الأحد , 22 ديسمبر 2024
الرئيسية / بقلم د حسام بدراوي / بعد 25 يناير / بين التنوير والازدراء بقلم د بدراوي

بين التنوير والازدراء بقلم د بدراوي

بين التنوير والازدراء
تغيرت عبر العصور مساحة المعرفة، وتعمقت العلوم وتوسعت، فأصبح الطفل الصغير يعرف أكثر مما كان يعرف الرجل الناضج منذ مئات السنين.. وأصبحت لهذا الطفل مداخل واستخدامات للعقل الإنسانى أكثر من آبائه وأجداده. أصبحت الدنيا غير الدنيا، ومازلنا- للأسف- فى خضم معارك كانت منطقية فى القرون الماضية، وبالقطع ليس مكانها القرن الواحد والعشرين.
تقول خبرتى إن الكثيرين يتعاركون دون تعريفٍ لمعانى كلمات يختلفون حولها، ولو اتفقوا على التعريف لما كان هناك سبب للمعارك.
«الازدراء» واحدٌ من هذه المصطلحات، لذلك بحثت عن معنى الكلمة قبل الحوار مع بعض شباب جمعية «الحالمون بالغد» حول هذا الموضوع.
«الازدراء» فى المعجم هو مصطلح احتقارى، إهانة، مصطلح امتهان، هو كلمة أو صيغة نحوية تعبر عن دلالة سلبية أو رأى مُحِط من قدر شخص أو شىء، وتدل على عدم احترام لشخص أو شىء.
«التنوير» واحدة من هذه الكلمات أيضًا، وكنا قد تناقشنا فيها من قبل.
قال الشاب المثقف: ماذا تقصد بالتنوير؟ وما علاقته بالجمهورية الجديدة والإصلاح والنهضة؟ ولماذا يُحارَب كل من يقول رأيًا مخالفًا عما يعتقده بشر مثله، بل يُتهم ويُسجن فى دولة يقول دستورها إنها دولة مدنية حديثة؟.
قلت: «التنوير» هو مصطلح يعبر عن حركة فكرية وثقافية وفلسفية تدافع عن العقلانية والمنطق. ولولا التنوير، ما كانت هناك نهضة إنسانية، ولظل البشر فى سجن أفكار ومعتقدات الأجداد.
إن مصر المستقبل هى وطن مدنى حديث، وليست خلافة دينية بمنطق عفَّى عليه الزمان. ولعل المعركة بين التجديد واستخدام العقل والمنطق وتجنب تفسيرات قالها أقدمون بما أتاحه لهم العلم فى زمنهم، ما زالت تهدد سلطة المؤسسات الدينية وبعض شيوخ السلفية والوهابية التى غزت مصر، وما زالت تدفع بالبلاد بعيدًا عن النهضة الإنسانية وعن الدولة المدنية الحديثة.
يشتمل التنوير على مجموعة من الأفكار، تتلخص فى: سيادة العقل باعتباره مصدرًا أساسيًا للمعرفة، المُثل العليا كالحرية والتسامح والإخاء، الحكم الدستورى وفصل مؤسسات الدين عن الإدارة السياسية للدولة، التسامح، واتباع المنهج العلمى فى التفكير.
والمنهج العلمى يبدأ بالحق فى التشكيك فى العقائد المتوارثة بلا مرجعية أصيلة، وهو الموقف الذى سلط عليه الضوء الفيلسوف (إيمانويل كانط) فى مقالته الرائعة «تجرأ على المعرفة»، قائلا إن حماية الإنسان وتعليمه يكمنان فى أن يصبح ناضجًا وقادرًا على الاعتماد على نفسه، وأن يستخدم عقله للتحرر من المعتقدات الموروثة أو تلك المستوحاة من العادات، وهذه هى وسيلته الوحيدة للحداثة والترقى.
قالت شابة: ولماذا هذه المعركة بين دعاة التنوير والتحديث ومن يدّعون حقهم فى حماية الدين الإسلامى بالذات؟
قلت: يجب ألا يكون هناك اختلاف.. فالمسألة كانت فى عصور لم تكن المعرفة فيها متاحة كما هى اليوم.
قال الشاب: وماذا كان أثر العداء بين الكهنة ورجال الكنيسة فى عصور الظلام فى أوروبا، وأفكار التنوير التى تبدو لنا عادية اليوم، لعلنا نتعلم من التجربة؟
قلت: لقد أفسد كهنة الدين المسيحى بموقفهم هذا حركة التاريخ فى زمانهم، فلا هم انتصروا لدينهم، ولا حققوا النصر على عدوهم، بل كانوا بموقفهم هذا بمثابة الباب الطبيعى الذى فُتح على مصراعيه لدعاة الإلحاد والثورة على الكنيسة والدين معا؛ حيث صوروا الموقف على أنه صراع بين الدين والعلم، وليس بين رجال الكنيسة والعلماء؛ بين العقل والخرافة، بين النور والظلام، بين التقدم والتخلف؛ وكان مفهوم التنوير يعنى التحصن بمنطق العلم والعقلانية ضد هذا الدين ورجاله الذين يمثلون الجهل والخرافة؛ فكان لابد أن ينتصر العلم فى مواجهة الجهل، وينتصر العقل فى مواجهة الخرافة، والتقدم فى مواجهة التخلف.
قال الشاب الذكى: ولكن لماذا ينتقل إلينا شبه ذلك الآن؟!
قلت: للأسف، انتقلت المعركة بكل ملابساتها وظروفها إلى عالمنا، خصوصًا فى مصر، دون أن يفطن مدّعى حماية الدين إلى أن الإسلام ليس له كهنة؛ وأن المؤسسات الدينية لا تتحكم ولا تحكم، ويجب ألا نكرر شكل محاكم التفتيش فى العصور المظلمة فى أوروبا بشكل جديد تحت اسم «ازدراء الأديان فى القرن الواحد والعشرين»، ولو أنصف الجميع أنفسهم لجعلوا العلم والمعرفة وانفتاح العقل دينًا وفريضة؛ فلا الزمن هو الزمن، ولا نطاق المعرفة هو ما كان.
قالت الشابة المثقفة: كيف يحاكم من يرفض آراء ونصوصا لم ترد فى القرآن الكريم ووردت فى نصوص تراثية إنسانية؟
قلت: مثل ماذا؟
قالت: الكثير، ومنه عدم مسؤولية الزوج عن زوجته المريضة، وحكم مضاجعة الزوجة الميتة، وجواز نكاح الصغيرة فى المهد ومفاخذتها، والسماح بأكل الأسرى إذا لم يتوفر الغذاء للجيوش، وإرضاع الكبير، وسبى النساء عند الفوز فى معركة حربية، أو مَن يؤكد أن الحمل عند المرأة يصل إلى خمس سنوات، وأن الشمس عند الغروب تنزوى تحت عرش الرحمن، وكأن الأرض ليست كروية، وأن الغروب هنا ليس شروقًا هناك، أو أن لله يدا كأيدى البشر.. وغيرها من الآراء التى لا يقبلها عقلى يا دكتور.
وما الذى فى رفض ذلك يهين الدين الإسلامى بالله عليك ويضعنى تحت طائلة قانون الازدراء؟.
قلت: إننى أستمع إليكم، فقولوا ما تشاءون.. هذا حقكم وهذا منهجى.
قالت الفتاة المثقفة: وماذا فى الاختلاف فى الرأى الذى يستدعى محكمة أمن الدولة، طوارئ؟.
قال ثالث: ولماذا تطبيق حالة الطوارئ أساسًا على صاحب رأى؟ أين الدولة المدنية الحديثة من كل ذلك؟
قلت: أذكركم أن قانون ازدراء الأديان كان مقصودا به منع الفتنة الطائفية بين المسلمين المتطرفين والمسيحيين، ولكن كل القضايا بعده كانت بين المسلمين وبعضهم.
ردَّ واحد من الشباب المتابعين للحوار قائلًا: ألا يعنى التطوير أحيانا التغيير؟!.. أنا لا أفهم يا دكتور رغبتنا فى تطوير الخطاب الدينى؛ والتى تنادى بها قيادة البلاد دون أن يشمل ذلك الفهم الدينى وتغيير مفاهيم استقرت فى العقول فأصبحت عائقا أمام التقدم.. أى أن الحوار الدينى لن يتطور إلا بفعل الخروج على الكثير من معتقدات يُظن أنها دينية، وهى مكتسبة من بشر مثلنا وليست من أصوله.
قلت: من منهج التفكير والملاحظة؛ فإنه حتى الصحابة الذين عايشوا الرسول عليه الصلاة والسلام، ومن أتوا بعدهم لم يتقيَّدوا حرفيًا بالكثير مما كان يحدث فى حياته، ولو كان الأمر على غير ذلك النَّحو لما جمعوا القرآن أصلًا، ولما رتَّبوه بهذا الترتيب، ولما دوَّنوه فى مصحف واحد، ولما وضعوا للسُّور أسماء ثابتة، ولما فرَّقوا بين السُّور بالبسملة، ولما أضافوا التَّنقيط والتَّنوين، ولما أقرُّوا التأريخ بالتقويم الهجرى، ولما نقلوا العاصمة من المدينة إلى دمشق ثم بغداد، ولما جمعوا أحاديث الرَّسول ودوَّنوها فى الصحاح، وقد قال الرَّسول بنفسه «لا تكتبوا عنى غير القرآن ومن كتب عنى غير القرآن فليمحه» (صحيح مسلم)..
أعتقد أن أكثر شىء يهدد الإسلام اليوم هو الخوف عليه من الحوار واستخدام العقل وكأنه دين يجب حمايته من المتخصصين فقط، وهو الذى يحميه الله عز وجل كما نفهم.
قال الشاب الحائر: يعنى نعمل إيه؟! نستمع ونطيع، فنُتهم بأننا كالقطيع، ويتم من خلال منهجية الطاعة تجنيد البعض منا وتحويلهم إلى غرباء عن المجتمع، بل إرهابيون.. أم نفكر ونُغير، فنُتَهم بأننا لسنا على علم كافٍ ولا معرفة تسمح لنا بالخوض فيما لا نعرفه؟!.
قلت: الدين مكانه الإنسان نفسه يا بنى، وعلاقته بربه الشخصية والروحية، وجماله فيما يعطيه لنا من سعادة ورضا نفس وقناعة ومحبة للآخرين وللحياة بكل أشكالها؛ أما فى تسيير حياة الناس فالقانون الوضعى هو الأساس، وهو مستمد من قيم لا يختلف عليها أى دين. أما فى حكم البلاد سياسيًا وفى المواطنة وحقوق المنتمين لأديان مختلفة من المواطنين؛ فالدستور هو الأساس، وليس من حق أحد فرض ديانته وقناعته على الآخرين.
وليس من حق أحد عقاب مواطن آخر لما يظنه خروجًا عن إيمانه وعقيدته، أو أن تقوم الدولة نفسها بذلك ضد رأى يختلف فى تفسير هنا أو هناك.
العقاب والثواب المدنى مكانه القضاء وليس دار الإفتاء.
أنا أدعو الجميع للوصول إلى قاعدة تمكننا من معايشة العقل والتفكير والإيمان معًا دون تناقض، وهو ما يجب أن نسعى إليه؛ سمَّينا ذلك تنويرًا أو إصلاحًا أو منهجًا علميًا أو تطويرًا؛ لا يهم.. المهم هو المعنى الذى نتفق عليه.

التعليقات

التعليقات