المعلم أساس تطوير التعليم
حسام بدراوي
كنتُ فى لقاء توقيع بروتوكول تعاون بين وزارة التربية والتعليم ومؤسسة «التعليم أولًا»، التى أتشرف بقيادة لجنتها الاستشارية، والمعنية بتدريب مديرى المدارس الحكومية للغات ومدرسى اللغات والعلوم والرياضيات، وعددها ألف مدرسة، وتقوم هذه المؤسسة المدنية غير الهادفة للربح بهذا العمل على أفضل مستوى من التدريب فى إطار برامج معتمدة دوليًا، ودربت أكثر من عشرين ألف مدرس ومدير مدرسة فى السنوات السبع الماضية.
دار حوار بينى وبين قيادات الوزارة حول «إعلان الوزارة عن احتياجها تعيين مدرسين بالحصة نتيجة النقص الشديد فيهم»، وهو الإعلان الذى استفز عددا كبيرا من خبراء التعليم، لما يعنيه من مظهر استهانة بالمهنة وعدم تقدير لقيمتها، بغض النظر عن العائد المالى المتدنى المهين الذى يعرض عليهم.
والدهشة تزداد عندما نعلم أن قانون العرض والطلب قد ثبتت عبر التاريخ حكمته فى كل الخدمات والصناعات إلا فى التعليم فى مصر. هناك قرار بعدم تعيين خريجى كليات التربية فى المدارس، وهو الأمر الذى عجزت مرارًا عن تفهمه فى إطار الاحتياج الشديد لهم والوفرة المتاحة منهم بلا عمل.
تُعَدّ كليات التربية هى الكليات الجامعية التى تُعِدُّ المعلم إعدادًا تخصصيًا وتربويًا لتعليم المواد الدراسية وقيادة الأنشطة المدرسية المتضمنة فى المناهج الدراسية والمعتمدة فى جميع المراحل التعليمية قبل الجامعية، وتشمل:
■ كليات التربية العامة.. وتتواجد فى كل الجامعات وكل المحافظات، وهى تُعِدّ معلم المواد العلمية والأدبية والتربية الدينية، إضافة لمعلمى التربية الخاصة.
■ كليات التربية النوعية.. وتُعِد معلمين للمواد الفنية والموسيقية والتكنولوجية، وبعضهم يعدون إخصائيين فى الإعلام التربوى.
■ كليات التربية الرياضية وكليات التربية الفنية.
■ كليات إعداد معلم التعليم الصناعى.
■ كليات رياض أطفال.. وتعِد معلمين وميسرين للحضانات ورياض الأطفال.
هذا بالإضافة إلى بعض أقسام الكليات الأخرى، البالغ عددها 70 كلية، والتى تعد معلمين للتعليم التجارى، وإخصائيين اجتماعيين ومعلمى اقتصاد منزلى وتربية بيئية.
وتمنح هذه الكليات درجات البكالوريوس والليسانس، بالإضافة إلى درجات الدراسات العليا، مثل الدبلومات ودرجات الماجستير والدكتوراة.. إلا أن كليات التربية تواجه أزمة وجودية فى مصر تتعدى اقتراحات تطويرها.. فلا يكفى تطوير مقررات أكاديمية وتربوية مُوصَّفَة وهادفة لإعداد المعلم، ونمذجة مقترحة للبنية التحتية من حيث الأقسام والشعب، وبرامج لتنمية القدرات المهنية لأعضاء هيئات التدريس، والتغلب على تحديات عدم التنسيق بين أساتذة المواد التخصصية والمواد التربوية فى ضوء وحدة هدف إعداد المعلم الكفء القادر على تحقيق المعايير القومية للتعليم، وضعف التواصل بين الطلاب والأساتذة، وعدم الالتزام بالساعات المكتبية وغياب الإرشاد الأكاديمى، وهو ما يعانى منه التعليم العالى عمومًا.. لا يكفى مواجهة تلك التحديات، لأن هذه الكليات تواجه أزمة وجود وليس أزمة تطوير.
إننى أرى عبر السنين عداءً صامتًا بين وزارة التربية والتعليم وكليات التربية، التى تسمى فى كثير من دول العالم «كليات التعليم»، فأصبح المسار الطبيعى لخريجى هذه الكليات مغلقًا فى مدارس الدولة رغم الاحتياج إليهم.. أى أن المصنع ينتج والسوق تحتاج، والدولة لا تسمح بسد الاحتياج.
■ ■ ■
ولقد لاحظت منذ كنت رئيسًا للجنة التعليم فى البرلمان منذ خمسة عشر عامًا ضَعف التنسيق المؤسسى بين كليات التربية ووزارة ومديريات التربية والتعليم فى المحافظات كافة، وقلة فاعلية التربية العملية (التدريب الميدانى فى المدارس)؛ بسبب ازدحام المدارس وغياب التلاميذ فى آنٍ واحد، وعدم تقبّل مسؤوليها تدريب الطلاب المعلمين، وضعف الإشراف الجاد فى التدريب.. يزيد على ذلك ضآلة المساحة المعطاة لأساليب تدريس متطورة مرتبطة بالوسائط المتعددة والتعليم الإلكترونى والتعليم عن بعد، وغلبة أساليب التدريس التقليدية فى معظم المقررات، وما يصاحبها من مذكرات متواضعة وطرق تقويم تعتمد على امتحانات نمطية «مضمونًا وإدارةً».
ومرة أخرى، فإن عدم التقيد بتعيين خريجى كليات التربية فى المدارس أمر عجزتُ مرارا عن تفهمه فى إطار الاحتياج والوفرة اللذين يتلازمان فى منظومة تنتهى بالمحنة التى يعانى منها التعليم.. وفى ظل تعيين المدرسين بالحصة بشكل يهين العملية التعليمية كلها ومهنة التدريس خاصة.
سياسات تطوير كليات التربية لإعداد المعلم
إن الأوزان النسبية للمكونات الأكاديمية والتربوية والثقافية لبرامج إعداد المعلم تتحدد فى ضوء المهام المنوط بالمعلم القيام بها فى المرحلة التى يعد للتدريس فيها، وفى ضوء مبادئ المرونة والتنوع واللامركزية التى ننادى بها وتنتهجها رؤية مصر فى التعليم، وأؤكد أهميتها فى التعليم العالى، لذلك فإن كليات التربية ينبغى أن تتنافس نوعيًا فى ضوء فلسفة الجامعة التى تتبعها وتنظيماتها الهيكلية واحتياجات الإقليم الذى تعمل فيه.
وتندرج السياسات الخاصة بتطوير كليات التربية ضمن إطار سياسات تطوير التعليم العالى بوجه عام.. إلا أنه لخصوصية وأهمية هذه الكليات، فإننى أطرح مجموعة من السياسات المحددة لتطويرها، وتشمل:
أولًا: وضع رسالة محددة وواضحة وأهداف استراتيجية لكل كلية بما يتوافق مع خصوصيتها، وفى ضوء طبيعة واحتياجات المجتمع الذى تخدمه.
ثانيًا: تطويع برامج وممارسات العمل بكليات التربية بحسب نظام الساعات المعتمدة، بما يعمل على توحيد النظامين التكاملى والتتابعى، مع فتح المسارات بين كليات التربية والكليات الأخرى، وإمكانية تدوير بعض الساعات المكتسبة بين المجالات الدراسية الجامعية المناسبة لمن يرغب من خريجى تلك الكليات فى ممارسة مهنة التعليم. وهو الأمر الذى يستوجب تطويرًا لبعض الكليات المكملة لبرامج التدريس بها، مثل العلوم والآداب والألسن.. وغيرها.
وأدرك أن الاتجاه نحو التدريس من خلال نظام الساعات المعتمدة قد تغلب مع الوقت على مقاومة من إدارات الجامعة وأعضاء هيئات التدريس.. إن ما يتعلمه الطالب فى الجامعات والمعاهد يجب أن يكون مرئيًا ومقروءًا بوحدات أكاديمية متعارف عليها عالميا، حتى يمكن لهذا الطالب الحركة العرضية والرأسية دون أن يضيع جهده وتراكم تعليمه.
ثالثًا: تطوير نظم القبول فى كليات التربية، من خلال وضع وتطبيق اختبارات قبول موضوعية لاختيار الطلاب، على غرار اختبارات القدرات الخاصة. وأنا أعلم أن موضوع الاختبارات لدخول الكليات الجامعية يلقى أيضا مقاومة مجتمعية، إلا أن مهنة التدريس، من وجهة نظرى، مهنة ذات طابع خاص.. إننا نترك أبناءنا وبناتنا ست عشرة سنة متصلة ما بين المدرسة والجامعة فى إطارٍ خلقناه نحن، وبمناهج اخترناها نحن، فى فصول مغلقة مع معلمين أعددناهم نحن.. وسيظل تأثيرهم على الأطفال والشباب راسخا فى وجدانهم.. فكيف لا تقوم الدولة بشكل مؤسسى بإجراء الاختبارات النفسية والأكاديمية اللازمة ليكون لأكثر من عشرين مليون طفل وشاب… أفضل مدرس وأعظم معلم؟.. كيف لا توضع الشروط وتُفتح الأعين على هذه الاختبارات؟!.
هذا من جانب، أما الجانب الآخر فهو: كيف نحفِّز الشباب على اختيار هذا الطريق؟.. كيف نحفز طالبى العلم والمعرفة للدخول فى مهنة التدريس؟.
إن مسؤولية الدولة أن تجعل هذه المهنة جذابة، وتجعل لها بالإضافة إلى عائدها المادى المناسب المحفز عائدا اجتماعيا يبنى الاحتياج إليها ويسوق تقييمها… من ذا الذى سيعى ويجاهد ليصبح معلمًا فى ظروف التعليم الحالية؟!.. إنه فى الأغلب هذا الذى لم يستطع الحصول على فرصة أخرى.. وعلى المجتمع وقيادته العمل لأن تكون مهنة المعلم اختيارًا إيجابيًا للشباب، يسعون إليه وهم يعلمون أنه فى إطار الشرعية واحترام القانون، يستطيعون أن يحصلوا على العائد الكريم لحياة كريمة دون دروس خصوصية، وبغير الحصول على الميزة اعتمادًا على فساد العملية التعليمية، الذى جعل هذه الدروس خارج نطاق المؤسسة التعليمية أساسا يعتمد عليه التلميذ وولى الأمر.. والمعلمون.
إن كل نقطة من هذه السياسات تحتاج إلى برنامج عمل.. لكن للأسف، إننى أرى توجه الدولة واضحا فى تقليص دور كليات التربية فى الوقت الحاضر، وعدم قبول طلاب جدد فيها، وتجنب تعيين خريجيها بحجة تدنى المستويات التعليمية بها.. كذلك فإن تمكُّن بعض التوجهات الأيديولوجية المتعصبة دينيا من بعض هذه الكليات فى زمن ما، جعل الحكومة ترفع يدها عنها بدلا من إصلاحها، وتبتعد عن تطويرها بدلا من مواجهة أزمة تستحق المواجهة، ليس فقط على مستوى كليات التربية، ولكن على مستوى المجتمع كله.
لا يمكن لأى أمة عظيمة، كمصر، أن تواجه تطوير التعليم دون المعلم الكفء القادر المنمى المتفتح المثقف، الذى يغرس قيم الحداثة والمعرفة، ويبنى الشخصية، ويؤكد الهوية المصرية.. فالدعوة هنا للأخذ بالمسؤولية ومواجهة التحدى لا الهروب منه.
.. والحكمة تقول: «لا يرتفع مستوى التعليم فى أى أمة فوق مستوى معلميها».