علي مقهي “الحالمون بالغد”
الحوار الوطني و العدالة الإجتماعية….
قال الشاب : ما هو مفهوم العدالة الإجتماعية يا دكتور فقد أصبح غامضا وغير محدد أمامنا ؟ وأين موضعه في الحوار الوطني؟
قلت : انني أري أن هناك فلسفتان مختلفتان تتعاملان مع العدالة الاجتماعية: الفلسفة الأولي تتعامل مع العدالة الاجتماعية كنتيجة يتعين الوصول إليها بغض النظر عن عدالة الوسائل حتي لو افقرت المجتمع كله ، مثلما فعلت الشيوعيه وكما يدعو بعض السياسيين في مصر الآن، والفلسفة الثانية تتعامل مع العدالة الاجتماعية أنها عدالة تكافؤ الفرص ومكافأة المجهود وفي نفس الوقت إتاحة خدمات وحقوق معينه للجميع كالتعليم والرعايه الصحيه والمواصلات العامه والصرف الصحي والمياه النظيفه مثلا بغض النظر عن تفاوت الدخل. ولا تتحقق العدالة الاجتماعية بدون الإنفاق علي البنية التحتية و الحفاظ علي البيئة وتمويل مؤسسات العدالة (القضاء وخدماته) ومؤسسه الدفاع عن الوطن ( الجيش) ومؤسسات تطبيق القانون ( الشرطه) وهي الفلسفة الأقرب الي عقلي ووجداني في تحقيق حد معروف من الحقوق وفي نفس الوقت مكافأة العمل والاعتراف بتعدد واختلاف القدرات والرزق.
ولقد أثبتت الدراسات والتجارب أن السياسات الاقتصادية التي تعضد الاستثمار في القوي البشرية وتكافؤ الفرص تسهم في دعم النمو الاقتصادي والتشغيل وتحقيق العدالة الاجتماعية اكثر من مجرد الأخذ من الأقدر والأغني للتوزيع علي الأفقر و الأقل قدره.
بناء القدرات وتوفير الفرص يحقق عدالة اجتماعية ، ويتحقق تكافؤ الفرصة من خلال الإنفاق علي نظام تعليم أساسي وعالي لا يفرق بين الغني والفقير أو المهمش، ونظام أساسي للخدمات الصحية لا يميز بين الطبقات، وسبل انتقال عامة كريمة ، ومناخ أعمال شفاف يمنع الاحتكار ويحمي أصحاب الأعمال الصغيرة ويضمنهم في العملية الإنتاجية وفي خلق فرص عمل كريمة وتوليد دخول لأسرهم. فإذا قامت الحكومة بدورها في وضع لبنة الفرص المتكافئة بشفافية للجميع ،فسيسهم الجميع من خلال عملهم في تحقيق النمو الاقتصادي – (زيادة حجم الكعكة) – ونمو الدخل لجميع العاملين من خلال جني ثمار هذا النمو الذي يساهم فيه كل العاملين – أي نصيب أكبر من الكعكة لكل مجتهد. ومن خلال ثمار هذا النمو تتاح الفرصة لإعادة توزيع نسبه منه علي المهمشين كما تم تعريفهم.
سألت زميلته : وعلي من تقع مسئوليه تحقيق العدالة الإجتماعية ؟
قلت : إن تحقيق العدالة الاجتماعية بهذا المفهوم يقع علي الدولة كمنظم وضامن للحقوق، وعلي المواطن القادر علي استعمال أمواله لخلق فرص عمل جديده ، و العامل بجهده واتقانه لعمله لتحقيق مزيد من الدخل والرفاهية له ولأسرته ومجتمعه .
وتحتاج مثل هذه السياسات الموجهة لتحقيق النمو الاقتصادي والعدالة الاجتماعية إلي موارد ضخمة ، واداره كفء ، ورؤيه واضحه للدوله وواضعي السياسه.
عاد الشاب الأول ليسأل : وأين تقع منظومه الضرائب في تحقيق هذه العدالة.؟
قلت : يواجه إرساء منظومة ضريبية كفء ومنصفة عدة تحديات في الدول النامية التي تكون الأعمال الصغيرة والأعمال غير الرسمية التي لا تسهم في دفع الضرائب نصيب كبير من الاقتصاد، إضافة إلى تهرب الكثير من أصحاب المهن المنزلية والحرة التي لا تتعامل بايصالات .. سنجد في مصر ان اقل من عشرين بالمائه من المؤسسات تسدد اكثر من ثمانين بالمائه من الضرائب لعدم ادراج جزء كبير من الأعمال في رادار القطاع الرسمي المعًروف ،لأن نظام التحصيل الضريبي يكون أحيانا ظالم بتقديرات جزافية ظالمة للشركات الصغيرة والمتوسطة واصحاب المهن الحرة و تجعل الكثيرين متهربين بل وتدفعهم للخروج من سوق العمل ، وحتي ذلك يكون صعباً لأن الخروج من سوق العمل ليس ميسراً .
الضرائب ليست هدفاً في حد ذاتها ولا هي عقوبه علي الغني لمجرد انه يجني ارباحا ، لأن الدولة ليست شركة هادفة للربح. وبالتالي فإن المستويات المطلوبة من الإيرادات الضريبية تختلف من دولة إلى دولة حسب قدرتها علي توفير الخدمات التي يقررها المجتمع. إن هدف العدالة الاجتماعية يتحدد في الأصل بمجالات الإنفاق العام و تلعب الضرائب دورا هاما لتحقيق هذا الهدف.
اذن فإن دور الضرائب في تحقيق العدالة الاجتماعية يتحقق بتمويلها بكفاءة لأوجه الإنفاق العام بصورة منصفة للفقير والقادر علي حد سواء. وتكون الضرائب منصفة للفقير بكونها تشاركية تكافلية بمعني أن للفقير نصيب من دخل كل مجتهد كاسب للعمل يشارك بنسبة محددة من دخله للانفاق العام لدعم التكافل الاجتماعي والتمكين العادل للفرصة، ومنصفة للقادر بأنها تحقق الكفاءة الاقتصادية، فلا تقضي علي حافز العمل أو تتسبب في هروب الاستثمار خالق فرص العمل . إننا يجب أن نضع في الاعتبار ان مصر تنافس دولا أخري في جذب الاستثمار الي السوق المصري لأن قدرتنا الذاتيه علي الأقل في الوقت الحالي لن تستطيع خلق مليون فرصه عمل سنويا لتستوعب احتياجات الزياده السكانيه المتصاعده . إن نمو الاستثمار وتحصيل الضرائب من ارباحه يساهم في توفير الخدمات ومناخ الأعمال الذي يمكن الجميع من الإنتاج والإبداع والنمو. فكلما زادت القدرة علي العمل والإنتاج وتحقيق الأرباح كلما زادت معدلات النمو و إتسعت الكعكة الاقتصادية، واتسعت القاعدة الضريبية – أي زادت معدلات و مستويات الضرائب بسبب زيادة عدد المشتغلين من ناحية، وزيادة الدخول الناتجة عن النمو الاقتصادي. ومن هنا يتضح أن السياسة الضريبية يجب أن تحقق مزيجاً أمثل من الكفاءة الاقتصادية والعدالة الاجتماعية.
وحسب فهمي غير المحترف فإن الضرائب تنقسم إلى ثلاثة أنواع أساسية هي الضرائب علي الدخل والضرائب علي الاستهلاك وضرائب مستخدمي الخدمة. وفي الدول الصناعية يأتي النصيب الأعظم من التمويل من الضرائب علي الدخل ثم ضرائب الاستهلاك بأنواعها مثل ضريبة المبيعات والقيمة المضافة حيث تعتبر هذه الدول أن ضرائب الاستهلاك ضرائب غير عادلة لأنها تُفرض علي السلع التي يشتريها الفقير والغني بنفس النسبة. والطريقة الوحيدة للإعفاء من هذه الضريبة هي “عدم الاستهلاك” اي تفادي الشراء وقد يتفادي الفقير شراء الألبان والوجبات للأطفال. وبالتالي يتضرر الفقراء منها أكثر من الأغنياء. لذلك يجب أن تختلف نسبة هذه الضريبة حسب نوع المنتج وكيفية استفادة أو ضرر المجتمع منه لتحقيق العدالة.
أما في مصر فإن ضرائب الاستهلاك هي النصيب الأعظم من إيرادات الضرائب وهي تحقق غرض زيادة الإيرادات بدون تحقيق هدف التكافل.. فإذا أرادت الحكومة مثلا تحقيق العدالة الاجتماعية من خلال المنظومة الضريبية يتعين عليها إعادة دراسة المزيج الضريبي الحالي وكيفية تحقيق المزيج الأمثل بين الكفاءة الاقتصادية والعدالة الاجتماعية. ولكن يجب البدء أولاً بكيف يمكن أن يحقق الإنفاق العدالة الاجتماعية المطلوبة، ثم ما هو المزيج الضريبي الأمثل الذي يحقق الموازنة بين الكفاءة الاقتصادية والإنصاف لدافعي الضرائب والعدالة الاجتماعية.
ان العدالة الاجتماعية تتأتي بتوفير حقوق المواطن من الخدمات العامه كما قلت في التعليم والرعايه الصحيه والنقل العام والبنية التحتية وتطبيق القانون علي الجميع وتحقيق تكافؤ في الفرص لكل مواطن بناءا علي قدراته ومهاراته وليس علي مجرد وجوده . وكل ما أذكره هنا يحتاج الي تمويل من المجتمع واداره كفء من الحكومه ورقابه علي الانفاق العام ليحقق اهدافه المعلنة. فإذا جاءت حكومه وسددت ديونها الخارجية من حصيلة الضرائب أو ثبتت عمالة زائدة أو صرفت مكافآت عن أرباح لم تتحقق أو تعسفت لتغلق مصنع أو وحدة انتاج فانها وإن أرضت فئه من المجتمع الا أنها بالقطع قد انتهكت فلسفه العدالة الاجتماعية للكل لصالح فئة بعينها وان كان لها حق من وجهة نظرنا ونظرها.
اضيف الي ذلك ان المجتمع المدني المصري قوي وقادر علي مساندة الدولة والمواطنين في اطار مؤسسي لدعم العدالة الاجتماعية ، ولكنه يحتاج لتيسير دوره في الحصول علي تمويلاته من المجتمع المحلي والدولي ، بدون عوائق ، طالما في اطار القانون وبشفافية.
إنني ومن خلال هذه المقاله ،وأنا غير متخصص وأتكلم بلغة المواطن الذي يدرس ويدقق فيما يتم تداوله سياسيا، علي الساحه، اردت أن اشارك الرأي والفهم لعبارات يتم تداولها وشرحها بغير معناها مما يؤدي الي عكس المقصود منها. فكم من الجرائم يتم ارتكابها تحت اسم العدالة الاجتماعية في المجتمع!! ونريد من الحوار الوطني ان يلمس هذه القضية من خلال رؤية مصر 2030 التي تؤكد محورية العدالة الاجتماعية ..