الخميس , 19 ديسمبر 2024
الرئيسية / بقلم د حسام بدراوي / بعد 25 يناير / بين النور والتنوير (٢) حسام بدراوي

بين النور والتنوير (٢) حسام بدراوي

اتصل بى صديقى العالم المثقف وقال: أنا أوافقك على ما جاء فى مقالتك الأربعاء الماضى حول التنوير وتعريفه،

قلت: وأنا مهتم بمشاركتك فى الحوار، وفى إضافة رأى ناضج بالخبرات إلى حديثى معهم. وها قد سألنى واحد من الشباب سؤالا لا يأتى إلا من شباب واع، بعد تكرار محاولات ربط كل كشف علمى بما أتى فى القرآن الكريم قائلا:

هل القرآن الكريم كتاب دين أم كتاب علمى؟.. فقلت له: إن من يحاول إثبات أن القرآن من عند الله من باب أنه كتاب علم بعد كل اكتشاف علمى أو معرفة جديدة بالكون، يسلك طريقا من وجهة نظرى خاطئا لأن، لا الله عز وجل ولا كتابه الكريم يحتاجان إثباتا من الاكتشافات العلمية التى قد تكون صحيحة اليوم وقد يثبت خطؤها غدا..ولا نحن كمؤمنين نحتاج هذا الإثبات أيضا فما رأيك؟.

قال لى صديقى المثقف:

يتردد هذا السؤال كثيرا على لسان بعض دعاة التنوير يا دكتور حسام، وحركة التنوير ذاتها، كما ذكرت فى مقالتك السابقة، هى حركة فكرية ثقافية خرجت إلى النور فى أوروبا كحركة مناهضة لسيطرة الكنيسة وسلطة رجال الدين على حرية الفكر والعقيدة، ومن أهم أعمدتها الفكرية بالإضافة إلى استخدام المنهج العلمى فى التفكير، أن وظيفة الدين ودور الكنيسة هو تنظيم علاقة البشر بربهم فقط لنيل الجائزة فى الحياة الأبدية، دون أن يكون لهم دخل بإدارة شؤون الحياة الدنيوية والدولة المدنية بعلومها الطبيعية وتشريعاتها القانونية.

وإن كان ذلك مفهوما أوروبيا منذ قرون بسبب تغول سلطة الكنيسة ورجال الدين على حياة الناس، وبسبب اندماج سلطة الحكم وسلطة الكنيسة الكاثوليكية، فهو غير مفهوم على الإطلاق فى سياق الدين الإسلامى والذى لم نعرف عن نصوصه أبدا ممارسة مثل هذا التسلط أو التعدى على قوانين الحياة المدنية لاتباعه، بل على العكس فكل النصوص القرآنية والصحيح من السنة تحض على إعمال العقل فى كل أمور دنيانا، بل إن الرسول الكريم قال لنا «انتم أعلم بشؤون دنياكم» أو كما قال صلى الله عليه وسلم، وبالتالى ليس فى الإسلام كهنوت ولا يسمح الدين الإسلامى بتسلط أو ممارسة لسلطة دنيوية باسم الدين حتى فى عصر الخلافة. صحيح أن هناك محاولات قديمة وجديدة من بعض المتطرفين أو الانتهازيين لتسييس الدين وتوظيفه لنيل مكاسب سياسية، لكنها تظل أقلية من المسلمين وسط غالبية كاسحة ممن يرفضون ذلك.

قلت: قد أخالفك الرأى، فقد استخدم الدين وتم ترديد الكثير من أحاديث منسوبة للرسول لخدمة الحكم السياسى عبر العصور، ولكن: تعال نعد للسؤال هل القرآن الكريم كتاب دين أم كتاب دين وعلوم؟.

قال: الحقيقة أننا قبل أن نجيب عن السؤال دعنا نتفق على بعض النقاط الجوهرية: أولا، أن الله هو خالق الكون وهو الذى وضع له قوانينه بكل نظامه البديع وهو الذى أنزل القرآن لكل البشر فى كل الأزمنة، وعلينا أن لا نحصر معانيه حسب مساحة معرفة القدماء فقط.

ثانيا: أن القرآن فيه إيماءات وإضاءات وإشارات «علمية وبيولوجية وكونية.. وإذا كان الله جلت قدرته هو خالق كل شىء ومسيره وواضع قوانينه، فوفق الإيمان به، لن يعجزه سبحانه أن يضمن بعضا من علمه اللانهائى فى بعض آيات القرآن لكى يتدبرها الناس عبر الزمان.

وليس غريبًا أبدا أن تتوافق بعض حقائق العلوم فى بعض الآيات مع اكتشافات العلم الحديث.. لأن كل الحكاية أن فهمنا نحن لما جاء فى القرآن هو القاصر عن ترجمته وتأويله.. وحينما نملك الأدوات لسبر أغوار الآيات وقياسها بمقياس العلم، وإن اصطدم تفسيره مع العلم فى أى زمن فهو ناتج عن خطأ التأويل وخطأ الفهم والترجمة وليس خطأ أو قصور النص ذاته.

وبذلك يظل النص القرآنى منزها عن كل نقص.. ويظل أبدى المعانى والمقاصد.. أما فهمنا له وتأويلنا لمعانيه فهو غير ذلك، لان الفهم والتأويل والتفسير هو عمل بشرى يخضع لقانون البشر صحة وخطأ.

قلت: يظل تخوف بعض رجال الدين من استخدام العقل فيما يخص كينونة الله والغيب، من أنه قد يؤدى بضعاف العقول إلى الإلحاد وبعموم الناس إلى الفوضى كما قال الفيلسوف إسبينوزا. لذلك من الأفضل لغير الراسخين فى العلم، الإيمان والطاعة ولا داعى لإدخال التفكير العلمى فى اللاهوت وهو الأمر الذى رفضه رواد التنوير فى العصور المظلمة وقبلهم ابن رشد وبعدهم فى العصر الحديث الكثيرون فتم اتهامهم أحيانا بالكفر أو الإلحاد.

رد واحد من الشباب المتابعين للحوار قائلا: ألا يعنى التطوير أحيانا التغيير، وهل حياة البشر الآن بها أى شبه بحياة البشر أيام نزول القرآن؟.

قالت زميلته: أنا لا أفهم يا دكتور رغبتنا فى تطوير الخطاب الدينى والتى تنادى بها قيادة البلاد، بدون أن يشمل ذلك الفهم الدينى وتغيير مفاهيم استقرت فى العقول فأصبحت عائقا أمام التقدم.. أى أن الحوار الدينى لن يتطور إلا بفعل الخروج على الكثير من معتقدات يظن أنها دينية وهى مكتسبة من بشر مثلنا وليست من أصوله.

قلت: أنا لا أدعى ما ليس لى به علم، ولكن من منهج التفكير والملاحظة فإن حتى الصحابة الذين عايشوا سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام، ومن أتوا بعدهم، لم يتقيَّدوا حرفيًا بالكثير مما كان يحدث فى حياته أو بسيرته أو وصاياه. ولو كان الأمر على غير ذلك النَّحو لما جمعوا القرآن أصلاً، ولما رتَّبوه بهذا الترتيب، ولما دوَّنوه فى مصحف واحد، ولما وضعوا للسُّور أسماء ثابتة، ولما فرَّقوا بين السُّور بالبسملة، ولما أضافوا التَّنقيط والتَّنوين، ولما أقرُّوا التأريخ بالتقويم الهجرى القمرى، ولما نقلوا العاصمة من المدينة إلى دمشق ثم بغداد، ولما جمعوا أحاديث الرَّسول ودوَّنوها فى الصحاح، وقد قال الرَّسول بنفسه، »لا تكتبوا عنى غير القرآن ومن كتب عنى غير القرآن فليمحه» (صحيح مسلم). وبالجملة المفيدة، لو تقيَّد الصحابة والتابعون بسنَّة الرسول وسيرته ووصاياه لما وُجِد الكثير مما نتعارك حوله الآن، ولما وجد شىء اسمه الخلافة أساسًا وهو نظام حكم استنه بعض الصحابة على حد علمهم وبدله معاوية إلى نظام ملكى يورث فيه الحكم داخل نفس الأسرة.

أعتقد أن أكثر شىء يهدد الإسلام اليوم هو الخوف عليه من الحوار واستخدام العقل وكأنه دين يجب حمايته من المتخصصين فقط وهو الذى يحميه الله عز وجل كما نفهم.

قال الشاب الحائر: يعنى نعمل إيه؟! نستمع ونطيع، فنتهم بأننا كالقطيع، ويتم من خلال منهجية الطاعة تجنيد البعض منا وتحويلهم إلى غرباء عن المجتمع بل إرهابيين فى عرف البعض أم نفكر ونغير فنتهم بأننا لسنا على علم كاف ولا معرفة تسمح لنا بالخوض فيما لا نعرفه؟.

قلت: الدين مكانه الإنسان نفسه يا بنى، وعلاقته بربه الشخصية والروحية، وجمالها فيما تعطيه لنا من سعادة ورضا نفس وقناعة ومحبة للحياة بكل أشكالها.

أما فى تسيير حياة الناس فالقانون الوضعى هو الأساس وهو مستمد من قيم لا يختلف عليها أى دين.

وفى حكم البلاد سياسيًا وفى المواطنة وحقوق غير المسلمين من المواطنين فالدستور هو الأساس.

وليس من حق أحد فرض ديانته على الآخرين.

وليس من حق أحد عقاب مواطن آخر لما يظنه خروجًا عن إيماناته وعقيدته.

العقاب والثواب المدنى مكانه القضاء وليس دار الإفتاء.

وطبعًا احترامى لنفسى ودينى وعقيدتى يدعونى لاحترام عقائد غيرى.

وعقلى أحكمه فيما أقرأ وأسمع وفيما أصدق من الأحاديث.

وإذا جاءنى الشك فأنا أبحث وأبحث وأبحث وأسأل، وأعود للمراجع وأعود إلى نفسى التى أعلم أنها نفس سوية.

أنا أدعو الجميع للوصول إلى قاعده تمكننا من معايشة العقل والتفكير والإيمان سويًا بدون تناقض وهو ما يجب أن نسعى إليه. سمينا ذلك تنويرا أو إصلاحا أو منهجًا علميًا أو تطويرا، لا يهم، المهم هو المعنى الذى نتفق عليه.

التعليقات

التعليقات