المرأة.. أصل الوجود
جوابًا عن سؤال إحدى مريضاتى عن الرابط بين المجتمع والمرأة، كتبت:
فى العموم، الذى تغلب عليه نزعات الذّكورة، وتُتّهم فيه المرأة فى كلّ الأحوال، حتّى لو كانت مُغتصبة ومُنتهكة حقوقها، وفى الخصوص عند النقاش حول العلاقة بين الرّجل والمرأة فى إطار مناخ تَعَرض المجتمع لموجاتٍ جديدةٍ من التّخلّف عبر انتهاك حرّيّة هذه المرأة بالتّحرّش اللّفظى أو النّظرة الدّونيّة لها، وانتهاك جسدها بما يسمّونه طهارة، وهو فى العلم تشويهٌ لأعضائها التّناسليّة دون إذنها.
أو فرض الزّواج عليها فى سنّ الطّفولة وإخفاء هويّتها باسم الحماية وسلبها حقّها فى استمرار حياتها الزّوجيّة عبر إلغاء قانونٍ يمنحها هذا الحقّ، وجدتنى أفكّر وأقول لنفسى: ما الرّابط بين المجتمع والمرأة سوى حالة ثقافية اجتماعية، فيها انفصامٌ جمعىٌّ للشّخصيّة، تُبَجَل وتُحترم فيه المرأة الأُمّ، ويتباهى الجميع بأنّ مصر أُمّ الدنيا، فى الوقت الّذى يَتّهمها ويَنتهك فيه حقوقها نفس المجتمع، ويريد إخفاءها عن العيون لأنّها أمّ الشّرور بنظرةٍ ذكوريّةٍ متخلّفة؟.
فكّرت فى حقيقة اختراع الذّكور فكرة أنّ الخروج من الجنّة كان بسبب إغواء المرأة للرّجل، والّتى ألبستها عقائد القدماء سبب تعاسة البشر؛ فسألت صديقتى المثقّفة فى ذلك مُشكِّكًا فى أنّ حوّاء هى سبب خروج الإنسان من الجنّة أساسًا كما تُعلمنا الأساطير ومُدَّعو التّديّن فى كل الأديان لأنّى لم أجد مرجعيّةً لذلك فى عقلى ولا فى القرآن.
قالت لى صديقتى:
إنّ خروج الإنسان يا صديقى من الجنّة ونزوله إلى الأرض كان لاكتمال خَلقه، وليس عقابًا على ذنبٍ اقترفه، فلو ظلّ دون ممارسة قدرته على الاختيار لكان مخلوقًا كباقى المخلوقات، وما كانت له قيمةٌ مضافةٌ أعطاه إيّاها الله، وقد طلب من بقيّة مخلوقاته أن تسجد له. لقد ميَّزه الله بالعقل والقدرة على الاختيار، حتّى لو أخطأ، وقد كان اكتمال خلقه عندما اختار وأخطأ، فأنزله الله إلى الأرض ليُكْمل ما خُلق له.
قلت:
هذا مدخلٌ جديدٌ يخالف المعتاد من أنّ نزول آدم إلى الأرض كان عقابًا على مخالفته أمر ربّه.
قالت:
هذا هو جمال التّفكير واتّساع حدوده بمرور الزّمن؛ فمثلًا، لقد قرأت لك ما كتبته عن الميتوكوندريا، ولم أكن أعلم ما هى، وأذهلنى مدخلك العلمى فى ربط تقديرك لحوّاء تمييزًا عن آدم، دمجًا مع رؤيتك الاجتماعيّة والثّقافيّة المتكاملة، وأرجوك أن تُعيد شرحك لذلك ببساطة سردك.
قلت لها:
إنّ مصدر الطّاقة فى كلّ خليّةٍ من تريليونات الخلايا فى كلّ جسمٍ إنسانى هو جهازٌ نانوىٌّ، اسمه الميتوكوندريا، وهو الجسم الوحيد فى الخلق الّذى يُوَرّث من الأمّ فقط، وليس من الأمّ والأب لأنّ الأمّ هى الأصل، والأمّ هى مصدر الطّاقة وحدها للإنسان، ذكرًا كان أو أنثى.. أى أن المرأة ليست فقط أصل الحياة، بل سبب استمرارها.
قالت:
وأنا أضيف على ما ذكرته أنّى قد بحثت يا سيّدى، فلم أجد كلمة حوّاء فى القرآن كلّه، ولا فى الأحاديث القدسيّة المصنّفة أنّها صحيحةٌ؛ ولكن وجدت أنّ الله سبحانه خلق نفسًا، وهى كلمةٌ مؤنّثةٌ، وخلق منها زوجها، وهى كلمةٌ تحتمل التّأنيث والتّذكير، فتصوّرت خلق الزّهرة، وهى مؤنّثةٌ، وخلق عضو تذكيرٍ فيها نفسها، فتصبح زهرةً مزدوجة الجنس تُلقَّح ذاتيًّا، والذّات مؤنّثةٌ أيضًا.
وبما أنّ النّفس والذّات والزّوج كلّها مؤنّثٌ، فتكون هى الأصل ويكون الزّوج المذكّر هو الّذى خُلق منها، وتكون كلمة (آدم) المذكورة فى القرآن ما هى إلّا اسم علمٍ لهذا الكائن المزدوج الّذى بدأت منه الخليقة؛ وفى طفرةٍ جينيّةٍ انقسم إلى كيانين كما حدث للزّهور. ويكون تفسير الآية: وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلَا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا» على أنّها خطابٌ موجّهٌ إلى مثنّى هذا الكائن مزدوج الجنس من أصل أنثى. «والله أعلم».
وربّما يا صديقى، عِلما التّشريح والجينات عندك حسب- قولك- فيهما كلامٌ مؤيّدٌ أو معارضٌ لهذه الفكرة المبنيّة على منطق التّحليل اللُّغوى البحت.
قلت: التحليل اللغوى يتماشى مع التفسير العلمى لأنه إذا كان الجنين بدون مبيضين أو خصيتين، لَوُلِد أنثى لأنها الأصل.
والتحليل بالمشاهدة يقول إن الذكر يولد من الأم وليس الرجل، فمصدر نشأة الإنسان هو المرأة.
وعن المرأة المصريّة بالذّات فلا أجد خيرًا من درس التّاريخ:
المرأة المصريّة عظيمةٌ وغير عاديّةٍ أُمًّا كانت أو فلّاحةً أو عاملةً، فكلنا نعلم أن نسبة كبيرة من الأسر المصرية تعتمد على المرأة كعائل رئيسى، ولمّا أُتيح لها التّعليم تفوّقت وأجادت، وعندما ترأست البلاد فى تاريخنا الفرعونى، ألهمت وقادت، وعندما تزوّجت من الأنبياء كإبراهيم ومحمّد، أنجبت جدّ العرب إسماعيل، وعندما قرّرت وصانت، حمَت موسى من القتل، وما كان لبنى إسرائيل ولا للدين اليهودى من وجودٍ لولا امرأة فرعون، الّتى احتضنت وربّت.
فى المرأة المصريّة جينات حضارةٍ وقُدرات لا بدّ من تحريرها من قيود التخلف، التى فَرضت عليها الانزواء وراء الرّجل.
فى كلّ حدثٍ تاريخى، كانت للمرأة المصريّة مكانةٌ مستدامة، فمعدن المرأة المصريّة يظهر عبر التاريخ كلما أُتيحت الفرصة.
مثلًا، ثمّة شيئان، منذ طفولتى، عالقان فى ذهنى من تاريخ ثورة 19 فى مصر،: الأوّل، تزاوج الهلال والصّليب؛ والآخر اشتراك المرأة المصريّة بالصّوت والصّورة والتّأثير.
وثمة صورة عالقة فى ذهنى من ثورة مصر الحديثة فى ٣٠/ ٦، وهى اشتراك المرأة المصريّة إلى جانب الرّجل، وصوتها الّذى يعلو على صوت الرّجال فى طلب حرية الوطن من استعماره الأيديولوچى.
قال فيها حافظ إبراهيم:
«والمال إن لم تَدَّخِرْه مُحصَّنًا بالعلم كان نهاية الإملاق،
والعلم إن لم تكتنفْه شمائل تُعليه كان مطِيَّة الإخفاق،
لا تَحْسبَنَّ العلم ينفع وحده ما لم يُتوَّج ربُّه بخَلاق،
مَن لى بتربية النّساء فإنّها فى الشّرق عِلّة ذلك الإخفاق،
الأمّ مدرسةٌ إذا أعدَدتَّها أعدَدتَّ شعبًا طيّب الأعراق،
الأمّ روضٌ إن تعهده الحياة بالرّى أورق أيَّما إيراق
الأمّ أستاذ الأساتذة الّتى شغلت مآثرهم مدى الآفاق»
الأم كلمة يحويها من الجمال ما لا يحوى غيرها معها، ولا يضاهى فى وصفها أمر من الحياة آخر نستطيع الارتكاز عليه غيرها، والجنة تحت أقدامها.
المصريّات تراهُن مرفوعات الهامة، رؤوسهنّ تناطح السّحاب، تجلس على عرش مصر بجوار ملكها وأحيانًا تجلس بعظمتها وحيدةً على العرش، محرّكةً بإصبعها جيوشًا، ومتحكّمةً بعقلها الفذّ فى مصائر البلاد والعباد بمنتهى الحكمة والقدرة.
– وعندما جلست المصريّة على عرش مصر، حكمت حتشبسوت الدّولة المصريّة 21 عامًا، جعلت مصر خلالها أعظم قوّةٍ عسكريّةٍ فى العالم، ووصل الاقتصاد المصرى إلى مستوى غير مسبوقٍ، ويشهد على ذلك معبدها، الّذى يُعتبر قبلة الباحثين عن عظمة مصر.
– حتّى عندما غنّت المصريّة، أصبحت كوكب الشّرق أقوى حبال صوتيّة لامرأةٍ فى العالم.. إنّها السّيّدة أمّ كلثوم. غنّت للعاشقين، وغنّت للوطن وجابت دول العالم كلّه لتجمع بصوتها الأموال لبلادها، فاستحقّت الاحترام والتّقدير.
والمرأة المصريّة نفسها قادت أوّل طائرةٍ فى مصر، وهى الطّبيبة والممرّضة والمدرّسة والعالمة والفنّانة والكاتبة.
قالت لى شابّةٌ من الحالمين بأسى: لكنّنا نرث نصف الرّجل يا دكتور، أليس هذا تمييزًا سلبيًّا ضدّنا؟.
قلت: ترث المرأة نصف الرّجل، فتستطيع أن تدَّخره كلّه لنفسها ولا تنفق منه شيئًا، ويظلّ الرّجل مسؤولًا عن الإنفاق كلّه، وإلّا فلا قوامة له؛ أى أنّ حقوق الرّجل تجاه أهل بيته وأسرته مرهونةٌ بالمسؤولية، تدور معه وجودًا وعدمًا؛ فالرّجال قوَّامون على النّساء بما فضّل الله بعضهم على بعضٍ وبما أنفقوا من أموالهم، والتّفضيل كما أفهمه هو العلم والمعرفة. وفى الميراث يستطيع الآباء أن يخصصوا الإرث لبناتهم، حسب تفسيرى للآيات، التى تلاعب بتفسيرها الرجال.
قال شابٌّ آخر: إذًا هى مزاحمةٌ بين النّساء والرّجال فيما هو مُتاحٌ من أرزاق!!.
قلت: بل هو تكاملٌ بين البشر لخلق أرزاقٍ جديدةٍ وقوّةٍ للمجتمع، ليستخدم طاقاته كاملةً وليس نصفها فقط.
قالت شابّةٌ: لكن ما الّذى يحمى المرأة فى هذا الزّمن من الظلم أو الطّغيان الذّكورى؟.
قلت: العلم، العلم، العلم، والمعرفة، فعلى كلّ أسرةٍ أن تُسَلّح بناتها بالعلم والمعرفة؛ فلا سبيل لحماية الحقوق إلّا بذلك.
إلى كلّ سيّدات مصر
إلى كلّ آنسات مصر
إلى كلّ عظيمات مصر
ينحنى العالم كلّه لَكُنَّ احترامًا
ماضيكُنَّ حضارةٌ تسجّلها أولى صفحات التّاريخ،
وعظمة حاضرِكُنَّ لا تخطئها أعين النّاظرين
والمستقبل تنيره شمس وجودِكُنَّ الجميل،
فلا تنحنين أمام جهالة البعض
وضحالة التّفكير والتفسير.