تغيرت عبر العصور مساحة المعرفة، وتعمقت العلوم وتوسعت، فأصبح الطفل الصغير يعرف أكثر مما كان يعرف الرجل الناضج منذ مئات السنين.. وأصبح لهذا الطفل مداخل للتكنولوجيا واستخدامات للعقل الإنسانى أكثر من آبائه. أصبحت الدنيا غير الدنيا، ومازلنا للأسف فى خضم معارك كانت منطقية فى القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، وبالقطع ليس مكانها القرن الواحد والعشرين.. هل هناك تناقض بين استخدام العقل، واتساع الفكر وزيادة المعرفة، بين الإيمان بالله ورسله.. فى فهمى لا.. وجزء كبير من إيمانى نابع من استخدام عقلى، وبحثى فى المراجع، واستنباط المعانى بمرجعية معرفتى بالعلوم والفلك والطب وخبرتى فى الحياة واستماعى واستمتاعى بآراء الآخرين المختلفة عن آرائى، ما يحفزنى للبحث عن الحقيقة.. تقول خبرتى إن الكثيرين يتعاركون بدون تعريف لمعانى كلمات يختلفون حولها، ولو اتفقوا على التعريف لما كان هناك سبب للمعارك.. التنوير واحدة من هذه الكلمات، التى استنفرت تلاميذى فى «الحالمون بالغد» لسؤالى، فدار بيننا الحوار التالى، الذى يدل على سعة أفقهم، ورغبة الشباب فى المعرفة، وإيمانهم بالعلم طريقا ووسيلة لمعرفة الكون وخالقه:
قال الشاب المثقف: ماذا تقصد بكلمة التنوير يا دكتور؟ وما علاقتها بالإصلاح والنهضة؟
.. قلت: التنوير هو مصطلح يعبر عن حركة فكرية وثقافية وفلسفية ظهرت فى القرنين الثامن عشر والتاسع عشر فى أوروبا، تدافع عن العقلانية والمنطق، وتنادى بإحكام قوة العقل كوسيلة لتأسيس نظام شرعى للأخلاق والمعرفة. وقد هيمن المنطق على عالم الأفكار فى القارة الأوروبية خلال القرن الثامن عشر، وانبثقت من هذا حركة أوروبية فكرية علمية، معروفة باسم حركة النهضة الإنسانية. ويعتبر البعض كتاب الأصول الرياضية للفلسفة الطبيعية، والذى ألفه (نيوتن عام 1687)، أول الأعمال التنويرية الرئيسية. ولقد نشر الفلاسفة والعلماء فى تلك الفترة أفكارهم على نطاق واسع، من خلال إجراء اللقاءات العلمية فى الأكاديميات، والمحافل والصالونات الأدبية والمقاهى، ومن خلال الكتب المطبوعة والصحف والمنشورات. ولقد قوضت أفكار عصر التنوير السلطة الملكية الديكتاتورية وسلطة الكنيسة، ومهدت الطريق أمام الثورات السياسية فى القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، وينتسب العديد من مجموعات الحركات الفكرية فى القرن التاسع عشر، بما فى ذلك الليبرالية والحركة الكلاسيكية الحديثة بأصولها الفكرية، إلى عصر التنوير.
يشتمل التنوير على مجموعة من الأفكار التى تركز على: 1- سيادة العقل، باعتباره مصدراً أساسياً للمعرفة. 2- المثل العليا كالحرية والرقى والتسامح والإخاء. 3- الحكم الدستورى، وفصل مؤسسات الدين عن الإدارة السياسية للدولة. 4- الحرية الفردية. 5- التسامح الدينى. 6- اتباع المنهج العلمى. فضلا عن 7- التشكيك فى العقائد المتوارثة بلا مرجعية، وهو الموقف الذى سلط عليه الفيلسوف (إيمانويل كانط) الضوء، فى مقالته الرائعة «تجرأ على المعرفة»، قائلا إن حماية الإنسان وتعليمه يكمنان فى أن يصبح ناضجا، وقادرا على الاعتماد على نفسه، وأن يستخدم عقله للتحرر من المعتقدات الغريزية فى الحقائق المعطاة، سواء تلك الغرائز الفطرية التى تشكلت فى ميدان المعرفة، أو تلك المستوحاة من العادات، وهذه هى وسيلته الوحيدة للحداثة والترقى.
قال الشاب: وماذا فى استخدام العلم والعقل والمنطق من ضرر؟! وما القيود التى تعوق التنوير بهذا المعنى؟
قلت: القيود كثيرة، وأهمها راحة الإنسان لبقاء الأمر كما هو عليه، حيث إن التغيير يستلزم جهدا وتنازلات مشتركة وانتقالا من زمن إلى زمن جديد تتغير فيه المسؤوليات، وتتعدد فيه التوجهات، وطبيعة البشر أنهم أعداء ما جهلوا. يضاف إلى ذلك أنه إذا استتب الحكم لطائفة سياسية أو دينية، فلماذا يعرضون أنفسهم لهزات قد تسلبهم ملكا أو تحكما فى الشعوب؟ ولكن هذه مسؤوليتنا أمام المجتمع الذى نعيش فيه، وهى مهمة تربوية للتحرر من الجهل والظلاميةوطغيان النظم الديكتاتورية المطلقة إلى حرية ينظمها القانون، وعقل يتسع لقبول الاختلاف على تنوع مسمياته، بل احترامه.
إن الطبيعة قد وهبت كل إنسان قدرة غريزية على الفهم، مما يجعله مساويا للجميع ومع الآخرين، بشرط أن يتعلم ويتم تحريره من فساد الخرافات والجهل، والإنسان المتحرر يستخدم عقله بشكل صحيح وتلقائى، حيث القوانين يجب أن تكون غير مستبدة، وتستند إلى الحقوق الطبيعية. وقالت زميلته: وإيه اللى يزعل فى ذلك يا دكتور، ولماذا هذه المعركة بين دعاة التنوير ورجال الدين، ومن هم رواد أفكار التنوير فى هذا العصر؟
قلت: لا ضرر، ويجب ألا يكون هناك اختلاف.. فالمسألة كانت فى عصور لم تكن المعرفة فيها متاحة كما هى اليوم. لقد كان للثورة العلمية التى سبقت عصر التنوير تأثيرات كبيرة على فلاسفته ومفكريه، وقد حاول بعض الحكام الأوروبيين تطبيق أفكار التنوير على التسامح الدينى والسياسى، وهو ما أصبح يعرف فيما بعد باسم الحكم المطلق المستنير، ونسميه فى الثقافة العربية الديكتاتورية العادلة. وارتبط العديد من الشخصيات السياسية والفكرية الرئيسية فى الثورة الأمريكية نفسها بشكل وثيق مع هذه الحركة، وانعكس ذلك على صياغة دستور الولايات المتحدة الأمريكية.
قال الشاب: وماذا كان أثر العداء بين الكهنة ورجال الكنيسة وأفكار التنوير التى تبدو لنا عادية اليوم؟
قلت: لقد أفسدوا بموقفهم هذا حركة التاريخ المعاصر، فلا هم انتصروا لدينهم، ولا حققوا النصر على عدوهم، بل كانوا بموقفهم هذا بمثابة الباب الطبيعى الذى فتح على مصراعيه لدعاة الإلحاد والثورة على الكنيسة والدين معا، حيث صوروا الموقف على أنه صراع بين الدين والعلم، وليس بين رجال الكنيسة والعلماء، بين العقل والخرافة، بين النور والظلام، بين التقدم والتخلف، وكان مفهوم التنوير يعنى التحصن بمنطق العلم والعقلانية ضد هذا الدين ورجاله الذين يمثلون الجهل والخرافة، فكان لابد أن ينتصر العلم فى مواجهة الجهل، وينتصر العقل فى مواجهة الخرافة، والتقدم فى مواجهة التخلف.
وكان مصطلح التنوير هو المعبر عن نتيجة هذه المعركة، التى حسمها التاريخ والواقع لصالح العلم والعقل والنور، ضد الكنيسة وآرائها، ولقد تمت بلورة المعركة كلها على أنها صراع بين الدين بمعناه العام وبين كل معانى التنوير، التى هى العقلانية والتقدم.
قال الشاب الذكى: ولكن هذا يجب ألا ينتقل إلينا الآن!
قلت: للأسف، انتقلت المعركة بكل ملابساتها وظروفها إلى عالمنا العربى، دون أن يفطن رجال الدين الإسلامى إلى أن الإسلام ليس له كهنة، وأن المؤسسات الدينية لا تتحكم ولا تحكم. كما أن دعاة التنوير فى عالمنا العربى لم يفطنوا إلى أن الإسلام ليس هو الكنيسة، ولا عالمنا العربى هو أوروبا، ولا الحضارة الإسلامية هى الحضارة الأوروبية فى عصورها المظلمة، فليس الدين الإسلامى الذى نعرفه رافضا للعلم، ولا محارباً للعقل. ولكن للأسف أخذ الطرفان رجال الدين ودعاة التنوير يصورون المعركة فى بلادنا على أنها صراع بين الإسلام والعلم، بين الدين والعقل، وتمسك هؤلاء بالماضى وأقوال السلف، ودفعوا دعاة التنوير إلى حائط الإلحاد والكفر.
وليس بالغريب أن بعض دعاة التنوير عندنا أخذوا بنفس المبدأ، قد يكونون أخطأوا نفس الخطأ، فأعلن بعضهم الحرب على الإسلام ورجاله لكى يعلنوا عن أنفسهم أنهم تنويريون ودعاة إلى الفكر الحر. وكما أعلن العلماء فى الغرب أن الدين الذى تمثله الكنيسة هو مجرد خرافة، ورجاله هم رموز للجهل واستغلال الدين، واستندوا فى قولهم إلى محاكم التفتيش، بالمثل أخذ دعاة التنوير فى بلادنا يلصقون نفس التهم بالإسلام ورجاله، ولو أنصف هؤلاء وهؤلاء أنفسهم لجعلوا العلم والمعرفة وانفتاح العقل ديناً وفريضة، ولعل من أهم المهام صعوبة نقل هذا الصراع القائم إلى حلبة جديدة من الحداثة واستخدام العقل والمنطق بلا تكرار لمعارك فكرية حدثت منذ مئات السنين فى أوروبا، فلا الزمن هو الزمن، ولا نطاق المعرفة هو ما كان، ولا للدين الإسلامى كهنوت ولا رجاله يحكمون ويتحكمون.
وللحديث بقية الأربعاء القادم..