الدولة المدنية الحديثة المستقرة.. حوار حول الشباب ومع الشباب
حسام بدراوي
فتح الشباب معى موضوعًا يشغلنى منذ زمن، وهو سياسات الدولة فى التعامل مع الشباب.
قال الطبيب الصغير فى السن، الكبير فى العقل، سائلًا:
هل تغيرت المنطلقات الفكرية الحاكمة للتعامل مع الشباب عبر الزمن يا دكتور، وقد عايشتَها شابًا ورجلًا وسياسيًا وأكاديميًا؟
قلت: بالمراجعة التاريخية يمكننى القول إن المرتكزات الأساسية لثورة يوليو ٥٢ اعتمدت على قيام أجهزة الدولة بلعب دور الوصى على أفكار الشباب ورؤاهم. وتدخل النظام وحزبه الحاكم أيًا كان اسمه فى تحديد أهداف العمل مع الشباب بغرض إثبات أيديولوجيا محددة تميل الى اليسار الاشتراكى فى وجدانه مع التركيز على تهميش دور الشباب المنتمى لأى تيار أو أى توجه آخر له سياسة معارضة أو حتى مختلفة.
لقد ارتبطت توجهات الدولة باستخدام الشباب لخدمة أهداف النظام السياسى فى كل مرحلة كما حدث فى عهد الرئيس ناصر واعتماده على التنظيم الطليعى لمنظمة الشباب، ثم عهد الرئيس السادات وسياسته فى دفع الإخوان والتيارات الإسلامية لمواجهة التيار الناصرى داخل الجامعات، والتى انتهت باغتياله بواسطتهم. وبعد ذلك فى فترة حكم الإخوان باعتمادهم على شباب الإخوان فى فرض سيطرة على الشارع ومحاصرة مدينة الإنتاج الإعلامى والمحكمة الدستورية وخلق شبه جيش نظامى موازٍ لجهاز الشرطة يفرض الطاعة ويعاقب المختلف معهم.
غير أن هذه الرؤية التى ظن أصحابها أنها كانت صالحة فى فترة الحكم خلال العهود الثلاثة لثورة يوليو، ثم عهد الإخوان، لم تعد صالحة فى الفترة الحالية ومرحلة إعادة بناء الدولة.
وأرى الآن محاولات جديدة قديمة، لنفس المنهج فى تنسيقية الأحزاب، وتكليف حزب واحد، بدون أيديولوجيا للقيام بدور الحزب الحاكم شكلًا، وكلنا نعلم أنها إعادة لصياغة ما فشل سابقًا وكأننا لا نتعلم من الماضى.
إن ما يشهده المجتمع من تنوع فى الأفكار والرؤى يمثل تحديًا خطيرًا فى حد ذاته، ومن الواجب وضع تصور للتعامل معه ايجابيًا، ليس بالمنع ولا بالإجبار ولا بخلق تيار أحادى جديد، ولكن بالعلم والمعرفة والخبرة والعمل الجاد مع الشباب فى إطار رؤية جديدة.
ويكمن التحدى فى عدم تعود الأطراف المختلفة على وجود الآخر، وفِى نفس الوقت عدم تعود أجهزة الدولة المعنية بالشباب والأمن على التعامل مع التعددية التى هى أساس الدولة المدنية الحديثة.
قالت شابة أخرى: هل من الضرورى أن يكون للدولة توجه مع الشباب أم يُتركوا لأفكارهم؟
قلت: أنا أرى أنه من الضرورى بلورة سياسة عامة جديدة للشباب تلتزم بها أجهزة الدولة، فى مواجهة ازدياد جاذبية أفكار التطرف والعنف، ومواجهة أخطار حقيقية مرتبطة بغياب القيم فى التعامل وخلق ثنائيات متضادة بين الأديان وحتى داخل إطار الدين الواحد، وغياب أسس المواطنة واختيار عدم الإيمان بشرعية المؤسسات واللجوء إلى الشارع لأخذ ما يُظن أنه حق بالعنف والتخريب للتعبير عن المطالب والاحتياجات.
إذا لم تقم الدولة سياسيًا بخلق المناخ لذلك، ستقوم به جهات أخرى. لا يوجد فى السياسة فراغ، حيث دائما سيملؤه الأكثر تنظيمًا وتمويلًا واستعدادًا.
قال شاب ثالث: وضّح لنا أكثر، أليس وجود سياسة معلنة للشباب معناه توجيههم لأفكار محددة من جيل أكبر منهم قد تكون غير مناسبة للمستقبل؟
قلت: إن وجود رؤية كلية للتعامل مع الشباب، يجب أن تنهض على أساس خلق الدولة المدنية الحديثة، التى أقر بها دستور البلاد التى تعيش بدون طوارئ ولا استثناءات، والتى يتمتع فيها الشباب بتكافؤ الفرص والمساواة بغض النظر عن انتماءاتهم السياسية أو الدينية أو الفكرية فى إطار القانون العادى.
ولابد لنا أن ندرك صعوبة التفاف الشباب حول رؤية تتكلم عن التعددية واحترام الاختلاف وتبادل السلطة أمام الرؤى التى تستخدم الجهل والاحتياج فى اجتذاب الشباب لأيديولوجيات دينية أو دنيوية فى توجه أحادى الفكر ينتهى بالطاعة العمياء وتصلب فى المواجهة ويؤدى إلى الرجعية.
قال الطبيب الشاب: من تقصد بالشباب؟!
قلت: أنا أقصد المرحلة من ١٤ إلى ٢٩ عامًا، حيث إن التعامل مع الشباب قبل سن الـ٢٤، (حيث يتواجد الجميع فى المؤسسات التعليمية ويمكن الوصول اليهم وتجميعهم)، وهى مرحلة فيها حِدة ونمو وحركة، يختلف عن مرحلة بعد سن ٢٤ سنة، حيث يبدأون فى التوظف وبدء عائلة والبحث عن سكن وتحمل المسؤولية. والمرحلتان تختلفان عما يأتى بعد ذلك من السنين.
قالت شابة نابهة: وما العقبات أمام وضع سياسات لكل مرحلة، تبدو الأمور يسيرة وممكنة؟
قلت: إن صياغة هذه السياسة أمامها تحديات، أهمها:
تأصل ثقافة الاعتماد على الدولة، الأب والأم، التى تنفق وتدعم وتوظف وتضمن، وهو أمر أصبح غير ممكن فى كل اقتصادات العالم، ناهيك عن الدول التى تنفق أكثر مما تنتج، ولكن تظل الدولة عندنا مستخدمة أسلوب تقديم الخدمات كوسيلة لضمان الولاء رغم إعلانها فلسفة تختلف عن ذلك.
التحدى الثانى: هو تحدٍ ثنائى، يتمثل فى قلة عدد الجمعيات الأهلية الشبابية المنوط بها مناقشة هذه السياسة، ثم تنفيذها، وعدم ثقة النظام الحاكم فى هذه الجمعيات القليلة، وتوجس الأمن فى أى نشاط لها يحتوى الشباب، ومن ثم عدم تمويلها بالقدر الذى يسمح لها بالمشاركة فى هذه السياسات.
التحدى الثالث: أن فلسفة تكوين الحكومة فى مصر تجعل من الوزارات المختلفة جزرًا منعزلة عن بعضها، مما قد يستلزم فى وقت ملائم ضم ملفات التعليم والثقافة والإعلام والشباب فى بوتقة واحدة تتكلم نفس اللغة وتساند بعضها البعض فى تحديد هوية الأطفال والشباب والعمل على غرس القيم الإيجابية فيهم.
التحدى الرابع، والأهم، هو الاتفاق على فهم مشترك لما يدعو إليه دستور البلاد ونظامها السياسى من معنى الحرية وكيفية بناء الدولة المدنية الحديثة التى يقع الشباب فى قلبها.
قال الشاب الذى فتح الحديث: وما هى الرؤية لشباب مصر التى تود مشاركتنا فيها؟
قلت: لقد اجتمعت مع مجموعات مختلفة من الشباب، من الطلبة، ومن الأحزاب، ومن باقى المجتمع المدنى، فى إطار جمعية «الحالمون بالغد»، وقد خرجنا برؤية تقول: «إن رؤيتنا هى تمكين شباب البلاد من الوصول إلى كامل إمكاناتهم الذهنية والجسدية والروحية، ومن خلالهم تمكين مصر من تحقيق رؤيتها التنموية وإيجاد مكانتها التى تستحقها بين شعوب العالم».
ومن أجل تحقيق هذه الرؤية تم رصد خمسة أهداف عامة، ورصد أولويات محددة داخل كل هدف والسياسات الواجب طرحها وتنفيذها فى كل أولوية.
١- خلق قوى منتجة قادرة على الإضافة المستدامة للاقتصاد المصرى.
٢- تنمية جيل شبابى قوى وصحى مُمكَّن تكنولوجيًا، معتز بذاته وبتاريخ بلاده، مسؤول، يحترم المواطنة، مبدع ومستنير وقادر على المنافسة الإقليمية والعالمية.
٣- زرع مجموعة من القيم الإيجابية المحددة فى وجدان الشباب وتنمية الرغبة فى خدمة المجتمع والإحساس بالانتماء الإيجابى إلى الوطن.
٤- تيسير مشاركة الشباب فى العمل المدنى والجمعيات الأهلية بل وتحفيزهم.
٥- مساندة الشباب المعاقين أو المهددين بمخاطر صحية فى الاندماج فى المجتمع، والتأكيد على عدم تهميشهم.
قالت الشابة النابهة: وهل توجد للدولة وثيقة استرشادية تتضمن ما تقول يا دكتور، وهل ناقشت مؤتمرات الشباب أيًا منها؟
قلت: هذا موضوع يجب أن نعطيه مساحة حوار جديدة، ويا ليت وزارات الشباب والتعليم والثقافة والإعلام تمدنا بما لديها من رؤى معلنة وموثقة، إن وُجدت، حتى يمكننا مساندتها كمجتمع مدنى.