الأحد , 22 ديسمبر 2024

تنوير الإنسانية..

تضمنت المبادئ الأساسية لفلاسفة التنوير فى عصور النهضة استخدام العقل والمنهج العلمى والحرية الفردية والتسامح الدينى، مقابل العقائد الثابتة للكنيسة الكاثوليكية الرومانية فى ذلك الوقت.
ويؤكد الفيلسوف إيمانويل كانط، فى مقالته «تجرأ على المعرفة»، أهمية خروج الإنسان من مرحلة القصور العقلى وبلوغه سن النضج أو سن الرشد. وقد عرّف القصور العقلى على أنه التبعية للآخرين، وعدم القدرة على التفكير الشخصى، أو السلوك فى الحياة، أو اتخاذ أى قرار دون استشارة الأوصياء عليه.. ومن هذا المنظور جاءت صرخته التنويرية لتقول استخدموا عقولكم أيها البشر، ولتكن عندكم الجرأة، فلا تتواكلوا بعد اليوم ولا تستسلموا للكسل والمقدور والمكتوب، تحركوا وانشطوا وانخرطوا فى الحياة بشكل إيجابى متبصر. كما حذر من الطاعة العمياء للقادة السياسيين أو لرجال الدين.
إن حماية الإنسان تكمن فى تعليمه ليصبح ناضجا وقادرا على الاعتماد على نفسه، مستخدما عقله للتحرر من المعتقدات والحقائق الملقنة له عبر تاريخ فيه الكثير من الجهل بالعلوم والأكوان. العلم والملاحظة والبناء التراكمى للمعرفة هى وسيلة البشريهة للحداثة والترقى.
إن أهم ما يعوق التنوير والتطور هو راحة الإنسان لبقاء الأمر كما هو عليه، لأن التغيير يستلزم جهدا وتنازلات مشتركة وانتقالًا من زمن إلى زمن جديد تتغير فيه المسؤوليات وتتعدد فيه التوجهات، وطبيعة البشر أنهم أعداء ما جهلوا.. يضاف إلى ذلك أنه إذا استتب الحكم لطائفة سياسية أو دينية، فلماذا يُعرّضون أنفسهم إلى هزات قد تسلبهم ملكًا أو تحكمًا فى الشعوب؟!.
وبدراسة عصر النهضة فى أوروبا، وجدت أن رجال الكنيسة كانوا العدو الأول لحركة التنوير والتطور، وقد أعلنوا الحرب على العلم والعلوم، وعلى الفلاسفة والمفكرين، إلا أن العلم قد انتصر فى مواجهة الجهل، وفاز العقل فى مواجهة الخرافة، والتقدم فى مواجهة التخلف.
كانت معركةً، حسمها التاريخ والواقع لصالح العلم والعقل والنور ضد كهنوت الكنيسة وتصلبها، وتم فصل رجال الدين عن السياسة.
وللأسف، انتقلت المعركة بكل ملابساتها وظروفها إلى عالمنا الإسلامى دون أن يفطن الكثيرون إلى أن الإسلام ليس له كهنة، وأن المؤسسات الدينية لا تتحكم ولا تحكم ويجب ألا تفعل، وأنّ تَمسُّك الوهابية والسلفية بمعطيات الماضى لن يدوم، لأنها لا تناسب العصر.
وفى الجانب الآخر، فإن دعاة التنوير لم يفطنوا إلى أن الإسلام ليس هو الكنيسة، فليس الدين الإسلامى الذى نعرفه رافضًا للعلم ولا محاربًا للعقل، ولكنّ فيه رجالًا وشيوخا كانوا ومازالوا يتمسكون بالماضى ويرفضون الحداثة.
وللأسف، أخذ الطرفان- بعض رجال الدين وبعض دعاة التنوير- يصورون المعركة على أنها صراع بين الإسلام والعلم، بين الدين والعقل.. وتمسك هؤلاء بالماضى وأقوال السلف، ودفعوا دعاة التنوير أحيانا إلى حائط الإلحاد والكفر.
ولو أنصف هؤلاء وهؤلاء أنفسهم لجعلوا العلم والمعرفة وانفتاح العقل دينًا وفريضة.
ولعل أهم المهام صعوبة هو نقل هذا الصراع إلى حلبة جديدة من الحداثة واستخدام العقل والمنطق بلا تكرار لمعارك فكرية حدثت منذ مئات السنين فى أوروبا، فلا الزمن هو الزمن، ولا نطاق المعرفة هو ما كان.
لذلك، فقد ابتهجت وغمرنى الأمل عندما شاهدت الصديق العالم الإمام شيخ الأزهر يتحدث نفس لغة العقل ويتخذ منهجًا علميًا فى مواجهة حتمية تنقية التراث وتجديد الخطاب الدينى عندما قال:
«اليوم نتحدث عن معوق لعب دورًا خطيرًا فى تجميد حركة التجديد وبعث نزعات التقليد والتعصب، هذا العائق هو عدم التفرقة بين الشريعة كنصوص إلهية من القرآن الكريم أو نبوية من السنة الصحيحة وبين الفقه كاستنباطات العلماء واجتهاداتهم فى هذه النصوص واستخراج الأحكام منها وإضفاء قدسية الشريعة على اجتهاد فقهائنا السابقين واستدعاء فتاواهم وآرائهم التى قالوها ليواجهوا بها مشكلات عصرهم التى كان رضى الله عنهم يعلمون علم اليقين أنها اجتهادات بشرية ليست معصومة ولا هى فى منزلة نصوص الشريعة».
وقال: «وما الفقه إلا استنباطات بشرية استنبطها العلماء المختصون فى هذا الحقل العلمى الدقيق من الشريعة الإلهية المعصومة، وإن أى خلط بينهما سوف يؤدى لا محالة إلى تأليه البشر وتقديس الفكر الإنسانى، فالشريعة نصوص مقدسة، بينما استنباطات العلماء من فقهاء وأصوليين ومفسرين ومحدثين ومتكلمين كلها معارف بشرية أو تراث يؤخذ منه ويترك..».
ويزيد قائلا: «يمكن أن نقول ونحن مطمئنون: نعم، تراثنا ليس كله قادرًا على مواجهة مشكلات العصر، ولكنه أيضًا ليس كله بعاجز عن التعامل معها، ويتطلب استمرار هذا التراث حيًا مؤثرًا إلغاء عناصر وإبقاء عناصر أخرى واستدعاء عناصر ثالثة من خارجه حسب حاجة المجتمعات ومصلحتها.
والتراث حين يتخذ من التجديد أداة أو أسلوبًا ليعبر به عن نفسه يشبه التيار والنهر السيال، الذى لا يكف لحظة عن الجريان، أو هكذا يجب أن يكون، وإلا تحول إلى ما يشبه ماء راكدًا آسنًا يضر بأكثر ما يفيد. والذين يظنون أنهم قادرون على مواجهة المستجدات بمجرد استدعاء الأحكام الجاهزة من تراث القرون الماضية يسيئون من حيث يدرون أو لا يدرون لطبيعة هذا التراث العظيم».
ويقول الشيخ الجليل: «إن الجمود من سمات الموت، وإن الحركة هى الخاصية الأولى للحياة».
ألا يتفق ذلك يا سادة مع ما يدعو إليه العقلاء من الأمة..؟!!
وأزيد للقارئ ما جاء بوثيقة «الأخوة الإنسانية» وفيها ما يثلج الصدر ويرضى العقل التنويرى، حيث أعلن قطبا الديانتين باسم الحرية التى وهبها الله لكل البشر وفطرهم عليها وميزهم، أعلن الأزهر الشريف – ومن حوله المسلمون فى مشارق الأرض ومغاربها – والكنيسة الكاثوليكية – ومن حولها الكاثوليك من الشرق والغرب – تبنى ثقافة الحوار دربًا، والتعاون المشترك سبيلًا، والتعارف المتبادل نهجًا وطريقًا.
تقول الوثيقة: «إننا نطالب أنفسنا وقادة العالم وصناع السياسات الدولية والاقتصاد العالمى، بالعمل جديا على نشر ثقافة التسامح والتعايش والسلام، والتدخل فورا لإيقاف سيل الدماء البريئة، ووقف ما يشهده العالم حاليا من حروب وصراعات وتراجع مناخى وانحدار ثقافى وأخلاقى».
«نتوجه للمفكرين والفلاسفة ورجال الدين والفنانين والإعلاميين والمبدعين فى كل مكان ليعيدوا اكتشاف قيم السلام والعدل والخير والجمال والأخوة الإنسانية والعيش المشترك، وليؤكدوا أهميتها كطوق نجاة للجميع، وليسعوا فى نشر هذه القيم بين الناس فى كل مكان».
وتقول الوثيقة «إن هدف الأديان الأول والأهم هو الإيمان بالله وعبادته، وحث جميع البشر على الإيمان بأن هذا الكون يعتمد على إله يحكمه، هو الخالق الذى أوجدنا بحكمة إلهية، وأعطانا هبة الحياة لنحافظ عليها، هبة لا يحق لأى إنسان أن ينزعها أو يهددها أو يتصرف بها كما يشاء، بل على الجميع المحافظة عليها منذ بدايتها وحتى نهايتها الطبيعية.
كما نعلن – وبحزم – أن الأديان يجب ألا تكون أبدا بريدًا للحروب أو باعثة لمشاعر الكراهية والعداء والتعصب، أو مثيرة للعنف وإراقة الدماء، فهذه المآسى حصيلة الانحراف عن التعاليم الدينية، ونتيجة استغلال الأديان فى السياسة، وكذا تأويلات طائفة من رجالات الدين – فى بعض مراحل التاريخ – ممن وظف بعضهم الشعور الدينى لدفع الناس للإتيان بما لا علاقة له بصحيح الدين، من أجل تحقيق أهداف سياسية واقتصادية دنيوية ضيقة. لذا فنحن نطالب الجميع بوقف استخدام الأديان فى تأجيج الكراهية والعنف والتطرف والتعصب الأعمى، والكف عن استخدام اسم الله لتبرير أعمال القتل والتشريد والإرهاب والبطش. إن الله عز وجل فى غنى عمن يدافع عنه أو يرهب الآخرين باسمه».
احترامًا وتحية لشيخ الأزهر وبابا الفاتيكان اللذين أكدا جوهر الدين وعادا به نورًا للعقول، وأظهرا جوهر الأخلاق والضمير فيه والنفس السوية لحماية البشرية.

التعليقات

التعليقات