الفرصة للإنقاذ (٥)
التعليم الفنى والتدريب المهنى
بقلم حسام بدراوي
يستوعب التعليم الفنى والتدريب المهنى أكثر من نصف عدد الطلاب الذين يلتحقون بالمرحلة الثانوية بعد المرحلة الإعدادية، ما يمثل أغلبية من الشباب. وبالنظر إلى أن الاقتصاد المصرى يجب أن تصل معدلات النمو فيه إلى أكثر من٨٪ سنويا بشكل مستدام لعشر سنوات على الأقل، فإن فرص العمل التى تتوافر وستتوافر فى المستقبل كبيرة. ولا يمكن استدامة هذه التنمية دون عمالة فنية عالية المستوى وتنظيم فعال للمهن التى تتطلبها هذه التنمية، بل إن سوق العمل إقليميًا وعالميًا، خصوصا فى شمال البحر المتوسط، ستحتاج إلى عمالة من خارج نطاقها الجغرافى، ما يفتح فرصا أكبر أمام الشباب المصرى إذا كان مُعدًا بشكل جيد لشغل الوظائف التى تحتاجها هذه السوق، ما يزيد من مواردهم وموارد الدولة ويخفف من البطالة ويحقق مكسبًا اقتصاديًا وإنسانيًا للمواطنين.
والتعليم الفنى، كأى نظام تعليمى قديم، يتعرض إلى تحديات كثيرة، كما يحتوى أيضا على نقاط قوة وفرص للتطوير والتنمية.
إن أهم تحديات هذا النوع من التعليم هو غياب رؤية مستدامة ومتكامله له، وانخفاض الميزانيات المخصصة عن احتياجات وطموحات التطوير، ويعانى مثله مثل غيره من قطاعات التعليم من فلسفة توزيع وتوجيه الطلاب على أساس مجموع الدرجات فى شهادة إتمام التعليم الأساسى، بينما يتم التنسيق الداخلى للمدارس الفنية حسب سعة القسم وعدد المدرسين فى التخصصات وحسب الدرجات أيضًا، دون مراعاة لاحتياجات سوق العمل أو ميول واستعداد الطلاب في ظل ضعف القطاع الخاص الذي يمثل مجال التدريب ومكان العمل المستقبلي.
إن الواقع يؤكد مثلًا ارتفاع نسبة البطالة لخريجى المدارس الفنية، خصوصًا التجارية، التى ترتفع نسبة الالتحاق بها إلى حوالى ٣٤% من مجموع عدد الملتحقين بالتعليم الفنى، أغلبهم من الفتيات، وكأنه جاراچ خلقه نظام التعليم ليس بهدف اكتساب المهارات وزيادة المعرفة، بل لقضاء الوقت فى هذه المرحلة العمرية الحيوية بلا عائد على الشباب والمجتمع.
ومن العجيب عدم الإقبال على التعليم الزراعى فى مصر ذات التاريخ الزراعى المؤثر فى العالم، فالإقبال على التعليم المهنى فى هذا القطاع يواكب نظرة اجتماعية متدنية لهذا النوع من التعليم، واعتباره وخريجيه فى درجة اجتماعية أقل.
إن السياسات المقترحة للارتقاء وتطوير التعليم الفنى والتدريب المهنى يجب أن تكون جزءًا لا يتجزأ من استراتيجية التنمية الإنسانية التى يجب أن ننتهجها، علماً بأن جهودًا متميزة مبعثرة قد تم تطبيقها فى هذا المجال على مدى الأعوام الماضية.
وتنقسم السياسات المقترحة الخاصة بتطوير التعليم الفنى والتدريب المهنى إلى ستة حزم من السياسات، نعرض لها على النحو التالى:
أولًا: سياسات خاصة بالتعليم العام المتصل بالتعليم الفنى:
إن الطالب فى هذا النظام مازال عليه الحصول على معارف عامة ومهارات فى اللغة واستخدام الحاسب الآلى ومواد دراسية تُعمّق انتماءه الوطنى وتشكل هويته وارتباطه بالمجتمع. أما التعليم العالى فله دور مهم موازٍ وهو تخريج المدرسين والمدربين لهذه المؤسسات، وكذلك التوسع فى معاهد التعليم الفنى والتكنولوجى كجزء من نظام التعليم العالى، ما سيؤدى إلى نتيجتين مؤثرتين، أولاهما: توافق التعليم العالى الفنى مع متطلبات بعض المهن، والنتيجة الأخرى: تظهر فى الأثر المجتمعى لدمج التعليم الفنى والتعليم العالى فى رفع قدر هذا النوع من التعليم فى عُرف المجتمع مع الاحتياج الحقيقى له على أن يكون ذلك فى وجود إطار قومى للمؤهلات فى مصر (نسعى لإقراره من عشرين سنة !!) وتم التشريع له أخيراً..
لذا فإن هذا النوع من التعليم يجب أن يتمتع بالمرونة فى المنهج الذى يجب أن يتواكب مع نوع المهن المرتبطة بعدد سنوات الدراسة التى لا يجب تحديدها بسنتين أو ثلاث أو أربع، بل بحزم تعليمية ودرجات جدارة وكفاءة مهارية تدرس بنظام الساعات المعتمدة.
ثانيًا: سياسات خاصة بتطوير المظلة المسؤولة عن هذا النوع من التعليم:
المظلة الآن هى وزارة التربية والتعليم بشكل أساسى، ووزارة التعليم العالى والوزارات النوعية كالصناعة والزراعة والسياحة والقوى العاملة والإسكان.. وغيرها، والتى قد تشرف على بعض مراكز التدريب وبرامجها، ولكن بشكل غير مترابط، ودون رؤية شاملة متناسقة، ما قد يبعثر الجهود ويشتتها. وشاهدنا إنشاء وحذف وزارة مسؤولة عن التعليم الفنى بلا تحليل.. لماذا نشأت ولماذا أُلغيت؟!
ثالثًا: سياسات خاصة بتطبيق نظم توكيد الجودة والاعتماد:
لكل البرامج الخاصة بالتعليم الفنى والتدريب المهنى ومؤسساته.. إن أى خدمة يجب أن تكون لها معايير، وأى خدمة لابد من تقييمها بناءً على مؤشرات هذه المعايير. ولا شك أن معايير التعليم العام الواجب اعتمادها من هيئة ضمان الجودة والاعتماد فى التعليم تختلف عن المهارات الفنية «الصناعية أو الزراعية أو فى غيرهما من المهن»، التى يجب اعتمادها وتقييم التدريس والتدريب عليها من جهات تقييم محايدة.. وهى الفلسفة التى أراها واجبة فى التعليم الفنى.
وعلينا أن نفرق بين اعتماد البرنامج التعليمى أو التدريبى الذى تقترحه المجالس النوعية لكل مجموعة مهن، وبين اعتماد المؤسسة التعليمية أو التدريبية التى تقوم بتعليم أو تدريب هذا المنهج.. وكلاهما مطلوب، وهى علاقات جديدة على مجتمع التعليم الفنى.
في إطار رؤية مصر 2030 ، وبناءاً علي توصيتها صدر قانون إنشاء هيئة مستقلة جديدة لضمان الجودة والاعتماد فى التعليم التقنى والفنى والتدريب المهنى (ETQAAN) بدعم من قبل جميع شركاء التنمية الرئيسيين (USAID, GIZ EU) عام 2022 ، وهو ما نثني عليه و نؤيدة ونوصي بأن يكون لها موازنة مستقلة
رابعًا: سياسات خاصة بتطوير وتنمية أداء الكوادر البشرية العاملة:
سواء كانت فى المدارس أو المؤسسات والمراكز التدريبية، وذلك من خلال وضع نظام للحوافز المادية والعينية لجميع أعضاء مجتمع التعليم الفنى والمهنى، وعقد برامج دراسية مع معاهد دولية لتقديم مناهج دراسية مشتركة يشترك فيها طلاب التعليم الفنى من داخل مصر وخارجها، وإرسال البعثات وخلق شراكات مع القطاع الخاص وجدير بالذكر أن وزارة التربية و التعليم والتعليم الفنى إدرجت أكاديمية معلمى التعليم الفنى (TVETA) ضمن الهيكل التنظيمى الجديد للوزارة، وأيضاً استحداث مفهوم قطاعى جديد يتمثل فى مراكز التميز القطاعية (Centers of Competence) حيث بدأ تطبيق هذا المفهوم مع kfw والإتحاد الأوروبى فى قطاع الطاقة الجديدة والمتجددة ومع GIZ فى قطاعي الصناعات الهندسية والسيارات، ومن الجدير بالذكر أن الحكومة مشكورة قدمت نموذجاً جديداً للتعليم وهى مدارس التكنولوجيا التطبيقية بالشراكة مع شركات القطاع الخاص الرائدة والمؤسسات الدولية لضملن الجودة، وكانت البداية بثلاثة مدارس والآن لدينا أكثر من 41 مدرسة بما فى ذلك 6 مدارس جديدة بمفهوم متطور تحت مسمى المدارس الدولية للتكنولوجيا التطبيقية ولكن لا توجد عندي إحصاءات حديثة للعدد في ٢٠٢٤.
خامسًا: سياسات خاصة بتغيير نظرة المجتمع للتعليم الفنى:
يأتى ذلك من خلال الاهتمام الإعلامى بالتعليم الفنى، مع إبراز قدرات ومجالات وفرص العمل المرموقة لخريجيه، وتقدير الأوائل والمتميزين منهم، كذلك فإن إضافة التعليم التكنولوجى إلى مسمى التعليم الفنى ومحتواه (التعليم الفنى والتكنولوجى والتدريب المهنى) قد يكون عاملا لتغيير انطباعات المجتمع حول هذا التعليم بشكل أكثر إيجابية.
سادسًا: سياسات خاصة بمزاولة المهن المختلفة:
وذلك من خلال تحديد مستويات الجدارة الفنية لكل مهنة، والترخيص وإعادة الترخيص لها، وشراكة القطاع الخاص فى ذلك، بحيث يتم توحيد مسميات المهن على المستوى القومى، وتوصيفها وتحديد مهاراتها، ووضع برامج مناسبة وموحدة للحصول على تلك المهارات، ووضع اختباراتها ومنح شهاداتها وهو ما أظن الدولة قد إنتبهت اليه أخيراً.
إن درجات الجدارة المهنية لكل مهنة يجب أن تكون مرئية بين الدول وبعضها ومتفقًا عليها. ولعل الاتحاد الأوروبى وما قام به من جهود محترمة فى هذا المجال قد وحّد بين الدول الأوروبية، بما يسهل حركة المهنيين والمعلمين عبر الحدود بين بلد وآخر، ولقد كانت دعوتى- ومازالت- أن نأخذ بهذه المعايير وهذا الأسلوب، فإن شبابنا المهنى ستتوفر له سوق عمل أوسع من مصر فى البلدان العربية وشمال البحر المتوسط، فإذا كانت أنظمة التعليم الفنى والتدريب المهنى متوافقة المعايير مع النظم الأوروبية فسيكون ذلك عاملا إيجابيا لإيجاد فرص عمل جيدة هناك بلا احتياج للوجود غير الشرعى أو قبول الرواتب المتدنية لانخفاض المستوى المهنى وغياب الترخيص المرتبط بدرجات الجدارة المهنية المتعارف عليها إن الفرصة متاحة، بل أراها تنادينا وتسعى إلينا، وقد آن الأوان لنبادر بالأخذ بها، الأمر لا يحتاج إلى عبقرية جديدة، بل يحتاج إلى إرادة سياسية وتطبيق مستدام.