الأحد , 22 ديسمبر 2024
الرئيسية / بقلم د حسام بدراوي / بعد 25 يناير / تكليف الرئيس للحكومة

تكليف الرئيس للحكومة

تكليف الرئيس للحكومة
قال الشاب المتابع: لقد قرأنا يا دكتور حسام عن تكليف الرئيس للحكومة بتطبيق تحويل البلاد إلى دولة مدنية حديثة، وهو ما أثلج صدورنا وبعث الأمل فيها، فما رأيك، وما التكليف؟
وقالت زميلته خريجة العلوم السياسية: هذا سيعتبر استكمالًا لما طرحناه نحو تطبيق مواد الدستور فى النقاش السابق، فقد جاء فى مقدمة الدستور وفى مواده التالى:
«نحن الآن نكتب دستورًا يستكمل بناء دولة ديمقراطية حديثة، حكومتها مدنية».. «يقوم النظام السياسى على أساس التعددية السياسية والحزبية، والتداول السلمى للسلطة، والفصل بين السلطات والتوازن بينها، وتلازم المسؤولية مع السلطة، واحترام حقوق الإٍنسان وحرياته على الوجه المبين فى الدستور».
هذه هى مقدمة الدستور والمادة الخامسة منه، والذى وافق عليه الشعب المصرى بأغلبية ساحقة عام ٢٠١٤، ولم تلحق بهذه المقدمة ولا المادة الخامسة تعديلات فى ٢٠١٩ كما حدث لغيرها. والدستور هو مرجعيتنا فى إدارة مصر والحفاظ عليها.
قالت الشابة المثقفة: وما الدولة المدنية التى يقصدها الرئيس، ويقصدها الدستور، فقد يختلط الأمر فى التفسير، لأن ثانى مواد الدستور تقول: «الإسلام دين الدولة، واللغة العربية لغتها الرسمية، ومبادئ الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسى للتشريع»، وهو ما قد يفسره البعض توجهًا نحو الدولة الدينية؟!.
وقال زميلها: ولماذا نريد دولة مدنية أساسا، ولماذا نسميها هذا الاسم الذى يجعلها فى مقابل للدولة الدينية أو الدولة العسكرية، وهو ما يثير الحساسيات بلا معنى؟.
وقالت أخرى: يا جماعة فى مقابل المادة الثانية توجد المادة الرابعة التى تقول: (مادة 4
السيادة للشعب وحده، يمارسها ويحميها، وهو مصدر السلطات، ويصون وحدته الوطنية التى تقوم على مبادئ المساواة والعدل وتكافؤ الفرص بين جميع المواطنين، وذلك على الوجه المبين فى الدستور).
فكرت قليلًا، ووجدت أنه من الواجب عليّ أن أوضح تاريخ هذه المواد الدستورية ومعانيها فى إطار يُعلم الشباب أن هذه المناقشات دارت من قبل، وأنه تم تفسيرها بما يحفظ توجه بلادنا نحو الحداثة والمدنية.
قلت لهم: المادة الثانية من الدستور دخلت إليه عام ١٩٧١، ولم تكن موجودة من قبل فى أول حكم السادات، وقالت: «مبادئ الشريعة الإسلامية مصدر رئيسى للتشريع»، ثم تم تعديلها عام ١٩٨٠ بوضع «ال» إلى كلمة «مصدر» لتصبح «المصدر الرئيسى للتشريع» فى إطار صفقة بين السادات والتيار الدينى السلفى فى مقابل تعديل المادة التى تسمح بإعادة انتخاب رئيس الجمهورية أى عدد من المرات. ولكن المحكمة الدستورية العليا أوضحت أن مبادئ الشريعة الإسلامية هى «الأحكام الشرعية القطعية فى ثبوتها ودلالتها»، فهذه الأحكام وحدها هى التى لا يجوز الاجتهاد فيها، كذلك حثت المحكمة الدستورية على الاجتهاد قائلة إن الشريعة الإسلامية فى أصولها ومنابتها متطورة بالضرورة، نابذة الجمود، يجب ألا يتقيد الاجتهاد فيها.
أما الدولة المدنية الحديثة، فهى التى تحمى كل أعضاء المجتمع بغض النظر عن انتماءاتهم القومية أو الدينية أو الفكرية. وهناك عدة مبادئ ينبغى توافرها فى الدولة المدنية، والتى إن نقص أحدها فلا تتحقق شروط تلك الدولة، أهمها أن تقوم تلك الدولة على السلام والتسامح وقبول الآخر والمساواة فى الحقوق والواجبات، بحيث أنها تضمن حقوق جميع المواطنين، ليس كهبة من الحاكم ولكن كحق من واجبه الحفاظ عليه.
ومن أهم مبادئ الدولة المدنية ألا يخضع أى فرد فيها لانتهاك حقوقه من قبل فرد آخر أو طرف آخر. فهناك دوما سلطة عليا هى سلطة الدولة، من خلال آليات ناجزة للقانون، والتى يلجأ إليها الأفراد عندما يتم انتهاك حقوقهم أو تهدد بالانتهاك. فالدولة هى التى تطبق القانون وتمنع الأطراف من أن يطبقوا أشكال العقاب بأنفسهم.
وتتميز الدولة المدنية بتكافؤ الفرص بين المواطنين والمؤسسات بأسس معلنة، كذلك الإيمان وتطبيق مبدأ المواطنة الذى يعنى أن الفرد لا يعرف بمهنته أو بدينه أو إقليمه أو بماله أو بسلطته، وإنما يُعرف تعريفا قانونيا اجتماعيا بأنه مواطن، أى أنه عضو فى المجتمع له حقوق وعليه واجبات. وهو يتساوى فيها مع جميع المواطنين..
ومن أهم مبادئ الدولة المدنية أنها لا تتأسس بخلط الدين بالسياسة. كما أنها لا تعادى الدين أو ترفضه، بل إن الدين يظل فى الدولة المدنية عاملًا فى بناء الأخلاق وخلق الطاقة للعمل والإنجاز والتقدم. إن ما ترفضه الدولة المدنية هو استخدام الدين لتحقيق أهداف سياسية، فذلك يتنافى مع مبدأ التعدد الذى تقوم عليه الدولة المدنية، كما أن هذا الأمر قد يعتبر من أهم العوامل التى تحول الدين إلى موضوع خلافى وجدلى وإلى تفسيرات قد تبعده عن عالم القداسة وتدخل به إلى عالم المصالح الدنيوية الضيقة.
كذلك تتميز الدولة المدنية بمبدأ احترام القانون والديمقراطية، الذى فى جوهره يمنع أن تؤخذ الدولة غصبًا من خلال فرد أو نخبة أو عائلة أو نزعة أيديولوجية، ويتم تداول السلطة فيها فى إطار من حرية الفرد فى التعبير والترشح والانتخاب، وتوضع كل مؤسساتها فى نطاق المحاسبية، وتتوازن السلطات التنفيذية والرقابية والقضائية فيها، فلا تتوغل سلطة على أخرى.
أما لماذا نريد حكمًا مدنيًا بالتعريف الذى ذكرته؟، فذلك لأن «تداول السلطة، والرقابة على مؤسسات الدولة، والتوازن بين السلطات» هو الحامى للأفراد ولحقوقهم المذكورة فى الدستور. إن إمكانية تداول السلطة تضع كل حاكم أمام لحظة تركه الحكم وحساب الجماهير، ويتعظ ولا يتغول على الحقوق ولا يتسلط فى الحكم.
نعم، هناك نظم ديكتاتورية حققت طفرات تنموية، ولكنها الاستثناء، ويوتيوبية الديكتاتور العادل الذى رغم دوام حكمه لا تأخذه سَكرة السلطة ويظن أنه فوق القانون غير ثابتة.
قالت زميلتهم: إذن أى نظام حكم يحقق هذا هو نظام حكم جيد.
قلت: نعم.
قال آخر: وما المعاكس للدولة المدنية الحديثة؟
قلت: المعاكس للحكم المدنى هو الحكم الدينى الذى يستخدم الدين والعقيدة لتحقيق سلطات سياسية، ولا يعترف بالمواطنة إلا لمن يدين بدينه. هو حكم ديكتاتورى متسلح بالدين..
والمعاكس الآخر هو الحكم الديكتاتورى الذى يتسلح بأيديولوچية إنسانية مفروضة على الشعب كما كان الحكم الشيوعى الذى فشل فانهار وسقط.
والمعاكس الثالث هو أى نظام حكم ديكتاتورى يتسلح بتخويف الشعب لفرض إرادة فئة منه بالحكم.
ويشترك الثلاثة فى شىء واحد هو عدم تداول السلطة سلميا فى هذه البلاد إلا بثورات وانقلابات هدم واغتيالات.
قالت الشابة المثقفة: هل تتجنب الكلام عن الدولة العسكرية يا دكتور؟
قلت: لا يا ابنتى، إن تعريف الحكم العسكرى ليس من تأليفى، فهو الحكم الذى يتسلم فيه العسكريون السلطات كلها ويوقفون العمل بالقوانين المدنية أو يُخضعونها لسيطرتهم. وهو نظام استثنائى تلجأ إليه الدول فى حالة الأزمات الطارئة واختلال الأمن وتقرر فيه حالة الطوارئ بصفة دائمة حتى يزول الخطر عن البلاد وتمنح فيه السلطة التنفيذية سلطات واسعة حتى يعود الأمن والاستقرار للبلد.
ولكن يوجد تعريف آخر للحكم العسكرى الذى يتلحف بالرداء المدنى. وهو الحكم الذى يمنع المدنيين بشكل مباشر أو غير مباشر من الوصول للحكم، ويجهض العمل الحزبى والسياسى حتى لا تكون للقوى المدنية قيمة فى الانتخابات، ويتداخل فى الحكم المدنى من خلال التحكم فى المؤسسات المدنية، فلا تسير أمور البلاد أو يتخذ قرار إلا بموافقتهم، ويختل التوازن بين السلطات، وتهمش كل مؤسسات الدولة. والخطير أنه بمرور الوقت تصبح حجة البقاء فى الحكم وإيقاف تداول السلطة مرتبطة بغياب البديل أو عدم كفاءته، وهو النتيجة الطبيعية لتهميش مؤسسات الدولة المدنية.
وكثيرًا ما يفقد المجتمع ثقته فى المؤسسات المدنية، ويتولد إحساس ويقين بأن المجتمع المدنى رخو بلا نظام ولا يصلح لإدارة البلاد.
قد يحدث ذلك كله فى دولة ما، أو بعضه، وقد تؤدى الأحداث إليه.. ولكن التاريخ يقول إن جميع النظم الديكتاتورية مهما أنجزت فى لحظات، فهى كمن يبنى قصرا من رمال على الشاطئ، تنتهى فى الأغلب إلى انتهاكات للحريات أو انقلابات أو حروب أو ثورات أو اغتيالات تهدم ما تم إنجازه، وتعود بالبلاد إلى نقطة الصفر مرة أخرى.
قال الشاب الأول: وماذا عن مصر؟
قلت: إن الوسيلة الوحيدة لاستدامة نجاح أى نظام حكم هى وضوح الرؤية، والسماح بتراكم الخبرات، وتداول السلطة، واحترام الحريات فى إطار القانون

التعليقات

التعليقات