الخميس , 19 ديسمبر 2024
الرئيسية / بقلم د حسام بدراوي / بعد 25 يناير / المصري اليوم – الجمال والتعليم

المصري اليوم – الجمال والتعليم

بقلم د.حسام بدراوي ٥/ ٥/ ٢٠١٥
المصري اليوم

إن الجمال سمة مميزة من سمات هذا الوجود، يتجلى فى كل مكان، وهو نوع من النظام والتناغم والانسجام، وذو مظاهر وتجليات لا حصر لها، فالدقة والرقة والتناسق والتوازن والترابط، والشعور بالسعادة التى يبعثها الجمال فى النفس، قد يستطيع الإنسان التعبير عنها وقد لا يستطيع. وهذا يمثل درجتين مختلفتين من القدرات: قدرة الإحساس بالجمال، وقدرة التعبير عنه. ولأن الإحساس بالجمال الخارجى والداخلى هو إدراك معرفى فإنه يمكن تعلمه. أما القدرة الأخرى للإنسان، والتى تعبر عن الجمال وتظهره وتبينه، فهى القدرة التى يتمتع بها الفنان، مصوراً كان أو أديبا، أو غيرهما من أصحاب القدرات الفنية المختلفة. وحيث إن العلم والتجربة قد أثبتا أن هناك الكثير من المعارف والمهارات التى يمكن للإنسان تعلمها، خصوصاً فى السن الصغيرة، تمكنه من زيادة قدراته فى التعبير عموماً، فإن كل إنسان فنان بدرجة من الدرجات. ويبقى التفرد فى الفن للمواهب الخاصة التى ينفرد فيها إنسان عن آخر.

عرّف فيثاغورس الجمال بأنه جوهر آلية التناسق العددى التى تنطبق على أبسط الظواهر وأعقدها. والجمال عند العقاد هو حرية الحركة، وجمال الموسيقى كجمال الوجود يكمن فى النسب والعلاقات الرياضية، كما يكمن جمال الكون فى الانسجام الدقيق بين حركة الكواكب والنجوم. والفن فى الحضارة الإسلامية قد عبر عن قيمة جمالية مستمدة من الأشكال الهندسية والألوان، فكان تعبيرا عن روح جديدة وعقلية فلسفية لها طابعها الخاص. إن الجمال وسيلة لتهذيب الانفعالات، وهو نوع من الحرية فى الوجدان، وأى مفكر عاقل فى تطوير التعليم عليه أن يضع مفهوم الجمال، كشىء يمكن إدراكه، ضمن اهتمامات المدرسة والمعهد التعليمى، لأن وظيفتنا كما قلت دائماً هى بناء القدرات. إن إدراك الجمال بكل ما له من أثر نفسى يرفع من مستوى البشر، يمكن أن توضع له قواعد فى النظام التعليمى الذى يربى ويعد شباب مصر للمستقبل.

997

أيها السادة.. عندما تتمزق الروح، وينفصل العمل عن المتعة، ويغيب الشغف والإلهام، وتتفكك الوحدة والتناغم، تكون الحاجة شديدة إلى الجمال وإدراكه أكبر وأكثر أهمية، ولا أعنى بذلك دراسة الفن لذاته، بل إننى آخذ ذلك إلى مرام أوسع من ذلك. وسآخذ الموسيقى كمثل. فالموسيقى هى أكثر الفنون تجردا عن الأهداف العملية، لأن وسيلتها فى التأثير على النفس الإنسانية لا تخدم أغراضا خارجة عن نطاق الفن، فليس شأنها مثلا شأن العمارة التى تُستخدم فى البناء، وتفيد فى تحقيق أغراض أخرى غير مجرد إحداث البهجة الجمالية، إلا أنها فى دراستها البسيطة تبنى الإحساس والمعرفة بالتناسق والتناغم، وتصل إلى علم الرياضيات من مدخل الجمال والمتعة، وتكون مهارات ممارستها الدقة والإجادة والمثابرة والالتزام، والتفرد الفردى والعمل فى فريق، فأنا لا أنظر هنا للموسيقى بشكل مجرد، بل كأساس من أسس التعليم. كذلك الحال بالنسبة للكلمة، وسيلة الأدب والشعر، وغيرهما من الفنون التى قد تُستخدم فى غرض آخر غير خلق مجرد صور فنية جميلة.

إن هدفى أن تكون فلسفة الجمال بإدراكه الخارجى والداخلى أحد أهداف التعليم. وأن يكون مدخل الفن بأشكاله المختلفة، مندمجا فى رؤيتنا لتطوير الإنسان داخل المؤسسة التعليمية. وكما يقول الأستاذ زكى نجيب محمود: «الإنسان العادى من جمهور الناس إذا عرف فى حياته الجارية كيف يفرق بين ما هو جميل وما هو قبيح فيما يحيط به من أشياء، فإن معرفته تلك تجعل منه إنسانا أفضل يفرق أيضا بين الخير والشر، فالخير دائما جميل…».

وأعود مرة أخرى إلى أن طبيعة الإنسان، بدون التحريف الذى نفعله به فى التربية الأسرية أو المناخ التعليمى، تنجذب إلى كل ما هو جميل، وقد ورد عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم: «إن الله جميل يحب الجمال»، وقد شاءت قدرة المبدع الخالق سبحانه وتعالى أن يجعل من الجمال – فى شتى صوره – مناط رضا وسعادة لدى الإنسان. إن استساغة الجمال حق مشاع للجميع لا يحتاج الإنسان فيه أن يكون ذا مركز أو صاحب سطوة أو مال ليتمتع به.

والجمال ليس قيمة سلبية، ولكنه ينبع من قوة مبدعة قادرة، تثير الفكر والتأمل، وتفتح أبواب الإيمان واليقين. وإذا كان الاستمتاع بالجمال مباحاً، فإنه مدخل إلى ارتقاء الروح والذوق، وسمو النفس وخلاصها من التردى والسقوط، ومحرك للفكر كى يجول إلى ما هو أبعد من المظاهر الحسية فقط. فالجمال فى الحقيقة، سبب من أسباب الإيمان، وعنصر من عناصره، والقيم الجمالية الفنية تحمل على جناحيها ما يعمق هذا الإيمان ويقويه، ويجعله وسيلة للسعادة والخير فى هذه الحياة.

إن فلسفة الأخلاق، وعلم المنطق، وفلسفة الجمال، بدرجات متفاوتة من العمق، يجب أن تندرج فى وجدان الشباب، حسب المرحلة العمرية التى يدرسون فيها بشكل أو بآخر، إن اختيار مناهج الأدب والشعر وفنون الكلام يجب أن يتناسق مع هذه الرؤية، وإدماج هذه المنهجية بلا تردد فى التعليم هو جزء يجب ألا ينفصل عن روية التطوير الشاملة، إلا أننى أؤكد أن الأهم ليس فى منهج يدرس بل فى معلم يفهم هذه القيمة، ومدرسة ومعهد تكون فلسفة الجمال رائدة لمضمونهما.

التعليقات

التعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *