الخميس , 21 نوفمبر 2024
Home / بقلم د حسام بدراوي / الفرصة للإنقاذ (٧)‏ التعليم العالي ‏ فلسفة وجود وأسلوب تطوير ‏

الفرصة للإنقاذ (٧)‏ التعليم العالي ‏ فلسفة وجود وأسلوب تطوير ‏

الفرصة للإنقاذ (٧)‏
التعليم العالي
‏ فلسفة وجود وأسلوب تطوير ‏
‏ ‏
إن الجامعات تُبنى على محورين : أحدهما ينتقل من التركيز على الوجود المباشر ‏‎)‎احتياجات الرفاهة‎( ‎إلى الواقع ‏الجديد ‏‎)‎الدعوة للبحث عن الحقيقة‎( ‎والأخر ينتقل من المعارضة ‏‎)‎الجانب الإنتقادي‎( ‎إلى الموافقة ‏‎)‎جانب الالتزام ‏ومساهمة المؤسسة في الإنتاجية الاجتماعية‎. (‎وتؤدي الجهود المبذولة لتحقيق الاتساق ما بين تلك الوظائف دائماً ‏إلى البحث عن وحدة الهدف كما يظهر في كلمة uni-‏versitas‏ نفسها.‏
‏ ‏
وتعد عملية التحديث هي الوظيفة المنوطة بها الجامعات في كل المجتمعات . وحتى يتسنى لنا تعريف الحداثة ‏وفهم مضامينها المؤدية إلى التغير الاجتماعي والتطور العلمي ينبغي للجامعات بوصفها من المؤسسات ‏الضرورية للأمة ولبنة للتطور الثقافي‎ ‎أن تتكاثر ، وتنتشر ، وتتطور ، ويحدث فيها طفرات لتواكب المستقبل ‏وسيتبقي منها الافضل . أليس ذلك سمة ميمات كل الأفكار في التاريخ البشري المعاصر !!‏
وعلي الجامعات أن تقوم بمسح البيئة التي تنشأ فيها وأن تدرك تعقيدات التغيير المحتملة وهذا يعني الحرية ‏الأكاديمية. و عليها أن تضع رؤيتها تجاه التزاماتها نحو هذا التحول وأن تحدد كيفية استخدام أصولها بأفضل ‏السبل الممكنة وهذا يعني الاستقلالية المؤسسية . وعمليا يعني ما تقدم تحديد الاستراتيجيات التي تؤدي بها إلى ‏وضع سياسات مؤسسية يمكن اختبارها وقياسها والتثبت منها ويفرض هذا توافر المساءلة.‏
ما هي الأغراض التي تُرجى من التعليم العالي في أي أمة؟ وماذا نطلب منه وله؟ قد يخيل لنا أن الأمور ‏واضحة في أذهان الجميع، بينما هى علي غير ذلك حتى في أذهان بعض المتخصصين. ‏
أيسر هذه الصور المُتَخَيلة هو ما يقع في وجدان أولياء الأمور والتلاميذ في مصر .. فهم يرون خريج التعليم ‏العالي ذو مكانة اجتماعية أفضل وأن شهادته تؤهل حاملها لهذه المكانة..، ويرون التعليم العالي أرقى من أنواع ‏التعليم الأخرى، بل إن هناك تقسيم نفسي داخله، فيرون خريج الجامعة أرقى من خريج المعهد وأن خريج المعهد ‏أرقى من خريج التعليم الفني وهكذا.‏
‏ ‏
كذلك ترى هذه الأسر، أن الدولة عبر تاريخها الحديث تتطلب شهادة التعليم العالي للتعيين في وظائفها الهامة، ‏وأن هذا التعليم يؤهل طلابه لشغل الوظائف خاصة إذا كانت شهادات تعليم عالي ممتاز والذي تمثله كليات القمة ‏كما سماها المجتمع. أو أن الشهادة في حد ذاتها جواز مرور اجتماعي بغض النظر عن المعرفة أو المهارات التي ‏من الواجب اكتسابها من هذا التعليم، ولا أستطيع أن أنكر هذه الصور في أذهان أصحابها، لأنها مستمدة من ‏الواقع الذي يعيشون فيه، وتجاربهم المتكررة خلاله.‏
‏ ‏
البعض يظن أن التعليم عليه أن يوفي إحتياجات السوق‎ ‎الوقتية ، وهو تصور قاصر ضيق الأفق لأن التعليم ‏العالي له منافع أخرى متعددة، تتجمع في كونه قاطرة التنمية في أي مجتمع.. فهو تعليم لا يأتي كرد فعل لحالة ‏سوق العمل، أو نسب البطالة أو حال مهنة من المهن في وقت بعينه.. ولكنه هذا النوع من التعليم الذي يرسم ‏ملامح المستقبل، ويبنى البشر القادرين على صنع التنمية وليس ملء فراغ الاحتياجات..كما يبنى الإنسان صانع ‏الفرصة و محققها وليس فقط المستفيد منها.‏
‏ ‏
قليل من المثقفين يرون الدور التنويري للجامعات ومؤسسات التعليم العالي و‎ ‎يطرحون سؤالاً جوهرياً :‏
هل القائمون على الجامعات مجرد مقدمي خدمة تعليمية أم بُناة حداثة و صانعي حضارة ؟
وهل يتم إعدادهم بهذه الفلسفة!!‏
إنني أطرح عشرة سياسات محددة، نابعة من رؤية مصر ٢٠٣٠، لتطوير التعليم العالي وأطرح فلسفة وجود ‏الجامعات ووظائفها لتتوافق السياسات مع فلسفة إنشاءها. ‏
‏ ‏
‏ يفترض أنه في كل مكان تحاول الجامعة تلبية أربعة أهداف فلسفية ،( الدولة تتجه للأسف لإلغاء علم الفلسفة ‏والمنطق في الدراسة الثانوية ) ألا وهي : الرفاهة ؛ والنظام ؛ والمعنى ؛ والحقيقة. ومن ثم تمثل هذه الأهداف ‏مجتمعة : فلسفة تأسيس ووجود هذه الجامعات.‏
‏ ‏
فالجامعة تركز على رفاهة المجتمع بإعداد طلابها للتكامل البنًاء داخل المجتمع من خلال اكتساب المعرفة ‏والمهارات والتي تشكل أداة لإحراز التقدم وتحقيق التطور، أو بتنمية مجال البحث والابتكار لديها لتعزيز القوة ‏الاقتصادية للأمة. ‏
و الهدف هو تلبية الاحتياجات الاجتماعية بشكل فعّال واقتصادي. ولذلك فإن الهدف المنفعيّ للاستثمارات التي ‏توجهها الحكومات والأطراف المعنية‎ ‎إلى جامعاتها، يُصبح مبرراً. فهناك عائد محسوس ويمكن قياسه الجميع.‏
‏ ‏
أما بخصوص النظام الاجتماعي فان الجامعة، تساعد المجتمع كي يكون ‏‎”‎مجتمعا متناسقا‎” ‎تتبادل فيه المجموعات ‏المختلفة المراجع وتجعل من العلم والمعرفة والمهارات الفنية أمراً ملائماً ومناسباً. وهذا يتطلب وضع المهارات ‏ومجالات المعرفة المتصلة بالتكامل المدني واستخدامها في التدريس وتكييفها مع الاحتياجات الاجتماعية الحالية.‏
‏ وكذلك يحدد التعليم العالي ‏‎”‎مؤهلات‎” ‎الأشخاص وتصبح شهادات التعليم العالي والدراسات العليا بأنواعها ‏المختلفة جواز مرور هؤلاء إلى المناصب المرموقة ذات الرواتب المناسبة الموجودة على درجات السلم ‏الاجتماعي المختلفة، فالجامعات أهم مصدر لتنظيم المؤهلات العليا.‏
‏ ‏
وتتناول الجامعة في قضية المعني، مسلمات الحياة كما يعرفها المجتمع وتبحث في وجهات النظر‎ ‎المختلفة لكل ‏القضايا، القديمة والجديدة، وتعيد النظر في المراجع الفكرية المستقرة والمقبولة، وتعيد تنظيم البيانات وفقاًً ‏للمعايير الجديدة‎ ‎سواء كانت فكرية أو أخلاقية أو جمالية. ويكمن إثراء المعنى في الإلمام الشامل والكامل بهذه ‏المعارف ووجهات النظر المختلفة والتشكك في المسلمات وإعادة تنظيم العالم كما نعرفه في ضوء ذلك . ويترتب ‏على هذا قدرة الجامعة على الإشارة إلى الإصلاحات الممكنة في المجتمع، وهو ما يعتبر الأساس لأي نقلة ‏حضارية تقوم بها الأمم.‏
‏ ‏
وعند تناول الجامعة لمسألة البحث عن الحقيقة فإنها تستكشف المجهول بوصفه النظام الطبيعي الذي تُشكل ‏الإنسانية جزءاً منه. ولا يكمن الهدف من هذا محاولة هدم أسوار الجهل فحسب بل التساؤل العميق في مدى فهم ‏الإنسان للكون المحيط به وللثوابت التي إعتقد أسلافهم في زمن غير زمنهم بها، وتلتقي مراحل هذا الجهد مع ‏أسلوب الاستدلال العلمي الواجب أن تنتهجه الجامعات في دراسة العلوم المختلفة الذي يشمل التشكك ؛ والتخيل ؛ ‏والاستيعاب ؛ وهي عملية تشوبها المخاطر أحيانا حيث أنها قد تؤدي بنا إلى الخطأ والفشلً‎ ‎وهى أمور يقبلها ‏العلم ما دامت تتم بمنهج الاستدلال العلمي والبرهان، ولكن يظل البحث عن الحقيقة مدخلا أساسيا لوظيفة ‏الجامعة.‏
أما السياسات العشرة للتطوير كما جاءت في رؤية مصر ‏‎2030 ‎‏ فألخصها في التالي:‏
أولا: إعادة صياغة مسؤوليات الدولة تجاه نظام التعليم العالى بجامعاته ومعاهده. وزارة التعليم العالى ليست مقدم ‏الخدمة هنا بل المنظم وضامن العدالة ويجب أن تسمح بالحرية الأكاديمية والاستقلالية المالية ‏‏(‏regulator‏ ‏vs‏ ‏controler‏).‏
ثانيا: التوسع فى نظم التعليم العالى لتلبية احتياجات الطلاب الجدد وفقًا لرؤية محددة ومعلنة تشمل التعليم الفنى ‏والتدريب المهنى.‏
ثالثا: إعادة تنظيم بشكل جذرى للمؤسسات التعليمية بهدف تحسين الجودة، والوصول إلى المستويات العالمية ‏التى نختارها.‏
رابعا: تطوير نظام متعدد ومرن يتفق واحتياجات التنمية ويتصل وينفتح على الحركات الدولية المعنية بالتحسين ‏وتحديث طرق التدريس والبحث العالمية والمحلية.‏
خامسا: إجراء تحرك ضخم ومتكامل كأساس لوضع البحث العلمى ونشاطاته كمكون حياتى فى مؤسسات التعليم ‏العالى وتوفير التمويل اللازم له بهدف أن يصبح ممولا أساسيا للمؤسسات التعليمية خلال السنوات الخمس ‏القادمة.‏
سادسا: مساندة تنمية العلاقة الديناميكية بين مؤسسات التعليم العالى وسوق العمل المصرى والعربى والأوروبى ‏الحالى والمستقبلى وربط التمويل الحكومى للجامعات بقدرتها على ذلك.‏
سابعا: الالتزام بالنزاهة الأكاديمية والمؤسسية، وترسيخ ذلك فى رسالة كل مؤسسة تعليمية لتعكس قيم الصدق ‏والمساءلة والمسؤولية والدقة كقيم أساسية فضلًا عن احترام الأمانة العلمية والحرية، وبالإضافة إلى احترام ‏تكافؤ الفرص والتعددية.‏
ثامنا: دمج التكنولوجيا والثقافة الرقمية فى وجدان الطلاب وأعضاء هيئات التدريس بأولوية واضحة لا تسمح ‏بالتراجع، والعمل على التوسع فى التعليم التفاعلى عن بعد والتعليم المدمج. ولا بد من السماح بإنشاء مؤسسات ‏متخصصة ومستقلة للتعليم عن بعد والتوسع فيها فى إطار ضمانات الجودة العالمية.‏
تاسعا: حوكمة إدارة مؤسسات التعليم العالى، وكفاءة تنظيمها وهو هدف متكرر الوضوح فى رؤية مستقبل البلاد، ‏ولا بد تدريجيا من العودة إلى اختيار القيادات الإدارية للجامعات من خلال نظام انتخابى من أعضاء هيئات ‏التدريس.‏
عاشرا: تنمية مناخ إيجابى فى مؤسسات التعليم العالى بممارسة الرياضة والفنون والعمل الجماعى والتواصل ‏بالمجتمع لبناء إنسان سوى، يملك مهارات القرن الواحد والعشرين، ومنافسًا عالميًا.‏
‏*سأواصل فى المقال القادم طرح أسس الإتاحة والجودة، وكذلك دور القطاع الخاص فى التعليم العالى، شارحًا ‏بوضوح حقيقة أن التعليم العالى حق للشباب طالما يمكنهم تحقيق معاييره، لا يجب أن يحرم منه أحد لفقره أو ‏احتياجاته المالية

التعليقات

التعليقات