الأحد , 22 ديسمبر 2024
الرئيسية / بقلم د حسام بدراوي / بعد 25 يناير / العقل والفيزياء فى تفسير الأشياء

العقل والفيزياء فى تفسير الأشياء

قال صديقى المتدين، تعليقا على الحرائق التى اشتعلت فى تركيا واليونان وإيطاليا من جراء موجات الحر: هذا هو الانتقام الإلهى من الظلم!!!
فقلت:
هل يوجد انتقام إلهى للظلم فى الدنيا التى نعيشها؟؟!!!!
أخشى إدخال الله فى معادلة المكافآت الدنيوية وتفسير الكوارث البيئية تفسيرات عقابية إلهية.
رد علىّ قائلا:
نعم، فالله يُمهل ولا يُهمل.
وأنا أثق أن الكوارث البيئية عقاب من الله.
انظر التاريخ البعيد والقريب ومدينة سدوم وعامورة وكل الملوك والرؤساء الذين تكبروا وظلموا فى الأرض وافتروا، نالوا عقاباً أرضياً والشعب الذى استمال لهم خربت أراضيهم وضاعوا فى بقاع الأرض مطرودين….
قلت:
ولكن هناك نماذج عكسية أيضا، فليس كل من ظَلم فى الحياة أخذ عقوبة دنيوية.
التاريخ ملىء بهم.
والقضية فى الفلسفة المعاكسة، أى أن يكون الفوز فى رياضة مكافأة من الله أو يكون الانتصار فى حرب لأن الله ينصر من هم على حق.
كلها أمور تدور فى فلك نسبى.
الفوز والهزيمة والإبداع والإنتاج مرتبط بالجهد والعمل والتدريب، ولا يجب أن ننسب لله فى رأيى أى شر يقع فى الدنيا فقد يكون خيرا ولا نعلم. فلسفتى أن الله لا يخلق سوى خير..
وتساؤلى يمتد: هل الأوبئة والأمراض ظلم للإنسان أم توازن للخليقة؟.
هل الحرائق والفيضانات وسيلة للعقاب أم هى أيضا توازن تحتاجه الكرة الأرضية…؟!.
قال بحدة وبعض الغضب:
أول مرة أسمع تعبير أن الكوارث لازمة لتوازن الطبيعة.!!
قلت: إنّ الزلازل والبراكين والتسوناميات هى ظواهر طبيعية، تحدث بفعل تحرك القشرة الأرضية وما تحتها من صفائح أرضية، نتيجة ابتعادها أو اقترابها عن بعضها البعض، بسبب ضغط من تفاعلات الكتلة الملتهبة أسفل القشرة الأرضية، أو تمدّد وانكماش هذه القشرة نفسها، أو تمدّد الكتلة النارية المنصهرة تحت الأرض وضغطها على القشرة الأرضية، مما يحدث هزات وكسورا وانشقاقات.
نعم ……
هى توازن للكرة الأرضية وهى نعمة من الخالق لبقاء الأرض حية وإلا انفجرت بما فيها.
فكرة أن ذلك مرتبط بعقاب البشر تحتاج إعادة نظر.
قال: إن الله يسمع ويستجيب ويسرع لإنقاذ المظلوم لأنه إله عادل.
فما صنعه أردوغان وغيره يأتيه بنقمة وويلات العقاب، كما أننى أرى أيضا أن الذى يود منع خيرات الله من الماء فى إثيوبيا ليستحوذ عليها لشعبه سيلاقى ضربة غير متوقعة، ليست عسكرية، لكنها فوق توقعاتنا وفهمنا. وفكرة التحكم فى مصادر المعيشة التى خلقها الله ورسمها هو أمر يظهر استهانة بالخالق،
لذلك أيضا ننتظر عدالة السماء.
علق صديق مشترك، قائلاً: إننى أتساءل: لماذا عندما يحدث زلزال فى اليابان بقوة تتعدَّى 6 درجات مثلًا، فإنه يجرح بضعة يابانيِّين، فى حين يموت آلاف الباكستانيِّين عندما يحدث زلزال بنفس تلك الدرجة عندهم؟ إنه العلم والاستعداد والتنبؤ وليس الاعتقاد والتدين.
والعجيب أن بعض الدعاة، مِن حملة الشهادات فى العلوم والجيولوجيا، لا تختلف تصوراتهم عن أبسط الدعاة الذين لا حظَّ لهم فى المعارف العلمية والجيولوجية! وهذه النظرة تُسوِّغ الاستخفاف بالمنجَزات العلمية الإنسانية، وتفتح الباب أمام استغلال الكوارث، كمَدخل إلى استقطاب متديِّنين جُدد لا يستوعبون سُنَن الخالق فى خلقه.
علق صديق آخر قائلا: إن الدنيا ليست دار عقاب فالله يقول فى القرآن: «ولو يؤاخذُ اللَّهُ النَّاس بما كسبُوا مَا تركَ على ظَهرهَا مِن دابَّةٍ ولكن يُؤخّرهُم إِلى أجلٍ مُّسمًّى»، (سورة فاطر الأية 45).
إن علاقة الأعاصير والعواصف بغضب الله هى كعلاقة نسمات الهواء العليلة برضا الله. فكلٌّ من الأعاصير والنسمات العليلة يُصيب الأخيار والأشرار والحيوانات. فهل القحط الذى أصاب المسلمين عامَ (الرمادة) فى عهد عمر بن الخطاب، كان غضبًا من الله على الصحابة والتابعين؟ وهل يصيب هذا القحط مجتمعات بعينها دون غيرها؟
قد يستشعر الإنسان فى تأمُّله للكوارث الطبيعية شيئًا من المعانى الروحية، التى تساعده على بناء نظرة أعمق للحياة، تستوعب آلامها ومعاناتها، كما تستوعب جمالها وروعتها. ولكن النظام الكونى الذى أبدعه الخالق لا يَخضع للعواطف والمفاهيم الدينية لأَتباع الأديان. فالجميع خاضعون لقانون واحد: «إن تكونُوا تألمُونَ فإنَّهُم يأْلمُون كما تألمُونَ وتَرجُونَ من اللَّهِ ما لا يرجُونَ»، (سورة النساء الآية 105).
لا بد من إعادة التفكير فى الخطاب الدينى من كل أصحاب الأديان، الذى يذكِّرنا بمعتقداتهم فى القرون الوسطى وظلامها للكوارث.
أثناء بلاء مرض الطاعون الأسود (الموت العظيم)، الذى اجتاح أنحاء أوروبا بين عامَى 1347، وتَسبَّب فى موت ما لا يقلُّ عن ثُلث سكان القارة، كان خطاب الكنيسة الغربية يتجه إلى تفسير الكارثة، بأنها عقاب إلهى بسبب الذنوب والخطايا.
وهو استغلال للحدث لتحقيق هدف.
إن الله لم يَخلق العالم وَفْق منظومة السُّنَن الكونية عبثًا، وإنما لِيَدفع الإنسان إلى البحث عنها والأخذ بزمامها، ليكون هو الخليفة فى الأرض بالفعل، لا بمجرد القول والادِّعاء.. وهذا يعنى ضرورة البحث فى علاقة هذه الكوارث بالتغيرات البيئية، وزيادة التلوث، والإشعاعات النووية، والضرر الذى تُخلِّفه والعمل على حماية الإنسان من نتائجها.
ابتسمت وقلت: ولا ننسى أيضًا ما تخلّفه الأنظمة الديكتاتورية التى يمثلها بوضوح النظم السلطوية السياسية الدينية والدنيوية من الضحايا والدمار، الذى يفُوق ما تُحْدثه العواصف والزلازل والبراكين، وغيرها ممّا نسمِّيه كوارث طبيعية.
إن الجزم بأن تلك الكوارث عقوبة من الله لأهل بلد أو منطقة ما، فيه عدم إيمان برحمة الله.
تزداد الآن قدرة الإنسان على التنبُّؤ بوقوع الكوارث واتِّقاء شرِّها، مع زيادة معرفته لقواعد الطبيعة التى أودعها الله فى خلقه. ويمكننا اليوم – ومن خلال عِلم الأرصاد الجوية وما تُقدِّمه الأقمار الاصطناعية من صُوَر وبيانات- أن ننقذ حياة الملايين من الناس قبل وقوع الأعاصير والكوارث. وهذا يُمثِّل واجبًا أخلاقيًّا وإنسانيًّا، يعكس احترام الحياة البشرية، التى جعل الله أجر مَن أحْيَا نفسًا واحدة منها، كأجر مَن أحْيَا الناس جميعًا.
قال صديقى الآخر: البعض يحاول أن يعطى لنفسه سكينة أن الظالم سوف ينال عقابه وهو توجه حميد، لكنه اتكالى وسطحى.
وعلقت قائلا: عودة إلى التنوير والإيمان بأن الله خلق لنا العقل لنستخدمه، فقد كان زلزال لشبونة هو الذى دفع فولتير إلى التفكير فى أنّنا إذا افترضنا أنّ الكوارث الطبيعية من فعل الله قصدا، فسوف تواجهنا مشكلة الشرّ، فالدمار وعدد الضحايا الناتج عن الكوارث الطبيعية هو الشرّ الخالص، الذى يودى بحياة الملايين دون ذنب منهم يوازى ما حدث لهم، كما أنّها تدمر البيئة تماماً، وتفسد كلّ ما أقامه الإنسان فيها، من مدن وزراعة وحضارة، حيث يذهب الجهد البشرى فى بنائها للعدم، وهذا هو ما يسميه فولتير الشرّ الخالص، ولتجنّب إشكالية إلحاق الشرّ الخالص بالله، آثر فولتير أن يفصل الكوارث الطبيعية عن إرادة الله ويلحقها بالطبيعة وحدها.
لقد كان عصر التنوير هو عصر المذهب الذى حمل تصوراً فلسفياً وعقلياً عن الله، فى مقابل التصورات اللاهوتية التقليدية، التى اتّضح عدم جدواها فى تفسير كوارث طبيعية مثل زلزال لشبونة.
لا يرضَى العقل إلا بتصور الطبيعة باعتبارها مستقلة بذاتها، وفق القوانين التى وضعها الله فيها، فالله لا يخلق إلا عالماً كاملاً، والعالم الكامل هو المستقل تماماً بذاته، والذى يتحرك وفق قوانينه الخاصة، أما إذا تصورنا العالم على أنّه فى حاجة إلى تدخّل إلهى مستمر، فهذا يعنى أنّه عالم ناقص. ووفق هذا التفكير فإنّ نظام الطبيعة هو إرادة الله ذاتها، ولا يمكن لله أن يخرج عن إرادته، ليثبت وجهة نظر لحظية فى الزمن.
إن قوانين الطبيعة التى لا تفرق بين ظالم ومظلوم، فقد خلفها الله وجعلها تعمل تلقائيا، لذلك هى لا تفرق بين عقيدة وأخرى ومؤمن وكافر.
إن الفيزياء الإلهية الطبيعية، ومنها تكوين العقل البشرى وتنوع نشاطاته، والتى تمكنه من تأمل قوانين الكون والبحث والاختراع وتوقع الطفرات والمفاجآت وتعديل المعادلات وفقا لمتوالية من التجارب والملاحظات.. هى التفسير.

التعليقات

التعليقات