الربيع العربي والخريف الغربي
بقلم
حسام بدراوي
تعتمد الحقيقة على إدراك العقل،وربط المعلومات بعضها ببعض، واستخلاص المعرفة . ويقال أن كل واقع هو ترجمة لخيال في مرحلة ما، وعلم السياسة والاجتماع ليسا مختلفين.
كنت مدعواً في ربيع ٢٠١٥ لإلقاء محاضرة في منتدي مونت كارلو جنوب فرنسا حول “الربيع العربي بين الحقيقة والخيال “.وتمت دعوتي مرة أخري للحديث أمام نفس المنتدي السياسي عالي المستوي هذا العام ، بعد عشر سنوات من خطابي أمام أعضائه لربط خيط الأحداث منذ ٢٠١١ الي الآن. واقترحت تسمية خطابي الجديد ” الربيع العربي والخريف الغربي “
كنت قد بدأت وصفي لأحداث يناير ٢٠١١ بفلسفة غوستاف ليبون، عالم الاجتماع الفرنسي، ، الذي كان قد عمل عام ١٨٩٥ على دراسة العقل الجمعي للحشد وأوضح وجود كينونة جديدة منبثقة عن إندماج الناس مجتمعين، حيث ينشأ مجال مغناطيسي من الجمع ،و تماهي للسلوك الفردي ليصبح جزءاً من التكوين الجمعي، الذي يستولى من كل فرد في الجمع على آرائه ومعتقداته وقيمه الشخصية.
وكما قال في واحدة من مقولاته ” إن الفرد في الجمع يكون كحبة الرمل داخل عاصفة رملية ، يتحرك معها ويندمج فيها ولا يوجد لها إرادة فردية”.
لماذا اذكر ذلك الآن !! لأن المظاهرات والجمع ونظريات لوبان الذي كانت تستلزم التواجد الفعلي للجماهير في مكان جغرافي محدد أصبح ممكناً بتواجد علي السوشيال ميديا ووسائل الإعلام التي تجعل كل إنسان ،جزء من كل ، تنطبق عليه فيها الكثير من قواعد نظرية لوبان.
مقدمتي كانت تهدف في المحاضرة إلى إعطاء خلفية علمية لاستيعاب ما حدث، في العالم العربي ومازال.
قد يكون فهم نظرية ” لوبون” سبب منع الحكومات في العالم العربي لأي تجمع جماهيري بعد درس يناير 2011 حتي لو كان في ملعب كرة قدم ويدل أيضا عن تأخر الفكر العربي عن فهم ما يتم من تأثير جمعي علي عقول شبابه وكأنهم في مظاهرات لا تحتاج تجمعهم في ميدان جغرافي .
الاستخدام المحدد الأول ”للربيع العربي” للدلالة على أحداث وقعت بالفعل كان في مجلة السياسة الخارجية الامريكية حيث أبرزه مارك لينش في مقالته عن السياسات الخارجية للولايات المتحدة، وكان المصطلح ضمن إستراتيجية أمريكية للسيطرة على (التحركات ) والأهداف وتوجيهها نحو النموذج الديمقراطي الأمريكي الليبرالي (الخيال ) ، أو الفوضى المحكومة ( الواقع ).
وكما تقول التقاليد، فوالد المولود له الحق في تسمية طفله، وهكذا أتي الاسم من الولايات المتحدة.
وفي وقت لاحق تم الكشف أن العديد من قادة الشباب في 2011 لهذه التظاهرات تم تدريبهم وتمويلهم في أوروبا الشرقية، من قبل مخابرات دول كبرى مؤثرة، (الولايات المتحده والمملكة المتحده ) وهم لم ينكروا هذا عندما نجحت الثورات في إسقاط الأنظمة.
طالب المتظاهرون السياسيون في الأنظمة الملكية غير الديمقراطية بإصلاح النظم تحت إدارة نفس الحكام !! ، ودعا بعضهم إلى التحول إلى مَلَكية دستورية، والبعض الآخر إكتفى بالوعد بالإصلاح التدريجي.
أما الشعوب التي تعيش في ظل الأنظمة الجمهورية مثل مصر وتونس فقد أرادوا إسقاط الرئيس ونظامه ولكن لم يكن لديهم أفكار عما يجب فعله بعد ذلك غير المزيد من الدعوات للعدالة الاجتماعية .
.لم يكن لديهم فكرة بسيطة حول ما يجب القيام به ولم تُوجِدْ لهم الثورات عصاً سحرية لإصلاح الاقتصاد أو التغلب علي الفقر ، أو حتي كيفية الحصول علي الحرية في ظل فوضي عارمة….
بعد إنتهاء التظاهر والثورة ، ذهب المجموع الأصيل (genuine) الي منازلهم وتبقي المحرضون و المستفيدون الذين تحركهم المخابرات والممولين والمتطرفين الدينيين .
كان الشكل الذي فرضته أمريكا والغرب في الدول التي حدثت فيها ثورات هو وهم الديمقراطية واحترام حقوق الإنسان،(الخيال و إزدواجية المعايير) معتبرين أن الديمقراطية هي فقط صناديق الاقتراع، علماً بأن ما يسبق ويلي عملية التصويت والانتخابات مليئ بالخداع الذي نعلم جميعاً أنه يُخرج الديمقراطية من جوهرها، حيث يسيطر عليها من يملك التمويل و التنظم والسلاح في دولٍ ينتشر فيها الفقر والجهل ، تم حقن الفكر السلفي الديني في وجدانها لسنوات..أي أن نتيجة الإنتخابات في هذه الظروف تكون محددة سلفاً .
بعد سنوات إتضح أن الربيع العربي كان خطوه في خطة متكاملة ؟
ومع تدفق المعلومات عبر الإنترنت، وإتاحة مواقع اليوتيوب لأعداد ضخمة من الفيديوهات التي تحتوي على وقائع مُفترضة وأخبار متنوعة، تجعل من كل شخص بطل أو شرير، فالخلط بين الوهم والحقيقة أصبح عميقاً كما لم يكن من قبل، فمع هذا الكم الهائل من التسريبات أصبح الناس يعيدون النظر فيما يرونه بسبب تعرضهم لأخبار متعارضة ومتناقضة، وربما أيضا لفقدان الثقة في كل ما يقدم إليهم.
الصعوبة أصبحت تأكيد أي حقيقة وسط الكثير من الخداع، والشائعات، والمزاعم والأكاذيب و الدعايا و الدعايا المضادة، فلا تستطيع ان تعرف ما هي المؤامرة وما هي الصدفة..
وأفكر بعد عشر سنوات من اللقاء و ثلاثة عشر سنة من أحداث الربيع العربي
سقطت فيها السودان وتقسمت ليبيا وهرب النظام السوري وعمت الفوض الاقتصادية والسياسية لبنان ودمرت إسرائيل فرص السلام تماما ، وظهر بوضوح التدخل الإيراني مع حزب الله وحماس والتأييد القطري لهم في إحداث الفوضي والقلاقل واستخدام الولايات المتحده بلا حرج للقوة العسكرية في مساندة الصهيونية و في اليمن ، ظهر لنا أن السيناريو يتم استكماله وما زال.
أعوام عشرة منذ خطابي في مونت كارلو زادت فيها قوة إسرائيل العسكرية و التكنولوچية وغرقت فيها مصر في الديون الداخلية والخارجية ، وغزت الصهيونية أسواق المال في الخليج وأصبح ما كان يقال في الخفاء معلناً بلا خشية ولا لوم ولا مواربة .
في نفس الوقت بدأت الحرب بين روسيا وأوكرانيا التي تستهلك القدرات الاقتصادية لأوروبا بضغط من الولايات المتحدة وخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي ، وشعبية التيار اليميني المتشدد الذي يزيد الفرقة والخلاف مع المهاجرين الي أوروبا وأمريكا.
إنتخاب ترامب وسقوطه وإعادة انتخابة كان وما زال ظاهرة تقول أننا في مرحلة جديدة هي الخريف الغربي وأري عواصفه و شتائه قادم قادم لا محالة.
الربيع العربي إتضح انه كان انتهاء طريق التنمية العربي ، واختفاء دول ، وانقسامات مرعبة داخل الشعوب ، وتفكك و إنقسامات لم يتخيلها العقل في 2011 ، لدرجة تجعل ما كنا نعتبره جحيماً وقتها ، جنة بالنسبة الي الوضع اليوم.
شهدت السياسة الخارجية الأمريكية تحولًا جذريًا مع تولي دونالد ترامب الرئاسة حيث اتسم نهجه بما يُعرف بـ”الترامبية” (Trumpism)، والتي تجسدت فيه أولوية المصالح الأمريكية ، كما يظنها ، عبر أدوات غير تقليدية، كالخطاب الصدامي والعنف الرمزي ، والانسحاب من الاتفاقيات متعددة الأطراف ، و التحول من التعددية إلى الثنائيةً.
يميل ترامب الي استخدام العقوبات الاقتصادية كأداة رئيسية في سياساته مثل فرض رسوم جمركية علي دول حتي الصديقة منها، مُطلقاً حربًا تجارية هزت الأسواق العالمية، بادعاء حماية الصناعة الأمريكية،
كما أنه يضغط على حلفاءه الأوروبيين وجيرانه ،فما بالك بالآخرين .
الخلاصة التي نلاحظها ونلمسها هي أن ”الترامبية” مثلت قطيعة مع الدبلوماسية الكلاسيكية، مستبدلة إياها بنموذج قائم على التصعيد اللفظي والتفرد في صنع القرار أسميته “ديكتاتورية الديمقراطية” .. ربما ينجح هذا النهج في تحقيق بعض الأهداف قصيرة المدى، إلا أنه أضر وسيضر بسمعة الولايات المتحدة كشريك دبلوماسي مستقر، وسيفتح الباب أمام قوى كالصين وروسيا لملء الفراغ الناشئ إذا أحسنوا استغلال الموقف.
شخصية ترامب الأحادية كانت محورية في تشكيل هذه السياسة، مما يطرح أسئلة حول استدامة ”الترامبية” كمنهج بعد رحيله ولكن شتاء الغرب وأفول زهوره قد بدأ ويصعب ايقافة.
وأنا أعد كلمتي بعد ثلاثة عشر سنة ،
أسأل نفسي كيف نقيس الحدث ؟
بأحداثه أم بنتائجه أم بأثره المستدام!!
وانا أحلل ما يحدث في أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية ، وما تقوم به إسرائيل من مجازر وتدمير للشعب الفلسطيني، وتكملة سيناريو فوضي الشرق الأوسط ، التي نتج عنها تفكك دول وانكماش أخري ووضع الدولة الأهم وهي مصر في موقف ضعيف إقتصادياً وسياسياً ، ولعل ذلك كان هدفاً وغاية ،
بعد هذه السنوات صارت إسرائيل هي المسيطرة علي المنطقة ، مع إعلان تبجح الصهيونية وتحكمها في قوة السلاح والمال والإعلام الغربي وخاصة الأمريكي كما لم يحدث من قبل في التاريخ.
إن قناعتي وخبرتي تقول أنه” ليس في السياسة صدف” و أفكر في دمج التناقض بين الرأي العام للشعوب في الغرب الذي تدّعي الديمقراطية ، وبين حكامهم وسقوط الأيديولوچيات المعلنه والقيم التي ارتضيناها ، وحقوق الإنسان التي نسعي اليها مع ثنائية المعايير، التي تبدت وظهرت في كلمتي التي أعدها لهذا الملتقي وربط كل ذلك بخيوط صناعة نسيج الحاضر واحتمالات المستقبل للبشرية .
أرحب بالتعليق والآراء.