كانت أجريت انتخابات حرة ونزيهة فى العراق أيام صدام حسين لكانت- من وجهة نظرى- أتت به ولو كان جمال عبدالناصر قد أجرى انتخابات حرة نزيهة، فبكل تأكيد لكان اختاره الشعب المصرى، وكل من هؤلاء الزعماء لم يحترم الحريات ولا حقوق المواطنين بدعوة حماية المجتمع، وكل منهم انتهى بكارثة وطنية، وتعالوا ننظر للتاريخ فسنجد نماذج أخرى كثيرة، فلم تؤد الانتخابات فى كثير من دول العالم الثالث إلى تحسن كبير فى الأوضاع، بل قد تؤدى إلى تحكم كبير لنظم أكثر رجعية منها فى ظل ديكتاتوريات قائمة بالفعل..
هل الخوف من التحول إلى ديمقراطية زائفة، أو تحول الحلم الجميل إلى كابوس، وفوضى وعنف وأشكال جديدة من الاستبداد! يمنعنا من حلم الحرية..
لماذا يطفو فى عقلى هذا القلق عندما أجد هذا العدد الكبير من البلدان النامية فى صعوبات بالغة لخلق مجتمعات مستقرة.. وكيف يتأتى لنا فى مصر التأكد من نجاحنا فى الانتقال الذى أرانا مؤهلين له..
لا شك أن الانتخابات الحرة النزيهة هى جوهر الديمقراطية، وشرط ضرورى لها لا مفر منه، وقد تفرز حكومات معدومة الكفاءة قصيرة النظر، وقد تكون حكومات غير قادرة على تبنى سياسات تنهض بالمجتمع.. إلا أن ذلك كله يجعل منها حكومات غير كفء، لكن لا يجعلها غير ديمقراطية. يتبقى أنه فى هذه الحالة ممكنة الحدوث فى مصر، وفى غيرها من الدول التى تنتقل إلى نظم ديمقراطية، أن يتم طرح السؤال الأهم، وهو: أين يكمن الرادع ألا تؤدى الديمقراطية لتحكم الغوغاء الذى ينتهى بالانقلابات العسكرية لضمان استقرار البلاد على حساب الحريات..
فى الغرب، استقرت التقاليد عميقة الجذور فى حماية الاستقلال الذاتى للفرد وكرامته من إكراه مهما كان مصدره سواء من جانب الدولة أو الكنيسة أو حتى أغلبية المجتمع فى إطار يحمى حقوق الأقليات والحريات لأنه يستند إلى تزاوج بين الديمقراطية والحرية..
أما عندنا، فمازالت هذه البديهيات غير مستقرة لا فى وجدان الحكام أو حتى الأفراد، فى إطار نظام تعليمى وثقافى لا ينمى ها التوجه، ولا يجعلها مستقرة فى الوجدان المجتمعى..
عندنا لا يوجد إطار مؤسسى واضح يمنع من يجلس على كرسى الحكم حتى لو أتى بإرادة شعبية حرة ونزيهة أو أى حكومة تأتى فى إطار أغلبية برلمانية حقيقية من عبور الكوبرى باستخدام صندوق الانتخابات، ثم إلى الاستبداد بالحريات والبقاء فى الحكم بدعوة المصلحة العامة والاستقرار فى إطار نظرة أيديولوجية خاصة أو تجمع مصالح يتم الاتفاق عليه أو إطار دينى يَفرض على المجتمع ثقافة بعينها ويمنع التعددية والمواطنة..
ماذا نفعل لجعل دعوتنا للديمقراطية، دعوة أيضا للحرية وحماية حقوق الأفراد.. وكيف نرشد آثار الانتخابات الحرة النزيهة إذا أتت بحكم ديكتاتورى جديد أو بفوضى عارمة تتنازع فيها المصالح…
إن الحرية هى الضمانة، ولا تمثلها الفوضى وإنما من قدر من النظام. إننا نحتاج إلى معالم إرشادية وقيود.. إن الأمن الحقيقى للحرية يرتهن بقوة بعض الأسوار الحامية التى تقيها.. وهذا هو ما أفرز الديمقراطية الليبرالية الحديثة عبر تراكم السنين الذى لا نملك أن ننتظره فى بلادنا.
إننا يجب أن نستعيد التوازن بين الديمقراطية والحرية، حيث تحتاج المجتمعات الديمقراطية إلى معالم إرشادية للتصدى لهذا الاحتمال الممكن.
يبدأ من ثلاثة تصورات، أولها بلا تردد هو العدالة والتطبيق الحازم للقانون، بدون انتقائية، وأن نفكر فى القانون باعتباره القيود الحكيمة التى تجعل المواطنين أحراراً، وعدم تمتع أى سلطة كانت، ومهما كانت درجة نزاهة من أتى بها، فى الاستمرار فى الحكم تحت أى ظروف أكثر من مدة محددة، وإن يقى الدستور المجتمع من أى نظام حاكم من تعديله لصالح بقائه أو التعدى على حقوق المواطنين أو استبعادهم من ممارسة حقوقهم.
ثانيها أن الديمقراطية والحرية كتلازم أساسى فى عدم الانتقال إلى الفوضى، يحكمه تطبيق العدالة وإحداث تطوير جاد داخل مؤسسة العدالة لضمان الحق، والقضاء على الفساد داخل إطارها، ليس من منطلق سياسى أو أيديولوجى ولكن من منطلق حيادى لحماية مصر من اللقطة القادمة.
ولا يمكننى أن أنهى هذا الجزء من مقالتى حول الديمقراطية والحرية إلا بالتأكيد على المحور الثالث وهو التعليم، حيث يظل هو المحور الرئيسى والأساسى لبناء الإنسان القادر على رؤية المستقبل من هذا المنظور. وهو أمر سأناقشه وسأظل أحارب من أجله مهما كانت العوائق والتحديات.
ونستكمل الأسبوع القادم بمعالجة من مقال 2017