قال الشاب النابه:
ما التحديات التى تواجه تطوير التعليم فى مصر؟
قلت: ترجع التحديات إلى خمسة أسباب:
أولًا: عدم ملاءمة التمويل المتاح، رغم تعاظم حجمه عبر السنين، لاحتياجات التطوير.
ثانيًا: التخوف من الالتزامات التى سيفرضها التغيير، وهى التزامات تشارك فيها الحكومة والمنظمات الأهلية والأسرة والأفراد، والخوف أيضًا من عدم القدرة على إحداث التغيير أو تحمل ما ينشأ عنه من تبعات.
ثالثًا: مقاومة أصحاب المصالح المستقرة فى ظل الأوضاع كما هى عليه الآن.
رابعًا: عدم إشراك المجتمع وأصحاب المصلحة فى شراكة فعالة وفهم إيجابى لتطوير التعليم.
خامسًا: عدم التحيز فى تطبيقات الحكومة لسياسات التعليم.. بالرغم من الاعتراف بأولويته، حيث تُنافس ملف التعليم الذى يمس المستقبل ملفات أخرى قد تكون لها آثار سياسية قصيرة المدى أو تمس احتياجات المعيشة اليومية.. والتى أراها تفوز فى الأغلب على ملف التعليم عند تطبيق الأولويات.
قال الشاب: وبعدين يا دكتور، إلى ماذا سيؤدى ذلك؟
قلت: إن عدم مواجهة هذه التحديات بالإصرار اللازم والأولوية الواجبة يؤدى إلى:
أولًا: تهميش أكبر للفقراء، وعدم قدرة التعليم- بوضعه الحالى- على دعم الحراك الاجتماعى الإيجابى كناتج مباشر أو غير مباشر له.
ثانيًا: انتقال الفئات الأكثر قدرة إلى التعليم الخاص والأجنبى، داخل وخارج مصر، وأثر ذلك على الثقافة العامة، واستخدام اللغة العربية، والانفصال الاجتماعى بين الطبقات.
ثالثًا: تحميل الفئات الأكثر فقرًا تكاليف تزيد عن طاقتها- نسبيًا- فى الدروس الخصوصية، وعدم استفادة مؤسسات التعليم الرسمية من هذا الإنفاق الخاص، وهو ما يعنى الكثير من الفرص الضائعة، والمجانية غير الحقيقية، والأثر الاجتماعى السلبى على الشعور العام.
قالت زميلته: وماذا عن تحدى التمويل ونحن نرى إنفاقًا كبيرًا على أشياء أخرى غير التعليم؟
قلت: يُعتبر الإنفاق على التعليم هو أحد أكبر مجالات الإنفاق الاجتماعى فى مصر، ويمثل تحديًا كبيرًا لأنه مازال تمويلًا حكوميًا فى مجمله يتنافس مع مصارف أخرى للإنفاق داخل موازنة الدولة المحدودة بالنسبة لعدد السكان. وبالرغم من زيادة هذا الإنفاق الرقمى عامًا بعد عام، حيث بلغ 2015- 2016 حوالى 99.2 مليار جنيه، فإن هذه الموازنة تظل غير قادرة على تلبية احتياجات التعليم وتطويره تنفيذًا لرؤية مصر 2030 الواضحة بمحاورها الخمسة للتوسع فى الاستيعاب، والرقمية، ورفع الجودة، وتحقيق نقلة نوعية تتراكم عبر السنين تؤثر فى شخصية المتعلم إيجابيًا لتحقيق النهضة.
وعلى الرغم من تزايد الإنفاق على التعليم فى مصر، على النحو السابق الإشارة إليه، فإن الجزء الأعظم من هذا الإنفاق يمول الأجور فقط، فوفقًا للبيانات المُبوَّبة التى مثّلت الأجور ما يربو على 66% من إجمالى الإنفاق على التعليم قبل الجامعى فى مصر، خلال العام المالى 2017- 2018، فى المقابل بلغت حصة الإنفاق على المستلزمات السلعية والخدمية الخاصة بقطاع التعليم قبل الجامعى حوالى 9% فى المتوسط، خلال السنوات المالية الخمس الماضية، وهذه الحصة تُعد متدنية للغاية، وبالأخص إذا ما أخذنا فى الاعتبار أن الجزء الأكبر من هذه الحصة يذهب إلى أنشطة ذات طبيعة إدارية، وإنفاق مباشر على المرافق العامة من كهرباء ومياه وتليفونات، فى مقابل جزء يسير يتم إنفاقه على الخدمة التعليمية ذاتها، والأنشطة المدرسية وطرق التدريس والتدريب والبحث والتطوير. إننى عندما أتحدث عن تحدى التمويل المتاح للتعليم، أعلم أن التطوير ليس مرتبطًا فقط بهذا، لكنى أعلم أيضًا أن عدم توافر التمويل اللازم عائق جوهرى فى النظم الكبيرة التى تستوعب ملايين التلاميذ.
قال شاب آخر: وماذا تقترح؟
قلت: إننى أعرض لفلسفة ومبادئ السياسات المقترحة لتمويل التعليم، الذى يهدف إلى توفير التمويل اللازم للتعليم لكى يحقق أهدافه بدرجة الجودة المطلوبة، والتى تخفف من الأعباء التمويلية المباشرة للأسر المصرية، خاصة محدودة الدخل.
ولتحقيق هذه السياسات يجب مراعاة الأمور الآتية:
أولًا: حتمية الاعتماد فى المستقبل القريب من الناحية الواقعية على تمويل الدولة مصدرًا أساسيًا، مع التدرج فى الاعتماد على مصادر أخرى مستقبليًا، الأمر الذى يستلزم رفع ميزانية التعليم فى الموازنات القادمة للدولة.
ثانيًا: أن السياسات المطروحة هى حزمة سياسات مجتمعة لا تؤدى إحداها منفردة الغرض، بل يجب توظيف الأمثل منها بشكل لا مركزى ضمانًا لتحقيق أفضل النتائج.
ثالثًا: ألّا يعتمد تطبيق هذه السياسات على إحداث تغيرات آنية فى أى من مواد الدستور.
رابعًا: أن تنطلق هذه التوجهات من سياسات تم الاتفاق عليها فعلًا مع الحكومة، وتتناغم معها وتُعزِّزها، وعلى رأسها التوجهات نحو اللامركزية وسياسات رفع الجودة والسعى نحو استقلالية مؤسسات التعليم العالى وحريتها الأكاديمية.
ولتحقيق مستوى التمويل المنشود، نطرح مجموعة من السياسات المتكاملة لكل من التعليم العالى والتعليم قبل الجامعى كما يلى:
أولًا: زيادة تمويل الدولة، وربطه بمعايير الأداء: حيث نوصى بأن تزيد مخصصات الدولة للتعليم لتصل إلى 6% «على الأقل» من إجمالى الناتج القومى، بشكل متدرج، من الآن ولمدة عشر سنوات، على أن يحسن توجيه هذه الموازنة للمدارس والجامعات والمعاهد فى المناطق الريفية وإعطاء مخصصات أكبر للمحليات، ومع وجوب تحديد حد أدنى لمخصصات مؤسسات التعليم، إلا أن هذه المخصصات يجب أن تزداد للمؤسسات التى تظهر مؤشرات لجودة التعليم بها.
ثانيًا: إيجاد وتعزيز مصادر بديلة للتمويل التقليدى: وتشمل طرح سندات أو أذون خزانة باسم «تمويل التعليم»، وذلك بأسعار فائدة متميزة، ولآجال طويلة، كما يمكن تحصيل رسم رمزى على بعض المعاملات الحكومية لصالح نفس الهدف. ويمكن تبنى تطوير صندوق تطوير التعليم كآلية لتلقى المساعدات المالية فى هذا الشأن، كما تُطرح نماذج جديدة للتبرع من رموز المجتمع والطبقة الوسطى والميسورة التى استفادت من مجانية تعليم الدولة.
ثالثًا: تشجيع القطاع الخاص على الاستثمار والمشاركة فى التمويل، إن رؤيتنا أن يستوعب القطاع الخاصة نسبة 20% من التلاميذ فى التعليم قبل الجامعى.
رابعًا: الاعتماد على البحث العلمى والأنشطة المجتمعية كمصادر تمويلية.
خامسًا: إصلاح هيكل وأنظمة الإدارة المالية فى مؤسسات التعليم.
سادسًا: تسويق المنتج التعليمى المصرى بالخارج.
سابعًا: حسن توجيه المساعدات الدولية فى التعليم.
ثامنًا: ترشيد الإنفاق فى مؤسسات التعليم.
تاسعًا: التوسع فى أنماط التعلم غير التقليدية: ويكون ذلك من خلال التوسع الموضوعى فى أنماط التعلم الحديثة نسبيًا، مثل التعلم الإلكترونى التفاعلى عن بُعد والاستفادة من الوسائل والمساعدات التعليمية التكنولوجية منخفضة التكاليف، التى لا تحتاج إلى تكاليف تشغيل وصيانة مرتفعة أو مساحات كبيرة، وذلك يسهم أيضًا فى زيادة عدد المتعلمين وترسيخ مفاهيم التعليم المستمر.
إن مسؤولية الدولة عن التعليم هى الأساس، وتنويع مصادر التمويل قد يكون بديلًا جوهريًا فى التعليم العالى، إلا أن التعليم المدرسى سيظل معتمدًا على موازنة الدولة بالدرجة الأولى، المسؤولة دستوريًا عن الإنفاق عليه. ولعل التحدى الأكبر فى إدارة التعليم قبل الجامعى، بمَن يحتاجه من القوى البشرية المؤهَّلة، هو تحدٍّ مجتمعى يحتاج للمناقشة.. إن الحقيقة المُرة أن هناك مساحة واسعة لترشيد الإنفاق المتاح، رغم ضآلته النسبية، تحتاج إرادة سياسية مؤيَّدة من المجتمع، إن كان التعليم هو الأولوية الحقيقية كما يقول المجتمع.
أما التعليم العالى، فموارده متعددة فعلًا، إذا حصلت مؤسساته على حريتها الأكاديمية، واستقلالها الإدارى، واتبعت سياسات التطوير كما ذكرناها. الحقيقة أن مؤسسات التعليم العالى هى الفرصة وليست المحنة التى تواجهنا، وعلينا مقابلة هذا التحدى برؤية خارج الشكل التقليدى القائم.