الخميس , 19 ديسمبر 2024
الرئيسية / د. حسام بدراوي في عام 2024 / الحضور الوجودي المعرفي في مجموعة «الكيميرا» – بقلم د.اماني فؤاد

الحضور الوجودي المعرفي في مجموعة «الكيميرا» – بقلم د.اماني فؤاد

كتبت د.اماني فؤاد عن كتاب “الكيميرا” لد.حسام بدراوي ، مقالة في جريدة المصري اليوم بعنوان “الحضور الوجودي المعرفي في مجموعة «الكيميرا»”
واليكم نص المقالة:
يستكمل د. حسام بدراوى مشروعه الفكرى التنويرىّ، الذى بدأه منذ زمن، بمغامرة إبداعية جديدة، مجموعة نصوص سردية حوارية، تُضاف إلى إسهاماته فى الطِّب، والسياسة، واهتمامه بمنظومة التعليم فى مصر، وممارسته للكتابة الصحفية.
يستهدف الكاتب- بتلك المجموعة – الاقترابَ من عقْل وقلْب القارئ؛ بتوظيفه لعِشق البشر للسَّرد والحكايات، لتصِلَ رسائلُه – على مستويات متعدِّدة – لشرائحَ عريضة من المتلقِّين.
فى مجموعته القصصية المعنونة بـ«كيميرا» يمكن للقارئ أن يلتقط خلاصات أفكار، ظَلَّت مجالَ تأمُّلِ المفكرين والعلماء والمثقفين، ما نُطلق عليه بعض قضايا الإنسان الوجودية على الأرض. يتَمَثَّل الكاتب، فى القصص، ما انتهى إليه فى رحلة بحْثه الدائم، وتأمُّلاته فى الدِّين والسياسة والتعليم، فى منظومة القِيَم البشرية؛ ليُجسِّد أفكارًا من قَبِيل: طبيعة الطاقة الكونية، ومفهوم شديد الاتساع للربوبية، كما وَرَدَ فى نَصِّه «انتظار المعجزة»، العلاقة الخاصة بين الإنسان وخالِقه، وأشكال التواصل مع الله كما فى قِصَّتَيه «لحظة رهبة» و«اتساع الزمان»، رؤيته لمنظومة القِيَم، وهل الأخلاق مرتبطة بالتديُّن والصلاة أم أنها منظومة طبيعية فى الإنسان، وتُكْتَسب وتربَّى أيضًا، وأهمية الصدق مع النَّفْس ومع الآخَرين؟
فى نَصَّى: «الكيميرا»، و«النوم سلطان» يُبرِز الكاتب جوهرَ العِلم، وكيف أنه لا يتعارَض مع فهْم تنويرى متجدِّد للدِّين، وعى يلتقط جوهره، حيث المقاصد العليا للشريعة الإنسانية، كما يُبرز ويفسِّر الكاتب عودة الإنسان – مهْما اتَّسعت معارِفُه وثقافاته – لوَعْيه العميق، المرتبط بالوعى الجمعى الموروث، والكامن فى البشر، فى لحظات الخوف والقلق، بالرغم من إدراك الفرد أن الوعى الجمعى يخضع للأساطير، ولا يتوسَّل بالعِلم فى تفسير الظواهر، كما أنه يخالِف أحيانًا تطورات الأفكار، التى تُنتجها الحضارات البشرية.
كما يعالِج الكاتب نظراتٍ تاريخيةً فى الديمقراطية ومساراتها، وكيف حصلت عليها الشرائح المختلفة من البشر، وذلك فى قصص: «أحمد المنصورى.. وسقراط»، و«شلة المعاش.. وكلام فى الهوا»، وتظَل عناية د. بدراوى بالتعليم قيمة مهيمِنة على اهتماماته، حيث يؤكِّد – فى قِصَّتَيه «زيزو» و«الهدهد والإنترنت» – على ضرورة اللحاق بالمفاهيم الحداثية، ومتطلبات المجتمع المعاصِر وتحوُّلاته. وفى رؤى تتعلق بالمرأة وحقوقها، يجسِّد فى نَصَّى: «بى.. ودرويش» كيف تستغل الثقافة الذكوريةُ المرأةَ، ولا تُراعى حقوقَها أيًّا كانت جنسيتها.
فى كل قصة يختار الكاتب محورًا ثقافيًّا ومعرفيًّا، يحرص على طرْحه فى السَّرد، مثل قصته «اندماج الثقافات»، التى تُعد من أكثر نصوص المجموعة امتثالًا لروح القصة القصيرة، فيتحدَّث فيها عن عناية الثقافة الفرنسية بالجمال فى كل أشكال السلوك البشرى، وطبيعة ما تنتجه الثقافة، يقول: «كيف استطاعت ثورة الشعب من الفقراء، وكل فلاسفته، الذين أسَّسوا لمبادئ الحرية، وحق الفرد أمام سُلطة الأمراء فى القصور، والملوك على عروشها، فى حرفية فرنسية مدهشة، أن تدمِجَ تاريخَ هؤلاء الملوك دمجًا فى ثقافة شعبها، فى مزيج عجيب، نتَج عنه هذا الولع بالثقافة والعِلم والجمال»15.
تُعيد مجموعة د. بدراوى – بطبيعتها السردية المعرفية – طرْح أسئلة فنية ونقدية تشغل الباحثين والكُتاب، مثل: هل يمكن أن تنهض الكتابة الفنية للقصة القصيرة أو غيرها من الأنواع الأدبية على التحصيل والعِلم، مثل الإلمام بتاريخ القصة القصيرة وأشكال بنْيتها، وتقنيات كتابتها، والاطلاع أيضًا على منجَز أهم كُتابها سواء لدى العرب أو الغرب؟
يقول د. بدراوى فى المقدمة: «ولكنى تسلَّحت بنفْس المنطق، الذى أطلبه من تلاميذى، وهو أنه كلَّما زادت المعرفة؛ زادت القدرة على التلخيص».
وأحسب أن هذا المنطق يختلف عن منطق الكتابة الإبداعية؛ فالأمر هنا لا يخضع للمعرفة فقط – رغم أهميتها – بل يرتبط بالموهبة والجزء الفطرى، بالتقاط الإنسانى فى الحياة، وشِعرية التناوُل وكثافته، بالقُدرة على ابتكار بِنًى تشكيلية متنوِّعة، واقعية أو خيالية، بتشكيل الأساليب المجازية البديعة، بالتوليف بين مستويات فنية، بطرُق خاصة، لِفَكِّ شِفْرة الحياة بطريقة إنسانية غير مباشرة.
للفن والكتابة مقومات أخرى، مقومات تبدأ من أن الفن ذاته قفَز على القواعد، وعلى المتداوَل؛ من خلال التقاط الإنسانى للغاية، وخلْق الدهشة، ليس معرفة فقط؛ بل معرفة منصهرة فى المشاعر والأحداث، وممزوجة بهما، الفن يقدِّم لك المتعة التى تخاطِب منطقة خاصة فى الإنسان؛ منطقة بينية، بين العقل والقلب.
وغالبًا ما تنهض بنْية القصة القصيرة على اللقطات الإنسانية شديدة التوتر، اللحظات غير الاعتيادية، وما تتضمَّنه من مفارقات، ويتسرَّب الحكى فيها من الكاتب إلى مَسَام القارئ، وروحه دون عناء، دون الشعور بخطاب إصلاحى تعليمى، يطرح نظرياته فى الحياة، ويحاوِر تأويلاته لبعض القضايا، التى تنشغل بها المجتمعات.
وتتنوَّع التقنيات الفنية، التى يوظِّفها د. بدراوى فى كتابة النَّص القصصى، حيث تقوم قِصَّتُه «اندماج الثقافات» على بنْية الوهم، طيلة السرد؛ حيث يوهِم الكاتبُ متلَقيه بأنه يحكى عن امرأة، ويصِف مشهَد غواية مستخدِمًا الحوَاس البشرية كلِّها، والألوان والمُلابَسات المحيطة بمشهد لقاء وتعارُف، لتنتهى القصة بمفارقة أن الغواية لم تكن إلا من قطعة جاتوه، ولها كل هذه الممانعة، ثم الاستسلام، أنْسَن الكاتبُ قطعةَ الجاتوه، وأسند إليها صفاتِ البشر، من خلال وصْف المشهَد، والحوار مع ذاته والسفير الفرنسى.
يقول: «على الطاولة، وحولها الكثير، لكنها هى التى كانت تنظر إليه هذه النظرة، برغم أنها أتَتْ متأخرة.. التفت بعيدًا عنها، كى لا تتلاقى عيناه بها.. حاول بكل الطرُق – احترامًا لنفسه – ألَّا ينظر إليها، وفتَح أحاديثَ جانبيةً حول التحكُّم فى الذات.. التفت السفير الفرنسى.. وبدا متردِّدًا فى أن يقول له: لماذا تتجنَّبها بهذا الشكل، لا توجد مشكلة فى الثقافة الفرنسية فى انسجامكما منذ النظرة الأولى» 14.
كما يُنطِق الكاتبُ أيضًا الهدهدَ فى نَصِّ «الهدهد والإنترنت»؛ ليرصُد تحولاتِ الطبيعة من حولنا، وحول الكائنات، ويبيِّن آثار التكنولوجيا على البيئة، وضوضاء الإنترنت، الذى بات شبَكة شاسعة، تغطِّى الأرض والسماء.
وتنهض بنْية قِصَّته «على مقهى الربيع العربى» على الرموز الساخرة، حيث لا يقدِّم المقهى لزبائنه إلا مشروب الطغاة، ومشروب الدعاة، رغم ما يَنتُج عنهما من أمراض العبودية والذُّل والتخلُّف، هذا المقهى لا يقدِّم مشروب المساواة ولا العدالة، ولكلِّ بلد عربى مشروبٌ خاص بحالتها تزامنًا مع الربيع العربى.
الشرب على هذا المقهى بالإكراه، والأوضاع معكوسة، يقول: «ــ يا ابنى أنا الزبون وأنت الخادم لى، ــ هههه.. عندنا الزبون خدَّام الخادم.. أنت ما فهِمْتِش لِسَّه؟» 19 فى هذه القصة يُعرِّض الكاتب ببعض المفاهيم السياسية المغلوطة، فى أوطاننا.
كما يمكن أن نَصِفَ نَصَّ «انتظار المعجزة» بالقصة الفلسفية العلمية الأنثروبولجية، فدكتور علاء علوانى عِلمى التفكير، لا يؤمِن بالمعجزات، حيث المعجزة الحقيقية هى خلْق الكون والإنسان وكل الكائنات بنظام، ولن يدلِّل الله على نفسه بخَرْق نظامه، ويفسِّر د. علاء تأثُّرنا بمواقفَ عاطفية بقوله: «حقيقة الأمر أن الفكر الجمعى للبشر، بتراكُم آلاف السنين، يؤثِّر فى العقل الباطن، ويجعل فكرة تدخُّل الله فى جزيئات الحياة موجودة، رغم استبعادها من العقل الظاهر» 24، 25.
فى أطول نصوص المجموعة؛ «الكيميرا»، تنساب سردية اجتماعية عِلمية، لترصُد ظاهرة نادرة الحدوث، حيث تكتشف ليلى – ابنة المهندس المتفتِّح – أنها حامل فى شهرين، رغم تغيُّب زوجها لأكثر من ثلاثة شهور، فتبدأ مناقشات العائلة حول ضرورة إجهاض الحمْل، رغم ثِقتهم فى أخلاق ليلى، وحُسن تصرُّفها، لكنَّ خوفَهم من الزوج، وتقوُّلات المجتمع؛ يجعلهم يقرِّرون ضرورة إجهاض الجنين، دون عِلم زوج ليلى، ترفُض ليلى، وتختار أن تصارِح زوجها، لكنها تُجهض دون تدخُّل خارجى، لتتكشَّف – مع الوقت – ظاهرة نادرة الحدوث، اسمها «الكيميرا»، وهى أن تحمَل المرأة من نفْسها وخلاياها، فى هذه القصة يطرح الكاتب ضغْط سُلطة المجتمع، على تقرير حياة الشخوص، وبعض المقولات الموروثة عن علماء دِين، يتعيَّن أن تُراجَع مع التطورات العِلمية المعاصِرة، كما يؤكِّد الكاتب على رُقِى الأخلاق الفردية، بغَض النظر عن الصلاة، أو الخوف من العقاب.
ينفتح الفضاء السردى بالنسبة لتِقْنيتَى الزمان والمكان فى معظم قصص المجموعة؛ حيث تعالج خلاصة أفكار فلسفية دينية سياسية اجتماعية تعليمية، لذا لا يتعين تحديديات زمنية أو مكانية، لكننا بالطبع نشعر بعَصْرَنَتِها، ووقوعها فى محيطنا الجغرافى.
وقد يَرِد على ذِهن القارئ للمجموعة تحديد المسافة بين شخصيات قصص مجموعة «الكيميرا» وشخصية د. بدراوى، وأحسب أن معظم شخصيات القصص قد اكتست ببعض الملامح الفكرية للكاتب، ولذا قد يتبلور السؤال بطريقة أخرى: ما هى المسافة التى يتعيَّن وجودوها بين شخصية الكاتب وشخوص نصوصه؟ ألا يظَل تعدُّد شخوص العمل مجرَّد تنويعات على تيمة واحدة، وليس شخصيات متفردة بِلَزْمَاتها ورؤاها المختلِفة فى كل نَصٍّ قصصى؟.
تتشكل معظم قصص مجموعة الكيميرا تعليمية، قصص معرفية، اتساقًا مع ما نُطلق عليه رواية معرفية أو معلوماتية، ولذا تميل اللغة للتقريرية؛ حيث الهدف توصيل محتوى فكرى واضِح المَعالِم.

التعليقات

التعليقات