الفرصة للإنقاذ (٧)
التعليم العالي
فلسفة وجود وأسلوب تطوير
إن الجامعات تُبنى على محورين : أحدهما ينتقل من التركيز على الوجود المباشر )احتياجات الرفاهة( إلى الواقع الجديد )الدعوة للبحث عن الحقيقة( والأخر ينتقل من المعارضة )الجانب الإنتقادي( إلى الموافقة )جانب الالتزام ومساهمة المؤسسة في الإنتاجية الاجتماعية. (وتؤدي الجهود المبذولة لتحقيق الاتساق ما بين تلك الوظائف دائماً إلى البحث عن وحدة الهدف كما يظهر في كلمة uni-versitas نفسها.
وتعد عملية التحديث هي الوظيفة المنوطة بها الجامعات في كل المجتمعات . وحتى يتسنى لنا تعريف الحداثة وفهم مضامينها المؤدية إلى التغير الاجتماعي والتطور العلمي ينبغي للجامعات بوصفها من المؤسسات الضرورية للأمة ولبنة للتطور الثقافي أن تتكاثر ، وتنتشر ، وتتطور ، ويحدث فيها طفرات لتواكب المستقبل وسيتبقي منها الافضل . أليس ذلك سمة ميمات كل الأفكار في التاريخ البشري المعاصر !!
وعلي الجامعات أن تقوم بمسح البيئة التي تنشأ فيها وأن تدرك تعقيدات التغيير المحتملة وهذا يعني الحرية الأكاديمية. و عليها أن تضع رؤيتها تجاه التزاماتها نحو هذا التحول وأن تحدد كيفية استخدام أصولها بأفضل السبل الممكنة وهذا يعني الاستقلالية المؤسسية . وعمليا يعني ما تقدم تحديد الاستراتيجيات التي تؤدي بها إلى وضع سياسات مؤسسية يمكن اختبارها وقياسها والتثبت منها ويفرض هذا توافر المساءلة.
ما هي الأغراض التي تُرجى من التعليم العالي في أي أمة؟ وماذا نطلب منه وله؟ قد يخيل لنا أن الأمور واضحة في أذهان الجميع، بينما هى علي غير ذلك حتى في أذهان بعض المتخصصين.
أيسر هذه الصور المُتَخَيلة هو ما يقع في وجدان أولياء الأمور والتلاميذ في مصر .. فهم يرون خريج التعليم العالي ذو مكانة اجتماعية أفضل وأن شهادته تؤهل حاملها لهذه المكانة..، ويرون التعليم العالي أرقى من أنواع التعليم الأخرى، بل إن هناك تقسيم نفسي داخله، فيرون خريج الجامعة أرقى من خريج المعهد وأن خريج المعهد أرقى من خريج التعليم الفني وهكذا.
كذلك ترى هذه الأسر، أن الدولة عبر تاريخها الحديث تتطلب شهادة التعليم العالي للتعيين في وظائفها الهامة، وأن هذا التعليم يؤهل طلابه لشغل الوظائف خاصة إذا كانت شهادات تعليم عالي ممتاز والذي تمثله كليات القمة كما سماها المجتمع. أو أن الشهادة في حد ذاتها جواز مرور اجتماعي بغض النظر عن المعرفة أو المهارات التي من الواجب اكتسابها من هذا التعليم، ولا أستطيع أن أنكر هذه الصور في أذهان أصحابها، لأنها مستمدة من الواقع الذي يعيشون فيه، وتجاربهم المتكررة خلاله.
البعض يظن أن التعليم عليه أن يوفي إحتياجات السوق الوقتية ، وهو تصور قاصر ضيق الأفق لأن التعليم العالي له منافع أخرى متعددة، تتجمع في كونه قاطرة التنمية في أي مجتمع.. فهو تعليم لا يأتي كرد فعل لحالة سوق العمل، أو نسب البطالة أو حال مهنة من المهن في وقت بعينه.. ولكنه هذا النوع من التعليم الذي يرسم ملامح المستقبل، ويبنى البشر القادرين على صنع التنمية وليس ملء فراغ الاحتياجات..كما يبنى الإنسان صانع الفرصة و محققها وليس فقط المستفيد منها.
قليل من المثقفين يرون الدور التنويري للجامعات ومؤسسات التعليم العالي و يطرحون سؤالاً جوهرياً :
هل القائمون على الجامعات مجرد مقدمي خدمة تعليمية أم بُناة حداثة و صانعي حضارة ؟
وهل يتم إعدادهم بهذه الفلسفة!!
إنني أطرح عشرة سياسات محددة، نابعة من رؤية مصر ٢٠٣٠، لتطوير التعليم العالي وأطرح فلسفة وجود الجامعات ووظائفها لتتوافق السياسات مع فلسفة إنشاءها.
يفترض أنه في كل مكان تحاول الجامعة تلبية أربعة أهداف فلسفية ،( الدولة تتجه للأسف لإلغاء علم الفلسفة والمنطق في الدراسة الثانوية ) ألا وهي : الرفاهة ؛ والنظام ؛ والمعنى ؛ والحقيقة. ومن ثم تمثل هذه الأهداف مجتمعة : فلسفة تأسيس ووجود هذه الجامعات.
فالجامعة تركز على رفاهة المجتمع بإعداد طلابها للتكامل البنًاء داخل المجتمع من خلال اكتساب المعرفة والمهارات والتي تشكل أداة لإحراز التقدم وتحقيق التطور، أو بتنمية مجال البحث والابتكار لديها لتعزيز القوة الاقتصادية للأمة.
و الهدف هو تلبية الاحتياجات الاجتماعية بشكل فعّال واقتصادي. ولذلك فإن الهدف المنفعيّ للاستثمارات التي توجهها الحكومات والأطراف المعنية إلى جامعاتها، يُصبح مبرراً. فهناك عائد محسوس ويمكن قياسه الجميع.
أما بخصوص النظام الاجتماعي فان الجامعة، تساعد المجتمع كي يكون ”مجتمعا متناسقا” تتبادل فيه المجموعات المختلفة المراجع وتجعل من العلم والمعرفة والمهارات الفنية أمراً ملائماً ومناسباً. وهذا يتطلب وضع المهارات ومجالات المعرفة المتصلة بالتكامل المدني واستخدامها في التدريس وتكييفها مع الاحتياجات الاجتماعية الحالية.
وكذلك يحدد التعليم العالي ”مؤهلات” الأشخاص وتصبح شهادات التعليم العالي والدراسات العليا بأنواعها المختلفة جواز مرور هؤلاء إلى المناصب المرموقة ذات الرواتب المناسبة الموجودة على درجات السلم الاجتماعي المختلفة، فالجامعات أهم مصدر لتنظيم المؤهلات العليا.
وتتناول الجامعة في قضية المعني، مسلمات الحياة كما يعرفها المجتمع وتبحث في وجهات النظر المختلفة لكل القضايا، القديمة والجديدة، وتعيد النظر في المراجع الفكرية المستقرة والمقبولة، وتعيد تنظيم البيانات وفقاًً للمعايير الجديدة سواء كانت فكرية أو أخلاقية أو جمالية. ويكمن إثراء المعنى في الإلمام الشامل والكامل بهذه المعارف ووجهات النظر المختلفة والتشكك في المسلمات وإعادة تنظيم العالم كما نعرفه في ضوء ذلك . ويترتب على هذا قدرة الجامعة على الإشارة إلى الإصلاحات الممكنة في المجتمع، وهو ما يعتبر الأساس لأي نقلة حضارية تقوم بها الأمم.
وعند تناول الجامعة لمسألة البحث عن الحقيقة فإنها تستكشف المجهول بوصفه النظام الطبيعي الذي تُشكل الإنسانية جزءاً منه. ولا يكمن الهدف من هذا محاولة هدم أسوار الجهل فحسب بل التساؤل العميق في مدى فهم الإنسان للكون المحيط به وللثوابت التي إعتقد أسلافهم في زمن غير زمنهم بها، وتلتقي مراحل هذا الجهد مع أسلوب الاستدلال العلمي الواجب أن تنتهجه الجامعات في دراسة العلوم المختلفة الذي يشمل التشكك ؛ والتخيل ؛ والاستيعاب ؛ وهي عملية تشوبها المخاطر أحيانا حيث أنها قد تؤدي بنا إلى الخطأ والفشلً وهى أمور يقبلها العلم ما دامت تتم بمنهج الاستدلال العلمي والبرهان، ولكن يظل البحث عن الحقيقة مدخلا أساسيا لوظيفة الجامعة.
أما السياسات العشرة للتطوير كما جاءت في رؤية مصر 2030 فألخصها في التالي:
أولا: إعادة صياغة مسؤوليات الدولة تجاه نظام التعليم العالى بجامعاته ومعاهده. وزارة التعليم العالى ليست مقدم الخدمة هنا بل المنظم وضامن العدالة ويجب أن تسمح بالحرية الأكاديمية والاستقلالية المالية (regulator vs controler).
ثانيا: التوسع فى نظم التعليم العالى لتلبية احتياجات الطلاب الجدد وفقًا لرؤية محددة ومعلنة تشمل التعليم الفنى والتدريب المهنى.
ثالثا: إعادة تنظيم بشكل جذرى للمؤسسات التعليمية بهدف تحسين الجودة، والوصول إلى المستويات العالمية التى نختارها.
رابعا: تطوير نظام متعدد ومرن يتفق واحتياجات التنمية ويتصل وينفتح على الحركات الدولية المعنية بالتحسين وتحديث طرق التدريس والبحث العالمية والمحلية.
خامسا: إجراء تحرك ضخم ومتكامل كأساس لوضع البحث العلمى ونشاطاته كمكون حياتى فى مؤسسات التعليم العالى وتوفير التمويل اللازم له بهدف أن يصبح ممولا أساسيا للمؤسسات التعليمية خلال السنوات الخمس القادمة.
سادسا: مساندة تنمية العلاقة الديناميكية بين مؤسسات التعليم العالى وسوق العمل المصرى والعربى والأوروبى الحالى والمستقبلى وربط التمويل الحكومى للجامعات بقدرتها على ذلك.
سابعا: الالتزام بالنزاهة الأكاديمية والمؤسسية، وترسيخ ذلك فى رسالة كل مؤسسة تعليمية لتعكس قيم الصدق والمساءلة والمسؤولية والدقة كقيم أساسية فضلًا عن احترام الأمانة العلمية والحرية، وبالإضافة إلى احترام تكافؤ الفرص والتعددية.
ثامنا: دمج التكنولوجيا والثقافة الرقمية فى وجدان الطلاب وأعضاء هيئات التدريس بأولوية واضحة لا تسمح بالتراجع، والعمل على التوسع فى التعليم التفاعلى عن بعد والتعليم المدمج. ولا بد من السماح بإنشاء مؤسسات متخصصة ومستقلة للتعليم عن بعد والتوسع فيها فى إطار ضمانات الجودة العالمية.
تاسعا: حوكمة إدارة مؤسسات التعليم العالى، وكفاءة تنظيمها وهو هدف متكرر الوضوح فى رؤية مستقبل البلاد، ولا بد تدريجيا من العودة إلى اختيار القيادات الإدارية للجامعات من خلال نظام انتخابى من أعضاء هيئات التدريس.
عاشرا: تنمية مناخ إيجابى فى مؤسسات التعليم العالى بممارسة الرياضة والفنون والعمل الجماعى والتواصل بالمجتمع لبناء إنسان سوى، يملك مهارات القرن الواحد والعشرين، ومنافسًا عالميًا.
*سأواصل فى المقال القادم طرح أسس الإتاحة والجودة، وكذلك دور القطاع الخاص فى التعليم العالى، شارحًا بوضوح حقيقة أن التعليم العالى حق للشباب طالما يمكنهم تحقيق معاييره، لا يجب أن يحرم منه أحد لفقره أو احتياجاته المالية