الأحد , 22 ديسمبر 2024
الرئيسية / بقلم د حسام بدراوي / بعد 25 يناير / الربيع العربى.. بين الحقيقة والخيال د حسام بدراوي

الربيع العربى.. بين الحقيقة والخيال د حسام بدراوي

الربيع العربى.. بين الحقيقة والخيال
د حسام بدراوي

لقد كان مخيبًا للآمال للذين ظنوا أن إسقاط الحكام الفاسدين سيؤدى إلى تحسن فورى فى مستوى معيشتهم، فعدم الاستقرار المزمن الذى عانت منه البلدان التى شهدت تحولات سياسية كبيرة وضع عبئًا إضافيًا على كاهل الاقتصادات المحلية.

قال الشاب الثورى: لقد مرت تسع سنوات على الثورة التى غيرت كل شىء فى المنطقة، وكنا فى بداية العشرينيات من عمرنا وقتها، وتقديرنا للأمور كان مختلفًا، واندفاعنا كان بلا خبرة، بل بشغف نحو الكرامة والحرية فقط. أمَا آن الأوان للحوار حولها؟

قلت: ما يهمنى هو المستقبل، وألّا نُعيد ارتكاب نفس الأخطاء.

قالت زميلته: من أين ستبدأ؟

قلت: سأبدأ بالعلم، فمعظم الناس يفترضون أن معرفتهم بالحقيقة معتمدة على الحواس التقليدية للجسم البشرى، وهذا لأن عقلنا يصنع هذا التصور وفق حواسه المدركة.

قالت الشابة: وهل العكس صحيح، هل كل ما لا يمكن الإمساك به أو إدراكه بحواسنا يعتبر غير حقيقى وغير موجود؟

قلت: المفارقة هنا أن العكس ليس صحيحًا، فالخيال قد يكون حقيقة لم تتواجد بعد، وتعمل على خلقها جهة ما. إن هناك توجسًا من أن كل الحقائق التى يتم تقديمها لنا فى الإعلام، سواء الطريقة التى يتم تقديمها بها أو طريقة مناقشتها وتحليلها، كلها تصورات وانطباعات تتحول بتكرارها إلى حقائق. السياسيون الآن أكثر تورطًا فى الأمر، حيث أصبحت لديهم المعرفة والقدرة على توظيف علوم الاجتماع لإتقان وتوقع حركة الجماهير، بل صناعتها. كان غوستاف ليبون، عالِم الاجتماع والأنثروبولوجيا الفرنسى، قد عمل على دراسة العقل الجمعى للحشد، وأوضح وجود كينونة جديدة منبثقة عن اندماج الناس سويًا، فحيث يجتمع الحشد، ينشأ مجال مغناطيسى من الجمع، ويتماهى السلوك الفردى ليصبح جزءًا من التكوين الجمعى، الذى يستولى على أفراد الجمع وعلى آرائهم ومعتقداتهم، بل قيمهم الشخصية.

قال الشاب الأول: ماذا قال؟

قلت: تحدث «ليبون» بالتفصيل عن 3 عمليات رئيسية تؤثر فى سلوك الحشد: مجهولية الهوية، والإيحاء، والعدوى. مجهولية الهوية تعطى شعورًا بفقدان المسؤولية الشخصية، ويصبح الشخص أكثر بدائية وعاطفية وبلا قيود، وتمنحه شعورًا بأنه لا يُقهر. والعدوى تعنى انتشار سلوك معين خلال الحشد «كأعمال الشغب مثل تحطيم النوافذ وإلقاء الحجارة»، إذ يبادر شخص بالسلوك، فيتبعه آخرون، وتظهر سلوكيات مثل التضحية بالمصلحة الشخصية للمصلحة الجماعية. أما الإيحاء فهو الآلية التى يتم من خلالها انتقال العدوى، والهتافات القوية تجعل اللاوعى عنصريًا، ويصبح الحشد متجانسًا ومرنًا ومتقبلًا لاقتراحات أقوى أعضائه، أولئك الذين يقودون المسيرة أو الحشد أو التظاهرة، حيث يمكنهم بأصواتهم العالية قيادة وتوجيه المجموعة. وهؤلاء أصبحوا مدربين فى الوقت الحاضر، ومسار أى مظاهرة كبيرة يمكن أن يكون محددًا بشكل كبير مسبقًا بقيادتهم. وباستخدام تكنولوجيا اليوم، أصبح جمع الناس والعمل على نفوسهم وإعدادهم علمًا وفنًا، حيث جعلت الاتصالات غير المحدودة الأمر متاحًا وقابلًا للتحقق. العقل الإيجابى الجمعى لمشجعى مباراة كرة قدم يجعلهم يلعبون مع فريق ضد الآخر، ونحن نفهم الآن، حيث تنشأ الطاقة التى تحرك الناس من خلال العقل الجمعى للحشد الذى يخلق الطاقة، وبهذا الأسلوب أيضًا اعتاد القادة التاريخيون نشر الطاقة الإيجابية فى الحشود بخطاباتهم الحماسية.

قال الشاب: وما أصل تعبير «الربيع العربى»؟

قلت: تعود المرجعية التاريخية للمصطلح إلى الاضطرابات فى أوروبا الشرقية عام 1989 عندما بدأت الأنظمة الشيوعية القوية فى السقوط تحت ضغط الاحتجاجات الشعبية الجماعية بالتوالى على طريقة سقوط قطع الدومينو. وفى فترة قصيرة من الزمن، اعتمد معظم بلدان الكتلة الشيوعية السابقة أنظمة سياسية ديمقراطية ذات اقتصاد السوق الحرة، على النقيض مما كانت عليه عقودًا متتالية.. أما الأحداث فى الشرق الأوسط فقد ذهبت فى اتجاه مختلف. دخلت مصر انهيارًا مؤسَّسيًا، وكذلك تونس بشكل مختلف، وقامت ثورة فى السودان، ودخلت سوريا وليبيا والعراق واليمن حروبًا أهلية، فى حين ظلت الأنظمة الملكية الغنية فى الخليج دون تأثر عميق من هذه الأحداث على الرغم من كونها أنظمة شمولية.. أما الاستخدام المحدد الأول لـ«الربيع العربى» للدلالة على أحداث وقعت بالفعل فكان فى مجلة السياسة الخارجية الأمريكية، حيث أبرزه مارك لينش فى مقالته عن السياسات الخارجية للولايات المتحدة، وكان المصطلح ضمن استراتيجية أمريكية للسيطرة على (التحركات) والأهداف وتوجيهها نحو النموذج الديمقراطى الأمريكى الليبرالى (الخيال)، أو الفوضى المحكومة (الواقع) وكما التقاليد، فأبوالمولود له الحق فى تسمية طفله، وهكذا أتى الاسم من الولايات المتحدة. وفى وقت لاحق تم الكشف عن أن العديد من قادة الشباب لهذه التظاهرات تم تدريبهم وتمويلهم فى أوروبا الشرقية من قِبَل مخابرات دول كبرى مؤثرة، وهم لم ينكروا هذا عندما نجحت الثورات فى إسقاط الأنظمة. طالب المتظاهرون السياسيون فى الأنظمة الملكية مثل الأردن والمغرب بإصلاح النظام تحت الحكام الحاليين والخليج. أما الشعوب التى تعيش فى ظل الأنظمة الجمهورية مثل مصر وتونس فقد أرادوا إسقاط الرئيس ونظامه، ولكن بخلاف الانتخابات الحرة، لم تكن لديهم أفكار عما يجب فعله بعد ذلك غير المزيد من الدعوات إلى العدالة الاجتماعية. لم تكن لديهم فكرة بسيطة حول ما يجب القيام به بعد ذلك، حيث لا توجد عصا سحرية لإصلاح الاقتصاد أو التغلب على الفقر.. والحقيقة أن مصر وتونس بالذات كانتا تقفان على مرتبة عالية من توجه اقتصادى سليم زاد من النمو، وكان ممكنًا أن يؤدى إلى طفرات اقتصادية عملاقة. على أرض الواقع، الجماعات اليسارية والنقابات أرادت أجورًا أعلى، وإلغاء صفقات الخصخصة، أما الإسلاميون المتشددون فكانوا أكثر اهتمامًا بإعلان تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية الصارمة كوسيلة للتحكم فى الشعوب والعودة إلى الخلافة من خلال تفسيراتهم، وسعوا لملء الفراغ السياسى الذى تُخلِّفه الثورات، بشكل مُعَدّ من قبل الأحداث بشكل نسبى أو كامل بالتعاون مع أجهزة مخابراتية، فى رأيى تنتمى إلى أمريكا وبريطانيا وإسرائيل. لا أستطيع تجاهل المشروع التجريبى للولايات المتحدة الذى ظهر مع غزو العراق، بعد بناء اعتقاد العالم (الوهمى) بأن العراق لديه أسلحة دمار شامل (ثبت أنها كذبة) وقررت إرسال الجيش الأمريكى (الذى يُعتبر أقوى جيوش العالم) لهدم جميع المؤسسات فى العراق، وخلق الفراغ الاجتماعى والسياسى الذى أعقب الفوضى والحرب الأهلية، وفقدان الثروة النفطية، وتأثيره على ظهور ما يسمى الدولة الإسلامية فى العراق والشام (داعش). كان الشكل الوهمى الذى فرضته أمريكا والغرب فى الدول التى حدثت فيها ثورات هو الديمقراطية واحترام حقوق الإنسان، معتبرين أن الديمقراطية هى فقط صناديق الاقتراع، علمًا بأن ما يسبق ويلى عملية التصويت والانتخابات ملىء بالخداع، الذى يُخرج الديمقراطية من جوهرها، فيسيطر عليها مَن يملك التمويل والتنظيم والسلاح..

قالت الشابة المثقفة: السؤال هو: هل الربيع العربى نجح أم فشل؟

قلت: لقد كان مخيبًا للآمال للذين ظنوا أن إسقاط الحكام الفاسدين سيؤدى إلى تحسن فورى فى مستوى معيشتهم، فعدم الاستقرار المزمن الذى عانت منه البلدان التى شهدت تحولات سياسية كبيرة وضع عبئًا إضافيًا على كاهل الاقتصادات المحلية، وأظهر انقسامات عميقة بين الإسلاميين وبعضهم والعلمانيين الذين يحلمون بالحرية وفصل الكنيسة والمسجد عن الدولة. ومع تدفق المعلومات عبر الإنترنت، وإتاحة موقع «يوتيوب» لأعداد ضخمة من الفيديوهات التى تحتوى على وقائع مفترضة وأخبار متنوعة، تجعل من كل شخص بطلًا أو شريرًا، فالخلط بين الوهم والحقيقة أصبح عميقًا كما لم يكن من قبل، فمع هذا الكم الهائل من التسريبات أصبح الناس يعيدون النظر فيما يرونه بسبب تعرضهم لأخبار متعارضة ومتناقضة، وربما أيضًا لفقدان الثقة فى كل ما يُقدم إليهم، فالصعوبة الآن أصبحت تأكيد الحقيقة، وسط الكثير من الخداع والشائعات والمزاعم والأكاذيب والدعاية والدعاية المضادة، فلا تستطيع أن تعرف ما المؤامرة وما الصدفة، وتتوه الحقيقة

التعليقات

التعليقات