الحكمة.. برتقالى
حسام بدراوي
يومياً نسمع قصصا عن تبدل أخلاق ومبادئ البعض من الناس الذين بينهم صداقة قوية دامت لبعض الوقت، ثم انهارت مع أول تحدِّ، أو الزيجات التى بدأت بالعشق والغرام ودامت سنوات وبعدها بدأ البغض والمحاكم والصراع.
فالشخص الذى كنت بالأمس معجبا به وبقدراته وحسن تفكيره، يتغير اليوم وينقلب عليك وتنقلب عليه، وتبدأ حالة من الجذب والشد معه وتتحول مشاعر التقدير إلى مشاعر عدائية. هل هذا السلوك لطبيعة فى الإنسان؟!!، أم لقصور فى إدراك صفات الأصدقاء والأحباء وقت الرغبة والاحتياج!!، لذا يُفاجأ الناس بما فى الآخرين فى لحظه بعينها، وقد لا تكون هناك فى الحقيقة مفاجآت.
يقول الإمام على بن أبى طالب: «أحْبِبْ حبيبك هونا ما، عسى أن يكون كريهك يوما ما، واكره عدوك هونا ما عسى أن يكون حبيبك يوما ما».
والسؤال هنا: هل يجب أن يكون الحب متوازنا بلا تطرف، وأن تكون الكراهية والعداء بغير مبالغة وظلم واعتداء؟ وهل من المطلوب التمهل والصبر والتحمل؟ فليس الناس دوما يتحدثون ويفعلون كما نريد ونحب، فهناك اهتمامات مختلفة للبشر، ومصالح قد تتوافق وقد تتعارض أحيانا. وهناك أولويات فى حياة كل إنسان قد لا يعرف أنها أولوياته إلا حين تتعرض للمخاطر حتى من أَحَب الناس إليه.
لذا يجب ألا يكون العداء مطلقا وحتميا ودائما، بل علينا أن نجعل دوما طريقا للعودة والتراجع، وإذا أغلقت بابا، افتح شباكا. وبالمثل فى مجال المحبة والصداقة، لا تستنزف مشاعرك بشكل عبثى، وإنما اجعل خط التوازن ماثلا وموجودا بشكل دائم.
ولكن هناك فكرة معاكسة أكثر تشويقا تقول إن التوازن يأتى من حكمة الخبرة ومن طول معايشة الناس، لكنه أيضا يأخذ من فورة الشعور الذى يُؤتى أعلى درجات متعته من بعض التطرف فى القرب والمحبة والغرام والغيرة التى تجعل المشاعر ملتهبة.
الحكمة تجعل المشاعر المتوازنة طويلة المدى، وتأخذ قليلا من النشوة، وتطرف المشاعر يعطى نشوة قد لا تطول ولا تعيش العمر مع الإنسان.
حتى فى السياسة فإن القادة الذين حركوا الشعوب وغزوا البلدان وأنشأوا الإمبراطوريات كانوا غالبا من متطرفى الفكر والتصور والفعل.
فأيهما أقرب إلى عقلك ووجدانك؟
أعدت قراءة ما كتبت كما هى عادتى، وفكرت فى نفسى عبر الزمن وما طرأ علىّ من تغيير. وجدت أننى قد عشت فى شبابى فورة الأحاسيس، وتمتعت بالفوز بقوة، ولابد أن جسدى كان يفرز أطنانا من كيمياء الانفعال، ولكنى فى نفس الوقت كنت أغضب بشدة وألوم ولا أقبل هزيمة.
وبمرور الوقت تَغَيرت، جزء منى تغير إراديا حيث كنت غير راض عن نفسى فى الاندفاع نحو انتقاد الآخرين بحدة، وجزء منى تغير بموجات خبرة وحكمة الحياة، والقراءة وصداقة بعض من وضعهم القدر فى طريقى.
أصبحت أنظر إلى أفضل ما فى الناس حولى، وأبحث عن الجمال فيهم. وجمحت جماح غضبى فى لحظات الإخفاق.
زاد تقديرى للصداقة وقل إحساسى بفوران العشق والحب!!!.
انقلبت حياتى تدريجيا وبإرادتى إلى الاعتدال فى كل شىء، ففقدت جمال وشدة الانفعال وكسبت استدامة المحبة.
كنت، وأنا طالب، ثورجيا، أريد تغييرات فورية، وأصبحت بمرور الوقت إصلاحيا يرى أهمية استدامة التدرج والتخطيط للوصول إلى الهدف. إنها حكمة وخبرة الحياة والقدرة على الاختيار.
كل شىء نفعله فى حياتنا نملك فيه اختيارا حتى وإن كنا نظن غير ذلك.
وفى توارد للخواطر بمحبة واحترام مشترك أرسل لى صديقى د. أحمد الجيوشى رسالة عن مقال للأستاذة سناء البيسى حول د. زكى نجيب محمود تقول فيه على لسانه فى حوارها معه: «كنت فى شبابى حاد الانفعال قوى العاطفة، خصوصًا إذا كان فى الأمر اختلاف على رأى، فمهما يكن الموضوع الذى يدور حوله الجدل، فقد كنت أدافع عن فكرتى فيه بحرارة ملتهبة مشتعلة، وكأن الحياة كلها ترتكز على صواب فكرتى.. وكنت شديد الحزن إذا خسرت فى اللعب، شديد الفرح إذا فُزت فيه، وكانت عروقى تغلى أيامًا طويلة إذا ما غضبت لإهانة لحقتنى ولم أستطع ردها، كما كان دمى يوشك أن يجمد كلما أصابتنى خيبة فى رجاء كنت أرجوه.. لقد علمتنى الحياة برودة العواطف، وعلمتنى أن العاطفة الحادة معناها عجز فى قوة التفكير.. نعم إن لذة الحياة قد نقصت حين بردت العواطف فى نفسى، لكن آلام الحياة كذلك قد نقصت تبعًا لذلك.. ولست أتردد فى أن أختار القليل من اللذة والألم معًا، على الكثرة منهما معًا، فإذا لم تعد لى لذة الحب العنيف الذى يتمتع به الشباب، فإننى، إلى جانب ذلك، مستريح البال من أوجاعه وآلامه، ولئن كان الشاب يعرف الحب، فالشيخوخة تعرف كيف تكون الصداقة؟ وما الصداقة إلا حب هدأت فيه العاطفة، وزالت عنه شرورها، والتزام الواقع فى هدوء بعيدًا عن صخب العاطفة وصراخها هو بعينه ما نسميه بخبرة الحياة.. وما أغزر الدماء التى أراقتها حروب النزوات الفردية، وكم كان الناس يكونون سعداء فى فردوس أرضى لو هدأت عواطفهم بين جنوبهم، فلم تدفعهم دفع الضلال الأعمى».
هل يمكن تسمية تلك المرحلة الناضجة فى حياتنا باسم «البرود العاطفى؟».
«هل يسعدنا ذلك أم يشقينا؟!!!».
بعد أن قرأت مقال الأستاذة سناء البيسى، أغمضت عينى وتعجبت من توارد الأفكار مع الفيلسوف الدكتور زكى نجيب محفوظ، وتذكرت ما كان له من تأثير كبير علىّ. فعندما دخلت الانتخابات أول مرة ثم بعد ذلك أثناء مسيرتى السياسية كانت مقولته لى حول «قوة المستغنى» من أبرز ما شكل وجدانى السياسى.
ولعل إيمانى بهذه الفلسفة السياسية الإنسانية هو ما أبعدنى عن المناصب الوزارية، أكثر من مرة، وسبّبَ حيرة القيادات السياسية حيث كانوا دائمى السؤال «انت عاوز إيه؟».
ولأنى فعلا كنت مستغنيا، فقد كنت أقوى وأقدر على الاختيار والاعتذار عن تكليفات لا تناسب فلسفتى، مما حير أحيانا أولى الأمر فى نواياى لأنهم لم يصدقوا أنى فعلا مستغنٍ.
كذلك كان للأستاذ خالد محمد خالد أثر وتأثير، فقد كان صديقا رغم فارق السن، وكان دائم الدخول لمستشفى النيل بدراوى للنقاهة، مما أتاح لى وقتا طويلا للحوار معه.
فوجئت به يكتب فى آخر كتبه قصتى مع الحياة: «الدكتور حسام بدراوى.. طبيب ماهر ميمون.. يمنح جواز المرور لكل قادم إلى الحياة من عالم النطف والأرحام.. ثم هو إنسان عذب الروح.. نقى السريرة.. عف اللسان، يذكر الناس بخير ما فيهم ويشيد بفضل ذوى الفضل فيهم، ألا حقا ما يقوله الشاعر العربى إن العظائم كفؤها العظماء».
تأثرت جدا بملاحظته، وأصبحت أكثر وعيا بهذه الصفات فى نفسى، بل وعملت على تأكيدها فى وجدانى، وكأن خالد محمد خالد قد كشف لى عن حقيقتى فازددت تمسكا بها وعملت على تنميتها.
وفى توارد آخر للخواطر مع صديقتى المثقفة قالت لى: لا أراك فى حالة برود عاطفى ولا اعتدال ممل، كما يحدث مع الآخرين، بل أحس توازنك بشكل مختلف. التوازن فى تكوينك قد يكون فى الانتقال من تأجج عاطفة الشباب واندفاع ولذة أحاسيسه إلى حكمة النضج والتحكم فى المشاعر والتأنى والتروى، فقد يكون التوازن أيضا فى الجمع بينهما والتمسك بهما معا، فى سبيكة الكيان الإنسانى. كل عاطفة جياشة فيها نشوة وحكمة، ووراء كل حكمة عاطفة جياشة. وبلغة الألوان، فإن اللون البرتقالى، مثلا، هو أزهى الألوان وأكثرها دفئا ولفتا للانتباه، وهو ليس درجة متوازنة بين الأصفر والأحمر، بل هو جمع وخلط ومزج متجانس بينهما. كذلك العاطفة والحكمة لونهما برتقاااااالى.
لقد كان من رضا ربى علىّ أن وضع فى طريقى أمثال أصدقائى الحكماء وأمثال أساتذتى فى المدرسة والجامعة، ورواد صناعة فكرى: الأستاذ العقاد، والدكتور طه حسين، والدكتور زكى نجيب محمود، والأستاذ خالد محمد خالد، والإمام على بن أبى طالب، وغيرهم، فكل واحد منهم كان له أثر فى تشكيل ثقافتى وتحديد هويتى، وأخذت منهم ما أريد لنفسى لبناء وجدانى، فأصبحت أنا من هو الآن