سألتنى واحدة من تلميذاتى:
هل الفن مفروض أن يرتقى بالناس أم يجعل فقط غير المعتاد معتادًا بتكراره؟ أليس الأفضل أن يتجنب ما لا يقبله عموم المجتمع وخلاص حتى لا يسىء إلى مشاعرهم؟!
هل أفلام العنف مثلًا أضافت شيئًا غير أنها جعلت العنف تصرفًا عاديًا؟
الواقع سيئ، فما هو دور الفن؟ هو ده السؤال..
قلت: الفن خيال ورؤية أوسع وأشمل من لقطة تصور اللحظة. الفن عليه أن يقوم بالاثنين، يسجل الواقع ويرسم المستقبل بخيره وشره واحتمالاته.
قصة أن وظيفة الفن أن يرتقى بالناس صحيحة جزئيًا، ولكنها تضعه فى قالب واحد، والارتقاء بالنفس يستلزم أن ترى السيئ والجميل، ويا حبذا إن كانت هناك رسالة ورسالة مخالفة. فى النهاية علينا أن نختار.
الاختيار هو فضيلة الإنسان.
دائمًا كنت أقول لتلاميذى: أنا تعلمت من المَهَرة من أساتذتى، وتعلمت من الجهلة أيضًا. كنت أساعد جراحين سيئين أحيانًا وأقول لنفسى: «لا يمكن أعمل زيهم»، وكأن السوء الذى أراه يعلمنى الجيد الذى أتمناه.
مرة أخرى، الفن ليس آلة تصوير عليها أن تصور لقطة، ولكن الفن عليه أن يرى الحياة كلها بظلالها المختلفة، ولا ينفى وجود ما لا نحب لأننا لا نريد الاعتراف بوجوده فى حياتنا.. الفن يعطى الحق والفرصة لكل متابع أن يُكَوِّن مفهومه.
الفكرة هى كيف نُعد المجتمع للقيام بدوره فى الاختيار؟
هنا يجىء دور التعليم والإعلام فى صنع نسيج قيمى محايد فى النفوس.
قال زميل لها: أليس الأفضل ألا نضع الشباب أمام اختيارات متعددة حتى لا يخطئوا؟
قلت: من لا يستطيع الاختيار غير مؤهل للحياة.. الذين لا يستطيعون الاختيار مكتوب عليهم التبعية والالتزام بمعتقدات من عاشوا قبلهم أو من يَركب على عقولهم، وهؤلاء هم جنود التخلف والإرهاب.
وأتذكر مقولة د. طه حسين فى كتابه العظيم «مستقبل الثقافة فى مصر»: «الأمية ليست هى أمية القراءة والكتابة فقط، بل القراءة والكتابة والفهم. من يقرأ ويكتب ولا يفهم هو مطية لمن يفهم.. وعبد لمن يختار له طريقة لأنه لا يستطيع الاختيار».
قالت الشابة الأولى: وما رأيك فيما يحدث فى السوشيال ميديا من هجوم على فيلم «أصحاب ولا أعز» وأبطاله، ومطالبة بعض السياسيين من أعضاء البرلمان المصرى بمنع منصة «نتفلكس» من مصر خوفًا على قيم المجتمع المصرى التى تهددها مثل هذه الأفلام؟
قلت: أعود مرة أخرى للاختيار.. منصة «نتفلكس» كغيرها منصة خاصة، ولا يستطيع رؤية ما تعرضه إلا من يسدد اشتراكًا ماليًا لها، فإذا كان هناك من لا يريدها لا يشترك فيها، ناهيكم عن أن السياسى الذى يطلب منع منصة تعتمد على الشبكة العالمية للإنترنت من مصر إما أنه جاهل بواقع عدم إمكانية ذلك أو يريد بطولة سياسية بترديد ما يعلم أنه مستحيل أو يركب موجة الغوغاء والدهماء.
وأعود إلى ما سألتِنى عنه حول الفيلم الذى توجد منه نسخ إنجليزية وإيطالية وفرنسية، فهو فيلم مُقْتَبس وقد أُحسِن اقتباسه، ولم أَرَ فيه ما يحرك هذه الحملة الشعواء فى مصر فقط دون كل دول العالم.
وأضفت: الجهلاء فقط هم الذين يُسقطون الحاجز بين الدراما والواقع، ويحاكمون الفنان على مهارته فى تقمص الشخصية التى يكتبها المؤلف.
فهل كان فريد شوقى مجرمًا كإنسان لأنه تقمص شخصية الشرير فى أفلامه؟ وهل نضع محمود المليجى فى دائرة قساة القلب ورؤساء العصابات؟ هل نحاكم بأثر رجعى فاتن حمامة على حبها لعمر الشريف وهى متزوجة من زكى رستم فى فيلم نهر الحب، أم نزيل أحمد مظهر من تاريخ السينما لأنه كان المهندس الذى أغرى الفتاة الصغيرة فى فيلم «دعاء الكروان».. أم علينا محو أفلام هند رستم لأنها ظهرت كفتاة ليل فى بعض أفلامها أو رقصت مع فريد الأطرش فى القطار فى فيلم «إنت حبيبى»، وننفى مصرية عبدالحليم حافظ لأنه غنى أغنيته الخالدة «يا قلبى خبى» وهو يشرب الخمر فى الكباريه؟
لو كان مجلسنا السياسى الموقر موجودًا أيامها لكان مشغولًا بقرارات مصيرية شبه يومية جريًا وراء الفن والفنانين، والمثقفين والتنويريين.
والأدهى وبنفس المنطق علينا إخراج الأستاذ العقاد من قبره لمحاكمته على كتابة قصيدة «ترجمة شيطان» وتخيل فيها حوارًا بين الله عز وجل والشيطان، والذى أعطاه عليها الدكتور طه حسين إمارة الشعر، وهو المتهم أيضًا بالكفر لكتابته كتاب الشعر الجاهلى الذى استخدم فيه منطق ديكارت فى الشك قبل التحقق.
الفن يا سادة لا يعبر عما فى رأى كل واحد فيكم من معتقدات، بل يطير بالأفكار والخيال عبر الزمن والأحداث.
قرأت للإمام الشيخ محمد عبده عام ١٩٠٣ عن الفن التشكيلى والتمثيل والموسيقى، يقول إن الرسم ضرب من الشعر الذى يُرى، أما إذا نظرت إلى الرسم وهو ذلك الشعر الساكت فإنك تجد الحقيقة بارزة لك، تُمتع بها نفسك كما يَتَلذذ بالنظر فيها حسك.
إن الفن يا أولادى جمال، والجمال سمة مميزة من سمات هذا الوجود، يتجلى فى كل مكان، وهو نوع من النظام والتناغم والانسجام، وهو ذو مظاهر وتجليات لا حصر لها، الدقة والرقة والتناسق والتوازن والترابط، ومظاهر أخرى كثيرة يشعر بها الوجدان، وإن لم يستطع التعبير عنها فى أغلب الأحيان. وهذا يمثل درجتين مختلفتين من القدرات لدى الإنسان: قدرة الإحساس، وقدرة التعبير. ولأن الإحساس بالجمال الخارجى والداخلى هو إدراك معرفى، فإنه يمكن تعلمه. أما القدرة الأخرى للإنسان، والتى تعبر عن الجمال وتظهره وتبينه، فهى القدرة التى يتمتع بها الفنان مصورًا كان أو ممثلًا أو أديبًا، أو غيرهم من أصحاب القدرات الفنية المختلفة. وحيث إن العلم والتجربة قد أثبتا أن هناك الكثير من المعارف والمهارات التى يمكن للإنسان تعلمها، خصوصًا فى السن الصغيرة، وتمكنه من زيادة قدراته فى التعبير عن الجمال، فإن كل إنسان فنان بدرجة من الدرجات، ويبقى التفرد فى الفن للمواهب الخاصة التى ينفرد فيها إنسان عن آخر.
إن النفس البشرية الذواقة للجمال هى النفس القادرة على الإبداع والابتكار ورؤية ما هو جميل والبناء عليه.
قال الشاب المثقف: وما علاقة كل ذلك بالسياسة يا دكتور؟
وأضاف زميله: هوه حضرتك بتشتغل إزاى فى السياسة وأنت فى جوهرك عالِم وفنان؟
قلت: مع احترامى للجميع، فإذا لم يتوافق العمق الثقافى مع السياسة، لكانت مصيبة.. مشكلتنا الحقيقية أن الكثير من السياسيين لا خيال عندهم. الفن والثقافة والسياسة بينها تلازم لو كان الناس يفقهون.. أما علم الطب فهو علم يفتح للإنسان منافذ غير مرئية لغير الدارس، ويُدخل الطبيب الى عوالم جديدة طوال الوقت، وفى الأغلب تنتهى به إلى الفن والفلسفة.
وأقتبس من زميل لى قوله: المثقف يقوم بوظيفة لم يكلفه بها أحد، ومع ذلك فإن التاريخ يخبرنا بضرورة ثنائية المثقف والسلطة.
وأى قرار سياسى وأى مجتمع يتخلى عن مثقفيه وفنانيه يُبْقى هذا المجتمع نزيلًا فى غرفة الإنعاش.
علّقَت صديقتى الفنانة العظيمة قائلة: السياسيون الذين لا خيال لهم يقودوننا للعناية المركزة، هذه جملة عبقرية.
قلت: يا عزيزتى، الخيال دخل ذهن الإنسان من ٣٠ ألف سنة فقط بتحور فى چينات مجموعة البشر الذين كانوا يعيشون فى شرق إفريقيا فتخيلوا وسافروا ما بعد البحار وما فى السماء، وكانوا قبل هذا التغير مجرد مجموعات تعيش سويًا من أجل الصيد والأكل والتزاوج.
الخيال هو أصل حضارة الإنسان، وكل ما يتخيله البشر قابل للحدوث وإلا ما كان.
ولعلك تلاحظين أننا نعيش فى أكثر مما تخيله آباؤنا وأجدادنا.
والسياسة بلا خيال تصبح مجرد عمليات ضرب وقسمة وطرح، ولكن الفن والخيال يجعل واحد + واحد مساويًا لأكثر من مجموعهما الرقمى (اثنين).
ورسالتى إلى من يريدون تحويل الفن إلى نسخة واحدة من عقولهم، وحصر الثقافة فى رؤيتهم، ويريدون استبعاد البدائل من أمام الشباب أن مصر أكبر منهم، وأعمق تاريخًا من مجرد مجتمع مسطح تقوده سلفية الفكر وغوغاء الصوت العالى.