الفرصة للإنقاذ(٣)
تحدي التمويل
بدأت هذه المجموعة من المقالات برصد تسعة تحديات تأتى فى مقدمة ما يفرضه تطوير التعليم والواقع السكاني وحق المواطنين الدستوري علينا مواجهتها، وذكرنا أربعة أسباب رأيت أن معظم هذه التحديات ترجع إليها، ورصدنا تداعيات ثلاثة ستحدث فى حال استمرار عدم مواجهة هذه التحديات بالإصرار اللازم والأولوية الواجبة، وأشرنا إلى بعض التحديات التطبيقية، وفى هذا المقال والتالي له سوف نتناول بشيء من التفصيل واحد من أهم التحديات التطبيقيه وهو تحدى عدم ملاءمة موازنا ت التعليم لاحتياجات التطوير .
ولكي نكون قادرين علي الإنتقال الي المستقبل علينا أن نحلل الحاضر ونعلم أسباب الفشل في الماضي وإلا سنعيد فعل نفس الشئ في إنتظار نتائج مختلفه وهو تعريف أينشتين للغباء
وعليّ أن أذكر هنا أن كل ما يصدر من الدولة من توجهات أغلبه يرقي إلي مستوي ما نرجوه ولكن القضية الرئيسية هي الفجوة بين ما تقوله الحكومة وما يتم تطبيقه علي أرض الواقع.
لقد خصصت الجزء الأول من المقال المنشور اليوم تحليل للوضع والجزء الثاني الذي سينشر الأسبوع القادم يقترح سياسات للخروج من المأزق .
لقد أ ستمر إنفاق الدولة على التعليم في التراجع كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي، رغم إلزامها دستوريًّا بزيادته إلى حدود دنيا ، نص عليها الدستور المصري في 2014، على أن تصل تلك النسبة للمعدلات العالمية تدريجياً، فقد بلغت نسبة الإنفاق على التعليم في موازنة العام الجاري (2023/2024) أقل مستوى لها خلال سبع سنوات.
فرغم زيادة المبالغ السنوية التي يتم تخصيصها للإنفاق على التعليم، تتراجع نسبتها من الناتج المحلي بشكل منتظم، تمامًا على عكس ما يلزم به الدستور الحكومة من الوصول بنسبة الإنفاق إلى 4% من الناتج القومي كحد أدنى للتعليم الأساسي، مضافا إليها 2% أخرى للتعليم الجامعي (بإجمالي 6%)، بداية من عام 2016-2017.
واتخذ الإنفاق مسارًا نزوليًا منذ هذا التاريخ، حتى وصل لأقل مستوى له في العام الجاري، بنسبة 1.94%، أي أقل من ثلث النسبة المقررة دستوريا .
ودأبت الحكومة خلال السنوات الماضية على الالتفاف حول هذه الحقيقة وإدعاء التزامها بالنسب الدستورية، إلا أن رئيس الجمهورية أقر للمرة الأولى في يونيو الماضي بأن الحكومة لا تلتزم بالحد الأدنى الدستوري للإنفاق العام على كل من التعليم والصحة.
تلتهم الأجور النسبة الأكبر في ميزانية التعليم، حيث بلغت نسبتها 70.5٪، في موازنة 2024/2023. وفي المقابل تستحوذ الاستثمارات على نسبة 19.1٪ من إجماليها، الأمر الذي ينعكس على بطء وتيرة بناء المدارس الحكومية وإنشاء فصول جديدة، والذي أدى إلى زيادة كثافة الطلاب في الفصول، بالإضافة إلى عمل بعض المدارس بنظام الفترتين والثلاث فترات لتعويض النقص في المباني الدراسية
وتنخفض معدَّلات الإنفاق الحكومي على التعليم في مصر عن المعدَّلات السائدة على مستوى العالم، والمتوسط السائد في مجموعة الدول ذات الدخل المتوسط، وعدد من الدول ذات الأوضاع والظروف الاقتصادية التي يمكن مقارنتها بالاقتصاد المصري
ويهمني أن نعلم أنه رغم الإنفاق الحكومي المتدني علي التعليم فإن هذا الإنفاق ليس مرشدا وإنه رغم إعلان الحكومة أن عدد المعلمين يقترب من ٩٠٠ ألف فإن من يدخل الفصول لا يصل الي ٦٠٠ ألف وأن وزارة التربية والتعليم تنفق مرتبات لأكثر من ٢ مليون موظف ولا يمكن و لا يجب أن يحسب هذا الإنفاق ضمن استحقاقات التعليم . .
وأذكر القارئ أن المحور الأول من رؤية 2030 في التعليم هي الإتاحة والجودة وعدم التمييز، وأن استراتيچيات تنفيذ ثلث هذه رؤية هذا المحور ” الإتاحة” هي أيسر التحديات من وجهة نظري لأن حسابات الإحتياجات للفصول الدراسية و أعداد وتخصصات المعلمين لمدة خمسين سنة قادمة تحتاج فقط معرفة واقع النمو السكاني في كل قرية ومدينة ومحافظة وهي حسابات يسيرة ويتبقي توفير الإحتياجات المالية من الدولة وتوفير الأراضي والتفكير خارج الصندوق في كيفية استدامة توفير ذلك.
لا ننسي التعليم الحكومي يضم أغلب أبناء الطبقات الوسطى ومحدودي الدخل، الأمر الذي يوضح حجم وأهمية الإنفاق الحكومي عليه. .
وفي محاولة من الحكومة المصرية لعلاج انخفاض الإنفاق، عن النسب السابقة المقررة وفقًا للاستحقاق الدستوري، لجأت الحكومة إلى اعتبار المبالغ التي تنفقها جهات “الحكومة العامة” على التعليم والتي تشمل ما تنفقه الوزارات والمصالح التابعة لها، والهيئات العامة سواء كانت خدمية أو اقتصادية، أو أي مراكز علمية وبحثية حكومية، أو أي مبالغ مخصصة ضمن الاحتياطيات العامة، بالإضافة إلى إنفاق شركات القطاع العام وقطاع الأعمال العام باعتبار أن كل ذلك يدخل في مفهوم الإنفاق الحكومي العام على التعليم، ووفقًا لهذا التعريف (الموسع) لإنفاق الحكومة العامة، فإن الدولة المصرية تكون قد حققت بالفعل جزء كبير من التزامها الدستوري المتعلق بالإنفاق على التعليم الذي يجب أن يحدد بما تنفقه الحكومة علي كل طالب وتلميذ ومقارنته بما تنفقه الدول التي تنافس مصر حضارياً علي تلاميذها، فإن كانت مصر تنفق علي كل تلميذ ما يقرب من ٦٠٠٠ جنيه مصري سنويا فيجب مقارنة ذللك بما تنفقه إسرائيل علي كل طالب وهو أكثر من ١٠٠ ألف جنيه سنويا .
والمرعب هو أن يتم سداد جزء من ديون مصر الخارجية خصما من موازنة التعليم فالدولة تلجأ إلى تحقيق التزامها الدستوري عبر اعتبار سداد ما يعادل ١٥٪ من قيمة سداد الديون إلى مخصصات التعليم..
وفقًا لبحث الدخل والإنفاق الصادر عن الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء 2020/2019، فإن متوسط الإنفاق السنوي للأسرة على التعليم يصل الي٢٥٪ في المدارس الحكومية، والتي يتراجع فيها دور المدرسة التعليمي، في ظل تكدس الفصول وتتدني في المدارس الأنشطة الطلابية التي تبني الشخصية كما هو وارد في رؤية التعليم المعلنة.
1. هذا وقد أعلن الدكتور رضا حجازي وزير التربية التعليم السابق ، العام الماضي، في بداية مقترحه لتقنين مراكز الدروس الخصوصية – أن الدروس الخصوصية تكلف الأسر ما يقرب من خمسين مليار جنيه لا تراهم الدولة ولا الوزارة، على حد قوله.
2. وتشيرتقديرات سابقة لوزارة التربية والتعليم إلى وجود نقص في عدد المعلمين يتجاوز 320 ألف معلم.ولأول مرة وبعد سنوات طويلة من أزمة نقص أعداد المعلمين، أصدر الرئيس عبدالفتاح السيسي قرارًا في يناير 2022، بإجراء إعلان لتعيين 30 ألف مدرس سنويًّا، لمدة 5 سنوات، ليصل إجمالي المعينين إلى 150 ألف معلم، بميزانية سنوية 1.4 مليار جنيه.والقرار الحكومي رغم أهميته فإنه لن يقضي على أزمة نقص أعداد المعلمين بالمدارس الحكومية، حيث أن خطة التعيينات السابقة بعد انتهائها، ستكون قد أضافت 150 ألف معلم فقط، في حين أن التقديرات لحجم العجز فى المعلمين تبلغ 320 ألف معلم، وهي تقديرات تتزايد بشكل مستمر، نظرًا إلى ارتفاع أعداد الملتحقين بالتعليم الحكومي عامًا بعد عام.ورغم إعلان الحكومة المصرية الأخير، بزيادة رواتب العاملين بالقطاعات الحكومية ومنها المؤسسات التعليمية، فإن هذه الزيادات لا تتناسب مع موجات التضخم المستمرة التي رفعت أسعار كل السلع والخدمات، وخفضت من القيمة الشرائية للجنيه المصري.
3. الأخطر هو التوجيه الخاطئ للموارد المالية الحكومية المحدودة: فنجد أن الدولة اتجهت إلى تخصيص مبالغ كبيرة لإنشاء مدارس حكومية بمصروفات عالية لن تكون في متناول الطبقة الفقيرة وأغلب الطبقة الوسطي وكأن الدولة تسعي لمنافسة القطاع الخاص الذي لا تبلغ نسبة تأثيرة أكثر من ١٤٪ في الحضر و٣٪ في الريف.
4. أنا لا أمانع بل أرحب بمبادرات من الحكومة في إنشاء نماذج جديدة من المدارس مثل المدارس اليابانية ومدارس النيل وأمثالها ولكن عليها أن تعلن خطتها في التوسع وكيفية بيان كيف ستستفيد منها الطبقة الوسطة والفقيرة وكما هو الواجب في التعليم العالي فيجب إنشاء أساليب لتمويل الطلاب والأسر غير القادرة في هذه المدارس لتعم الفائدة علي غالبية أصحاب المصلحة علماً بأن الحكومة المصرية خلال السنوات القليلة الماضية قد أقامت كثيرًا من المشروعات العملاقة والقومية الخاصة بالنقل والطرق والكباري الجديدة، وهو ما يظهر قدرة الحكومة المصرية على توفير الاستثمارات المالية.
5. إننا يجب أن نؤكد على ضرورة توجيه الموارد المالية الحالية المحدودة، إلى دعم التعليم الحكومي المجاني الذي هو حق لأطفال مصر وشبابها وليس سلعة مدعومة يتم بيعها للأسر وتطبيق فلسفة الدولة بتخفيض الدعم الإجتماعي ، تدريجيا عليها فالتعليم بدون
تكلفة علي المواطن حق دستوري وإلا فقدت مصر أهم موارد ثروتها الإنسانية.