الأحد , 22 ديسمبر 2024
الرئيسية / بقلم د حسام بدراوي / بعد 25 يناير / المصنع قفل.. والوكيل شغّال.. د حسام بدراوي

المصنع قفل.. والوكيل شغّال.. د حسام بدراوي

قالت لى الشابة المثقفة: ما رأيك فيما يجرى فى المملكة السعودية من تطور؟

واستطرد زميل لها قائلًا: المملكة إلى عهد قريب جدًا كانت مجتمعًا متحفظًا جدًا، بل جامد، ولم يكن أحد يتصور أن مع تغيير القيادة وانتقال الحكم إلى جيل جديد ستتطور الأمور الاجتماعية والثقافية فيها بهذه الصورة والسرعة.

قلت: معكما حق، فالمملكة هى معقل الوهابية والسلفية، وكان ملوكها وعائلتهم الحاكمة يحافظون على ذلك فى توازن بين الثروة التى تتراكم لهم ومعهم، كنسبة من عوائد البترول، وبين تَرْك شيوخ السلفية وأصحاب الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر بمعتقداتهم يتحكمون فى الشارع السعودى تمامًا، بل إن نظام الحكم السعودى كان ينفق الملايين من الدولارات على نشر مذهبهم فى البلاد الإسلامية.

قالت الشابة: سيدات تقود سيارات، وحفلات فنية، وسينمات ومسارح، ومعارض للكتب نرى فيها كتبًا لم يكن مسموحًا لها بالدخول إلى هذا البلد مطلقًا. إننى أرى يا دكتور أن راية السلفية ستسقط بتغيير نمط الحياة فى المملكة.

قلت: إن التغيير السريع الذى تتكلمون عنه له أسبابه، فإخواننا من السعوديين الذين كانوا يزاملوننا فى الدراسة، وحتى بعض الملوك قبل جلوسهم على كراسى الحكم، كانوا منفتحين على العالم، يقرأون ما نقرأ ويمارسون تنويرًا خارج بلادهم، ولكن يعودون إلى التحفظ الشديد عندما يرجعون إلى مجتمعهم. وعندما جاء شاب شجاع وأزال هذا الانفصام بالإعلان عن توجهاته التحررية كان وكأنه يعبر عن حقيقة الوضع فقط.

قال شاب آخر: وما تأثير ذلك على مصر؟

ابتسمت، وقلت: تعلمون أن مصر والسعودية كانتا تتنافسان على قيادة الأمة العربية. السعودية بثروتها وبصفتها موطن بداية الإسلام وتبنيها نموذجًا دينيًا متشددًا، ومصر بتاريخها العلمى والثقافى، والتى تعَلَّم فيها أغلب قيادات العالم العربى إلى وقت قريب، وقوة جيشها وتنظيمه.

ولكن حقيقة الأمر أن مصر كان لها ملايين العاملين فى المملكة، يعملون لسنوات، سنوات يقضونها عملًا وتعايشًا فى هذا المجتمع المغلق، ويتأثرون اجتماعيًا وثقافيًا، سنوات غيّرت فى تركيبتهم النفسية، وتدريجيًا يندمج فى وجدانهم الفكر السلفى والمعتقدات الوهابية وتتعمق فى نفوسهم، ثم يعودون إلى مصر ممارسين نفس حياتهم التى تعودوا عليها فى المملكة لسنوات وسنوات، ملايين وملايين من المصريين الذين تحوّل بعضهم إلى دعاة للفكر السلفى، بل إن بعض الإحصائيات أوضحت أن السعودية كانت مَثلهم الأعلى كدولة.

مصر- بلد التنوير والثقافة والفنون، مصر التى قادت معارك حرية المرأة ومشاركتها الإيجابية فى الحياة منذ عام 1919، أى قبل إعلان تحوُّل الجزيرة العربية ومملكة الحجاز إلى مملكة سعودية بعد توحيد مناطقها المختلفة عام 1932، مصر، ذات السبعة آلاف سنة من الحضارة- تأثرت سلبيًا ووجدانيًا بالفكر الوهابى بشكل حاد، وبعودة الملايين الذين تشرّبوا هذا الفكر وظهور جماعة الإخوان المسلمين السياسية الساعية للحكم الدينى للبلاد، والذين نجحوا تقريبًا فى الوصول إلى حكم مصر لولا چينات حضارية فى الشعب المصرى.

قال الشاب: ماذا تقصد بالوهابية والسلفية، ومَن أخطر على البلاد هم أم الإخوان.. لقد وجدناهم يتعاونون فى لحظة حرجة من تاريخ البلاد سويًا، وكنا لا نسمع عن نشاطهم كثيرًا قبل 2011؟

قلت: السلفية الوهابية أو الوهابية أو السلفية التوحيدية مصطلح أُطلق على حركة إسلامية سُنية قامت فى منطقة نجد وسط شبه الجزيرة العربية فى أواخر القرن الثامن عشر الميلادى، على يد محمد بن عبدالوهاب «1703- 1792».

قال: وما أفكار وأدبيات الدعوة الوهابية؟

قلت: عندما انطلق الشيخ محمد بن عبدالوهاب بدعوته كان ذلك لنشر الدعوة السلفية، وأيضًا لتنقية عقائد المسلمين والتخلص من العادات والممارسات التعبدية التى يرونها مخالفة لجوهر الإسلام التوحيدى، ومن هذه الأهداف:

■ الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر.

■ إنكار الشرك والدعوة إلى التوحيد الخالص بمحاربة التوسل والتبرك بالرسل والأنبياء والأولياء والصالحين أحياء وأمواتًا.

■ إنكار ومطالبة الحكام بهدم الأضرحة والقباب التى على قبور الأولياء ومساواتها بالأرض وعدم تمييزها عن أى قبر آخر.

■ إنكار البدع والخرافات كالبناء على القبور واتخاذها مساجد، والموالد، وهذا ما جعلهم يدخلون فى مصادمات مباشرة مع الصوفيين.

■ إثبات أسماء الله الحسنى وصفاته العليا من غير تأويل ولا تحريف ولا تشبيه ولا تكييف ولا تمثيل من المسائل الرئيسية فى عقيدتهم.

■ عدم السماح بالتفكير فى تطوير ما كان قائمًا أيام المسلمين الأوائل.

■ عدم مخالفة الحاكم، وهو ناتج اتفاق تعاون محمد بن عبدالوهاب مع أمير نجدى، اسمه محمد بن سعود- مؤسِّس الدولة السعودية الأولى- على شبه حلف دينى سياسى، فبايع محمد بن عبدالوهاب الأمير محمد بن سعود على السمع والطاعة، وكان هذا سببًا أساسيًا لنجاح الحركة، فقد وجدت رعاية سياسية وحماية عسكرية، وبايعه الأمير محمد على نشر دعوته إذا استَتَبَّ الأمر له، واشترط محمد بن سعود فى مبايعته للشيخ ألّا يتعرض له فيما يأخذه من أهل البلاد، فالسلفية يتعاونون مع الحكام تاريخيًا، بشرط تَرْكهم لدعوتهم التى تنادى بالعودة إلى السلف الصالح من وجهة نظرهم.

قالت الشابة: وما علاقة ما يحدث فى السعودية بنا يا دكتور؟

قلت: سأحكى لكم قصة حدثت بينى وبين الأستاذ محمود السعدنى، الكاتب الساخر، رحمة الله عليه، منذ سنوات عديدة، وكنا صديقين رغم فارق السن، وكنت أواجهه فى إطار يساريته الفكرية، وأقول له إن الدنيا تتغير يا أستاذ محمود حولنا، وها هى النظرية الاشتراكية تسقط.. فقال لى جملة عبقرية عما يحدث فى مصر وقتها من تدخل الدولة فى الاقتصاد والدعوة إلى بقاء القطاع العام، قال لى يا دكتور: مصنع اليسارية قفل فى روسيا والوكيل شغّال فى مصر.

وقد جاءت القصة فى ذهنى عندما سألتنى عن تأثير ما يحدث فى السعودية على مصر لأن خوفى أن مصنع السلفية سيغلق أبوابه فى المملكة، والوكيل سيستمر «شغال» فى مصر.

ما أراه حولنا يؤكد عدم القدرة على خلق خطاب دينى جديد، والاستمرار السياسى للسلفيين رغم أن مبدأهم كان عدم التورط فى العمل السياسى والسمع والطاعة للحاكم. إننا لا نستطيع تغيير قوانين تسمح بقمع التفكير فى التجديد، والاتهام بازدراء الأديان عند الاختلاف فى الرأى، والتكفير لمَن تسول له نفسه استخدام عقله، والخروج من دائرة الماضى انتقالًا إلى المستقبل..

أخشى ما أخشاه هو استمرار تحويل الهوية المصرية متعددة الأفرع، عميقة الأثر، تاريخية الأصل، إلى هوية أحادية الفكر لا ترى سوى ماضٍ لا ننتمى إليه ولا ينتمى إلينا. أخشى ما أخشاه يا أولادى هو تكرار مقولة محمود السعدنى فى موضع آخر: «المصنع قفل هناك والوكيل شغّال فى مصر».

التعليقات

التعليقات