الخميس , 19 ديسمبر 2024
الرئيسية / بقلم د حسام بدراوي / بعد 25 يناير / الوعى والتصوف وفيزياء الكم..

الوعى والتصوف وفيزياء الكم..

الوعى والتصوف وفيزياء الكم..
حسام بدراوي
كنت أشرح لشباب الحالمين بالغد نشأة الجنين فى رحم الأم، وتَدَرُج الخلق من خليتين تلتقيان إلى مخلوق متعدد الخلايا، ثم إلى أعضاء وأجهزة داخل جسم الجنين بوظائف مختلفة.
وتَدرَج الحوار حول متى يصبح هذا الجنين إنسانا، ثم متى تدخله الروح، وأين فى كل ذلك النفس التى يتكلم عنها القرآن، وهى كما نفهم التى تحيا وتموت.
قلت لهم: قد يكون جسم الجنين وتريليونات الخلايا فيه، وحمضه النووى، وهى الماديات التى نراقب تواجدها، وفهمنا فيها ومنها الكثير شىء، والروح والنفس شىء آخر مازلنا فى أول درجات فهمها.
«ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربى».
«لا يكلف الله نفسًا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت»
«كل نفس ذائقة الموت»
قال الشاب الذكى: وما علاقة ذلك بالوعى يا دكتور؟ متى يعى الجنين والطفل؟
قلت: يعتبر الوعى حالة عقليّة يتم من خلالها إدراك الواقع والحقائق التى تجرى من حولنا، وذلك عن طريق اتصال الإنسان مع المحيط الذى يعيش فيه واحتكاكه به. إن الوعى ينضج تدريجيا بإدراك كل ما حول الإنسان من موجودات من خلال منافذ الوعى التى تتمثل فى حواسه التى تنقل إلى ذهنه ذلك، فيُترجمها ويُركبها ويُدرك.
وكلما ازداد المحصول الفكرى الذى ينضوى عليه عقل الإنسان، بالإضافة إلى وجهات النظر المختلفة التى يحتوى عليها هذا العقل والتى تتعلّق بالمفاهيم المختلفة التى تتمحور حول القضايا الحياتيّة والمعيشيّة، زاد وعيه وإدراكه بنفسه فى إطار الموجودات والأحداث حوله.
إذن الجنين والطفل ساعة الولادة وما بعدها ليس واعيا بهذا المفهوم..
قال: وهل كل المخلوقات الأخرى واعية؟
قلت: يمثل الوعى حالة يتميز بها الإنسان عن غيره من المخلوقات. والوعى بأمر ما يتضمن معرفته وما يحيط به والعمل على أساسه.
وقد يكون الوعى وعيًا زائفًا، وذلك عندما تكون أفكار الإنسان ووجهات نظره ومفاهيمه غير متطابقة مع الواقع من حوله.
وقد يكون جزئيًا، وذلك عندما تكون الأفكار والمفاهيم مقصورة على جانب أو ناحية معينة وغير شاملة كل النواحى والجوانب والمستويات المترابطة التى تؤثر وتتأثر فى بعضها البعض فى عملية تطور الحياة.
وهناك أيضا الوعى الجمعى، الذى قد يسيطر على ذاتية الفرد ويجعله جزءًا من تكوين فكرى لا يستطيع الفكاك منه، مثل التدين بدين معين أو الانتماء لمجموعة أيديولوچية، بل قد يرفض مناقشة ذاته المستقلة طالما هو فى إطار الوعى الجمعى، الذى يزداد تأثيره بزيادة أعداد هذا الجمع وتأصل وتكرار تعليماته ومناسكه…
ويقول الفيلسوف الألمانى هيجل إن الإنسان هو الموجود الوحيد الذى يعى باعتباره موجودا لذاته. أما المخلوقات الأخرى فإنها لا توجد إلا بكيفية واحدة، ولا يوجد لديها تراكم معرفة ولا نقل خبرات يجعل وعيها شاملًا موجودات أخرى وأزمنة مختلفة وخبرات متراكمة.. فالإنسان يعمل دائما على تغيير الأشياء خارجه، لأنه يريد أن يرى ذاته مؤثرة فى صنع ما حوله.
ويرى الفيلسوف الفرنسى ديكارت أن الشك هو الذى يجعلنا نحيط بذواتنا. هكذا شك ديكارت فى كل شىء بما فى ذلك وجوده. وتأكد له بوضوح فقط أنه لا يستطيع أن يشك فى أنه يفكر، حيث إن التفكير هو الخاصية الوحيدة التى لازمت الذات منذ البداية. فانطلاقا من التفكير يمكن أن ندرك بصفة حدسية وجود الذات؛ هكذا استطاع ديكارت أن يقول: «أنا أفكر.. إذن أنا موجود». فالذات والتفكير متلازمان، فحينما تتوقف الذات عن التفكير تنقطع عن الوجود.
قالت شابة: سمعناك تقول إن دراستك فى الطب ثم قراءتك فى الفلسفة والعلوم، وخاصة الفيزياء، ارتقت بإدراكك الله والكون، بل أيضا فهمك للتصوف.
وقال زميلها: هل معنى ذلك أن العلم والعقل طريق للوصول إلى الله؟
قلت: دعونا أولًا نُعرّف الكلمات ثم نناقش الموضوع.
يُفرق معظم الصوفية بين المعرفة والعلم، فالمعرفة تتطلب اتصالًا مباشرًا، وهذا يعنى أن معرفة الله هى معرفة مباشرة. العارف هو الإنسان والمعروف هو الله، وهذه المعرفة تكون مباشرة دون وساطة إلا ذات المعروف نفسه وهو الله. أما لفظة العلم عندهم فلا يصح أن تكون مرادفة للفظ المعرفة، لأن العلم إنما يقوم على الحس أولًا، ثم يقوم على العقل ثانيًا، فالمنهج فى العلم حسى تجريبى عقلى، والتصوف لا يعول على الحس ولا يركن إلى العقل، إنما الصوفية أرباب أحوال وأصحاب أذواق وأحاسيس من قبيل الوجدانيات التى لا تُعرف بعقل أو شىء من قبيل العقل إنما هى معرفة بالقلب، وهى لا تُستمد من تجربة ولا كتاب، وإنما معرفة عن تجربة باطنية، ومعرفة القلب الذى يعرف ويشاهد، لأنه هو الذى تذوق وهو الذى تحقق.
كذلك تتوافق معهم بعض الديانات الروحانية فى الشرق، التى تتكلم عن إمكانية ذوبان الذات الإنسانية فى ذات الله واندماجها بكل الكون.. ويقولون إن ذلك لا يمكن إثباته بالعلم، ولكن برقى النفس وارتقائها إلى درجات فوق إنسانية.
والحقيقة، بعد حدوث ثورة التعرف على فيزياء الكم، أستطيع أن أقول إن المبدأ الذى قامت عليه الصوفية، وهو أن معرفة الخالق وجدانية فقط وليس لها طريق علمى، أصبح مبدأ مشكوكًا فيه.
قالت الشابة: ماذا تعنى، وما هى فيزياء الكم أو ميكانيكا الكم التى تتكلم عنها؟
قلت: ميكانيكا الكم تبحث فى عالم الظواهر فائقة الصغر وفائقة السرعة، وهى مجموعة من النظريات الفيزيائية تفسر الظواهر على مستوى الذرة والجسيمات دون الذرية، وقد دمجت بين الخاصية «الجسيمية» والخاصية «الموجية» ليظهر مصطلح «ازدواجية الموجة – الجسيم».
العلم والفيزياء الكلاسيكية لهما دلائل معلومة هَدَمها اكتشاف فيزياء الكوانتم. كل مصادر الاستدلال العقلية ومبدأ السببية، أى أن لكل حَدث مُحدثًا، وعدم التناقض فى العلم تسقطه دراسة فيزياء الكم وتلغى كل المبادئ التى أقرها العلم.
إن المضمون الفكرى لما يحدث على مستوى الإلكترون البروتون والكواركات يتحدى المألوف ويثير القلق فى الأذهان.
ثبت أن كل جسيم داخل الذرة هو جسيم وموجة فى نفس الوقت مما عُرف بـ«ازدواج الوجود»، وأن هناك ما يسمى «التشابك الكمى» الذى يجعل جسيمات على بعد سنوات ضوئية تتواصل، مما يجعل نظرية أينشتاين أنه لا سرعة تفوق سرعة الضوء مشكوكا فيها.
كذلك تثبت نظرية الفيزياء الكمية إمكانية تغيير الماضى بأحداث تحدث فى المستقبل، وتفتح الباب بالإثبات العلمى والتجربة العلمية لإمكانية الوجود الاحتمالى، أى أن كل الاحتمالات ممكنة فى نفس اللحظة ونفس المكان للجسيمات مزدوجة الوجود (كجسيم وكموجة).
وبما أننا عرفنا الآن أن اللبنة الأساسية لتركيب المادة هى الكوراكات وهى جسيمات متناهية الصغر، مزدوجة الوجود أيضا، تتذبذب طول الوقت، أى أن الكون بكل مكوناته هو طاقة خالصة.. فإن هناك احتمالات شبه مؤكدة بوجود أكوان موازية لكوننا حسب احتمالات تغير الأحداث.
وبما أن كل مكونات الكون واحدة، شاملة الإنسان، فإننا جزء من الكل، واندماج الوجود الذاتى بباقى المخلوقات حقيقة حتى لو لم نكن ندركها.
أليس هذا قلب فكرة الذوبان فى الله والتواصل مع الخالق..
الكل يشترك فى الأصل.. وما الإنسان إلا جرم صغير، وفيه ينطوى العالم الأكبر.
الإنسان هو الكتاب الجامع لكل موجودات الخلق، ففيه الجسد والروح، المادة والطاقة، الحياة والموت، الديمومة والزمان.. كله فى وقت واحد.
الإنسان يجمع كل التناقضات سويا، هو المعجزة الكونية الكبرى.
إن نظريات الفيزياء الكمية وما تعنيه، رغم أنها لا تزال قاصرة عن تفسير الوعى والروح والنفس، لكنها تعنى أن العلم قادمٌ قادمٌ ليفتح آفاقًا جديدة للمعرفة، ولا يجعل الإنسان أكثر غرورًا بنفسه،ولكن يدفعه ليكون أكثر تواضعًا.
لمعرفة أكثر حول الموضوع:
الإلكترون الواعى والمدرك أنه مراقب
المستقبل يغير الماضى
التواصل الشبحى
التشابك الكمى

التعليقات

التعليقات