الخميس , 19 ديسمبر 2024
الرئيسية / بقلم د حسام بدراوي / بعد 25 يناير / السياسة وأغانى الراب المهرجانية.. د. حسام بدراوي

السياسة وأغانى الراب المهرجانية.. د. حسام بدراوي

السياسة وأغانى الراب المهرجانية
حسام بدراوي

سألنى تلميذى النابغ الفنان قائلا: فى كل زمان، كل جديد يهز عرش المستقر والثابت، وعندما ظهر عبد الوهاب وبعده جيل جديد من أهل الفنون الرفيعة، واجههم عدد كبير بالرفض قبل الإعجاب، وبالهجوم والنقد. وأنا هذه الأيام أقرأ عن أغانى المهرجانات، وعن أغنية شاكوش التى كسرت الدنيا وتعدت فى المشاهدة والمتابعة أم كلثوم وعبد الحليم وفريد، سألت نفسى وأسألك، ألا يمكن أن يكون هذا صراعًا بين الماضى والجديد كما كان عندما غنى عبد الوهاب «الدنيا سجارة وكاس» عام ٥١. ما هى المساحة بين الإبداع وبين الخروج عن النمط والمعتاد. أليس كل ابتكار هو خروجا عن المعتاد. فلماذا المنع والعقوبة للجديد؟.

قلت له وانا أفكر: معك حق ولكن على قادة المجتمع واجب، هو حماية الذوق العام من ابتذال الكلمات. عندما كانت أم كلثوم تغنى قصائد الشعر كان رجل الشارع غير المتعلم يغنى معها أجمل كلمات اللغة العربية. والآن عندما يغنى شاكوش وبيكا وحمو يغنى معهم المتعلم مبتذل الكلام. قد يكونون مبدعين، ولكن أهذا ما نريده لشبابنا ومستقبل لغتنا الجميلة ومستوى حواراتنا؟!.

قال: وكيف نرفع سقف حرية الإبداع ونحمى الأخلاق فى نفس الوقت؟ أين الخط الفاصل؟.

قلت له: كتب طارق الشناوى قائلا:

الكلمات النابية لم تعد تثير اندهاش أحد، تمتعت من فرط تداولها بحصانة اجتماعية ضمنية، سيطرت تماما على «الميديا» التقليدية، بعد أن تم فطامها من «السوشيال ميديا»، فهى تحقق القسط الأكبر من المتابعات، وفى هذا الزمن صار الجميع يتنابذون بالأرقام، إنه (الترمومتر) الذى يتابعون درجاته صعودا وهبوطا.

وعلقت عليه قائلا:

زمان لما كنت أذهب لاستاد القاهرة فى المباريات شغلنى جدا أن الجمهور يشترك فى الهتاف ضد حكم أو لاعب فى شتيمة بالأم وأعضائها التناسلية وكلهم محميون ببعض.

والعجيب أن الجالسين فى المقصورة من كبار الدولة كانوا يرددون نفس الإباحة بتحريك الشفايف فقط بدون صوت حرجا.

وقلت إنه لا بد من دراسة اجتماعية لتصرف الجمهور جميعا فى قول الشتيمة والسعادة بذلك.

وعندما كنت أحلل تصرفات الجماهير فى المظاهرات سياسيا وجدت غوستاف لوبان عالم الاجتماع الفرنسى، والأنثروبولوجيا، عام 1895 يقول فى دراسة العقل الجمعى للحشد ويوضح وجود كينونة جديدة منبثقة عن اندماج الناس مجتمعين، حيث عندما يكونون معا ينشأ مجال مغناطيسى من الجمع أو لأسباب أخرى مثل «التماهى» وهو تقليد الجمع من السلوك الفردى ليصبح جزءا من هذا التكوين الجمعى، الذى يستولى من كل فرد فى الجمع على آرائه ومعتقداته وقيمه الشخصية.

وكما قال فى واحدة من مقولاته:

إن هناك 3 عمليات رئيسية تؤثر فى سلوك الحشد: مجهولية الهوية، والإيحاء والعدوى.

مجهولية الهوية تعطى شعورا بفقدان للمسؤولية الشخصية ويصبح الشخص أكثر بدائية وعاطفية وبلا قيود، وتمنحه شعورا بأنه لا يقهر.

والعدوى تعنى انتشار سلوك معين خلال الحشد (كأعمال الشغب كتحطيم النوافذ وإلقاء الحجارة) إذ يبادر شخص بالمبادرة فيتبعه آخرون وتظهر سلوكيات مثل التضحية بالمصلحة الشخصية للمصلحة الجماعية.

أما الإيحاء فهو الآلية التى يتم من خلالها انتقال العدوى، فالهتافات القوية تجعل اللاوعى عنصريا، ويصبح الحشد متجانسا ومرنا ومتقبلا اقتراحات أقوى أعضائه، أولئك الذين يقودون المسيرة أو الحشد أو التظاهرة يمكنهم بأصواتهم العالية قيادة وتوجيه المجموعة، وهؤلاء أصبحوا مدربين فى الوقت الحاضر، ومسار أى مظاهرة كبيرة يمكن أن يكون محددا بشكل كبير مسبقا بقيادتهم.

ولو كان لوبان معاصرا لنا لأضاف أثر الإعلام والسوشيال ميديا على جعل ما هو قبيح مقبولا ويتيح للأفراد شعور الحماية المجتمعية بدون تجمع الجمهور فتتدنى الألفاظ واللغة كما يصف الكاتب.

كذلك كتبت د.أمانى فؤاد قائلة تحت عنوان «من يصنع الوعى»؟.

عادة من يصنع الوعى فئة وسطى من المدرسين وأساتذة الجامعة، والكتاب والصحفيين، حيث ينقلون الأفكار من قيمة استعلائية مجردة ينتجها المفكرون إلى قيمة تداولية، تصل إلى تحققها على مستوى السلوك، وعندما تنحدر ثقافة تلك الفئة تنحدر الثقافة العامة لأنهم الطبقة التى تحافظ على الوعى الجمعى، وتشكله بداية من الأسرة الصغيرة كوحدة وصولا لكل طبقات المجتمع وشرائحه.

منذ بزوغ عصر الصورة «السينما والتليفزيون» وسيادة ثقافة المشاهدة يسهم الفنانون «الممثلون والمطربون»، والرياضيون، ونجوم البرامج الحوارية فى صناعة الوعى وتشكيله أيضا.

وفى اللحظة الآنية المعاصرة يتم تشكيل وعى الشباب الصغير عبر ما يقدّم فى التليفزيون والسينما ووسائط التواصل الاجتماعى كافة، بما تتضمنه هذه الأعمال والفيديوهات أحيانا من نماذج طفيلية غريبة بالنسبة للأجيال الكبيرة، لكنها جاذبة للأجيال الصاعدة لمخالفتها للسائد والتقليدى، فتلك الشخصيات تزيح النمط المستقر فى الأذهان عن البطل ومظهره العام وما يرتدى من ملابس، وتقدم نمطا غريبا حول كيف يفكر ويتصرف عندما تواجهه الأحداث، ما هى أحلامه وطموحاته، ماذا يسمع من أغنيات وكيف يعامل أسرته وأصدقاءه وحبيبته، طريقة كلامه ومعجم مفرداته التى يستخدمها، ماذا يمتلك، هل هو منتم إلى شىء ويشعر بهويته؟.

كذلك تسهم الموسيقى والأغنيات فى تشكيل الوعى أيضا، وطبيعة المزاج العام للشباب، ما يخترق وجدانهم ومشاعرهم وذائقتهم من أنغام وكلمات الأغنيات التى يسمعونها.

فكرت كسياسى فيما يقوله الكاتبان، وفى فوضى تشكيل الوعى للمجتمع المصرى. لماذا ظهرت هذه النماذج، أهى تعبير عن واقع الوجدان المجتمعى أم هى ممنهجة لتشكيله؟.

التجربة السياسية تقول إن أى فراغ سياسى أو وجدانى فى المجتمع سيتم ملؤه بشىء. مثلا الدولة عبر سنوات لم تنجح فى تقديم خدمات أعتبرها حقوقا فى الرعاية الصحية والتعليم والمواصلات والسكن، فماذا حدث؟.

الرعاية الصحية الأولية امتلكتها جماعة الإخوان فى الجوامع وامتلكت حق الوصول إلى قلب الأسر المصرية.

فشلت الدولة عبر السنين فى تحقيق أهداف التعليم، فانتشرت الدروس الخصوصية وانقسم المجتمع إلى فئات قادرة تتعلم بمبالغ خزعبلية مع فقدان للهوية، وأغلبية غير قادرة ندّعى أنها تتعلم مجانا وهى تسدد تكاليف التعليم خارج نطاق نظام الدولة، ولا يتم تنفيذ رؤية التعليم التى أُعلنت للمجتمع.

ماذا حدث فى وسائل المواصلات التى غابت الدولة عن تقديمها، أو لم تتواكب فى حجمها مع الزيادة السكانية المفزعة، ملأها التوك توك والسرفيس..

الفراغ الذى حدث من عدم تخطيط البناء ملأته العشوائيات حتى أصبح أغلب السكان يعيشون فيها.

كذلك فإن الفراغ الثقافى والوجدانى تملؤه كلمات أغانى المهرجانات المتدنية وموسيقى تحريك الأجساد وإنتاج الأفلام الهابطة. وهنا يأتى السؤال، كيف يمكن تحريك المجتمع ثقافيا وخلق الوجدان السوى بدون رؤية متكاملة معلنة.

إننى أرى جهودا تبذل، ولكن أغلبها يتوجه نحو المنع والعقوبة. تلك جهود سلبية لا تحقق بناءً ولا تستديم لأن للناس حاجات لا بد من توفيرها. إن لم يكن المناخ الذى تخلقه الحكومة فى المجتمع محفزا للقطاع الخاص والمجتمع المدنى بقواعد معلنة ومحفزات تتحملها الدولة، فأى فراغ سيتم ملؤه بفوضى مقدمى الخدمات الرديئة ولا لوم عليهم، فهذا ما يعرفونه.. لقد قصدت عدم التحدث عن نظام الحكم السياسى الذى يعانى من فراغ لا تملؤه أحزاب سياسية، ولا يوجد توازن فيه بين الحريات المفترضة دستوريا للعمل السياسى أساسا، وهو ما يحدث هذا الفراغ، مع التخوفات من أن يملأه الأكثر تنظيما وتمويلا وهم فى الأرجح جماعات الإسلام السياسى.

يا سادة، أغانى المهرجانات وتدنى مستوى الفن والإعلام لا يختلف عن الدروس الخصوصية ولا العشوائيات البنائية ولا التوك توك غير المرخص، ومواجهة ذلك لا تتم بالمنع والعقوبة ولكن بخلق مناخ يسمح لطاقات المجتمع بالعمل، بمحفزات لملء الفراغات التى نراها اجتماعيًا وثقافيًا وسياسيًا لبناء الدولة المصرية المدنية الحديثة فى إطار حوكمة وقواعد ومعايير محددة لكل هذه الخدمات مع رفع سقف الحريات التى تتيح الإبداع والابتكار فى إتاحة هذه الحقوق.

التعليقات

التعليقات