الأحد , 22 ديسمبر 2024
الرئيسية / بقلم د حسام بدراوي / بعد 25 يناير / خطيئة البهجة وإثم السعادة

خطيئة البهجة وإثم السعادة

حسام بدراوي
فى حوار لى مع شباب جمعية الحالمين بالغد، قال شابٌ نابه تعليقًا على قصة المُدرِّسة المتطوعة التى هاجمتها ضباع السوشيال ميديا لأنها رقصت فى رحلة: هل أصبحنا مجتمعًا كئيبًا وشريرًا يستمتع بتجريس غيره، ثم أعطته السوشيال ميديا وسيلة جديدة ليُفعّل ذلك من وراء ستار، فأصبحوا أكثر شراً وإيذاءً للغير؟!.
قالت زميلته: المصريون معروفون بخفة الدم وإطلاق النكت وقدرتهم على الفرفشة والبهجة بغض النظر عن طبقاتهم الاجتماعية، حصل لنا إيه يا دكتور؟!.
أضاف شاب آخر: فى العقود الأخيرة، وبنمو وتداخل ثقافة التجهم المتشددة فى وجدان الناس، أصبح الضحك مسخرة والبهجة عيبا، ألا يستحق ذلك الدراسة والبحث؟!.
قلت: إن هناك عقلًا جمعيًا للمجتمع، يُخلق بمجموع الطاقة الإيجابية أو السلبية فيه، ويحفزه التعليم والإعلام والفنون، وهو ما يضع على كاهل قيادات المجتمع مسؤولية كبيرة، لأنهم هم صانعو هذا المناخ والميسرون لوجوده.
قالت الشابة اللمّاحة: وهل من واجب الحكومات إخراج الشعوب من هذا المناخ السلبى وإسعاد الناس؟!.
قلت: هذه هى وظيفة الحكومات الأساسية يا ابنتى لو تعلمين.. على قادة المجتمع أن يفكروا إيجابيا فى رفاهة الأفراد وسعادتهم، فلا يمكن أن تكون السياسة مجرد وعود أو مشروعات.. فى النهاية إذا لم تتحقق الرفاهة، وإذا لم يسعد الشعب، فقد فشل الساسة وفشلت السياسة.
قالت شابة أخرى: وما معنى البهجة؟، وهل للسعادة تعريف؟ وهل يمكن قياسها؟
قلت: أولًا البهجة انفعال لحظى جميل يرسم الابتسامة على الوجه لرؤية شىء، مثل ألوان جميلة فى لوحة أو منظر رائع، أو سماع كلام حلو أو أغنية أو موسيقى تشيع فى وجدانك شعورا جميلا وتجعلك تتحرك مع نغماتها فترقص مبتهجاً.
.. الموسيقى والرقص بهجة، ومشاركة مجموعة من البشر فى البهجة سوياً كما نرى فى احتفالات أمريكا اللاتينية أو الغرب والشرق الأقصى مُعدٍ عدوى صحية.
أما السعادة فهى شعور دائم من الرضا يجعلك إنسانا أفضل وأرقى، ترى فى الناس أجمل ما فيهم وتبحث عن حسنهم وفضلهم.
وللعلم، فإن كيمياء السعادة تختلف عن كيمياء المتعة.
المتعة مرتبطة بارتفاع نسبة هرمون الدوبامين وقصيرة المدى، أما السعادة فطويلة المدى ومرتبطة بهرمون السيروتونين.
هما حالتان مختلفتان.
المتعة حسية.. ولكن السعادة وجدانية ونفسية وعقلية.
المتعة، ومنها الجنس ولحظة الفوز أو الحصول على المال، ممكن أن تكون جزءا من السعادة الأكبر والأعم والأشمل ولكنها ليست السعادة بذاتها.
ممكن أن نشترى المتعة ولا يمكن شراء السعادة. والمتعة ممكن تتحول إلى إدمان، أما السعادة فهى حالة صحية تجعل الإنسان أفضل ويرى فى الآخرين فضلًا.
والاثنتان تختلفان عن البهجة التى هى سعادة وقتية لرؤية أو سماع شىء، أو حركة تأخذ الإنسان بعيداً عن مشاكل اليوم ومؤرقات الحياة.
فلتسعدوا يا أبنائى، وغنوا وارقصوا واملأوا نفوسكم بهجة، واستمتعوا بما لا يضر صحتكم البدنية والنفسية، واحترموا خصوصية الآخرين ولا تحكموا أو تحاكموا غيركم لأنهم مبتهجون وسعداء. السعادة والبهجة لا تحتاجان دفاعاً عن النفس ولا تبريراً للآخرين.
قال الشاب الأول: وكيف تفسر هجوم المجتمع على إنسانة غَنّت ورَقَصت فى رحلة على مركب، وهو ما نفعله كلنا فى كل رحلة، فأصبحت مجرمة منبوذة حتى من أسرتها؟!.
قلت: أرى حولى فى المجتمع- وللأسف- من يرى البهجة إثمًا، ومن يرى سعادة غيره إنقاصاً منه، ومن ينشر الشرور والإحباط لمجرد أنه لا يرى الجمال ولا يحترم من يسعى للسرور، ويتدخل فى شؤون الآخرين ليشجب بهجتهم ويمنع سعادتهم.
هؤلاء يا أولادى خلايا سرطانية فى جسم الإنسانية، يجب ألا نسمح لهم بالسيطرة على المجتمع ونشر سوادهم على لوحة الإنسانية الجميلة التى خلقها الله، وخلقنا.
لقد استمتعت بفيديو نشرته الأستاذة نهاد أبوالقمصان، الحقوقية المحترمة، حول هذا الموضوع وشَرحَته بكياسة وعلم. وأضافت لى أن عدد من أيّدها فى الدفاع عن هذه السيدة كانوا بمئات الآلاف، وعدد من هاجموها كانوا عشرات فقط. أحيانا يخلق الشر إحساسا بأنه تيار ويستولى على الجَمْع، كما فى المظاهرات التى تخلق عنفاً يمارسه أحيانًا من يشارك فى المظاهرة متخليا عن حقيقته لأنه داخل المجموع ومحمٍ بهم. ونفس هذه التظاهرات يمكن أن تتحول إلى بهجة ورقص وغناء وتصبح سلمية ويتحرك ويستمتع بها نفس الأشخاص.
الجموع، سواء فى السوشيال ميديا أو فى الشارع، يقودها أشخاص لتحقيق أهداف، ويخلقون واقعاً انطباعياً فيصبح حقيقة بلا برهان.. وبعد فترة يمثل إرهاباً فكرياً على المجتمع إذا خرج عن منهجه. فلا تنخدعوا وتظنوا أن الجميع مع أو ضد من ظاهر اللحظة.
قالت الشابة الذكية: هل هناك نظريات مثبتة حول ما تقول؟
قلت: كان جوستاف ليبون، عالم الاجتماع الفرنسى والأنثروبولوجيا، قد عمل عام 1895 على دراسة العقل الجمعى للحشد، وأوضح وجود كينونة جديدة منبثقة عن اندماج الناس مجتمعين، حيث يكونون معًا ينشأ مجال مغناطيسى من الجمع أو لأسباب أخرى مثل «التماهى»، وهو تماهى السلوك الفردى ليصبح جزءا من التكوين الجمعى الذى يستولى من كل فرد فى الجمع على آرائه ومعتقداته وقيمه الشخصية.
وكما قال فى واحدة من مقولاته: «الفرد فى الحشد هو حبة رمل وسط الآخرين، تحركها الرياح وسط حبات الرمل الأخرى».
وتحدث ليبون بالتفصيل عن ٣ عمليات رئيسية تؤثر فى سلوك الحشد: (مجهولية الهوية، والإيحاء، والعدوى).
«مجهولية الهوية» تعطى شعوراً بفقدان المسؤولية الشخصية، ويصبح الشخص أكثر بدائية وعاطفية وبلا قيود، وتمنحه شعورًا بأنه لا يقهر.
و«العدوى» تعنى انتشار سلوك معين خلال الحشد، كأعمال الشغب، مثل: تحطيم النوافذ وإلقاء الحجارة.. إذ يبادر شخص بذلك فيتبعه آخرون.
أما «الإيحاء» فهو الآلية التى يتم من خلالها انتقال العدوى، فالهتافات القوية تجعل اللاوعى عنصرياً، ويصبح الحشد متجانسًا ومرنًا ومتقبلًا اقتراحات أقوى أعضائه.. أولئك الذين يقودون المسيرة أو الحشد أو التظاهرة يمكنهم بأصواتهم العالية قيادة وتوجيه المجموعة، وهؤلاء أصبحوا مدربين فى الوقت الحاضر، ومسار أى مظاهرة كبيرة أو تريند سوشيال ميديا يمكن أن يكون محددا بشكل كبير مسبقاً بقيادتهم.
وباستخدام تكنولوجيا اليوم، فقد أصبح جمع الناس والعمل على نفوسهم وإعدادهم علماً وفنًا، حيث جعلت الاتصالات غير المحدودة الأمر متاحًا وقابلًا للتحقيق.
العقل الإيجابى الجمعى لمشجعى مباراة كرة قدم فى ملعب قد يحرك طاقة فى اللاعبين ضد الآخر، ونحن نفهم هذا الآن، حيث تنشأ الطاقة التى تحرك الناس من خلال العقل الجمعى للحشد الذى يغير كيمياء الفرد.. وبهذا الأسلوب أيضا اعتاد القادة التاريخيون من خلال نشر الطاقة الإيجابية أو السلبية فى الحشود بخطاباتهم الحماسية أن يحركوا الشعوب.
رسالتى هنا ألا ننساق وراء الغوغاء والدهماء ونصبح مثلهم. استخدموا عقولكم وناقشوا ولا تنشروا بوستات للآخرين دون وعى، لأنكم دون أن تدروا تشاركون فى خلق انطباعات خَلَقها آخرون بغرض نشر ثقافة الكآبة والتشدد والتعصب وتيسير انتهاك خصوصية الآخرين دون عقاب، بل بشعور بالبهجة.
قالت الشابة المبتسمة دائما: وأنت يا دكتور، ما الذى يبهجك؟
قلت: يبهجنى رؤية من حولى سعداء، يضحكون.. يبهجنى سماع الموسيقى.. تبهجنى الألوان المتناسقة والألعاب النارية فى السماء، والاحتفالات والرقص والغناء.
قالت: وما الذى يسعدك؟
قلت: تسعدنى القراءة ومناقشة ما أقرؤه مع الآخرين، يسعدنى إسعاد من حولى وأسرتى والمجتمع، يسعدنى السفر والاندهاش، يسعدنى مشاهدة أفلام الخيال العلمى واستكشاف الفضاء، تسعدنى رؤية والدتى وأولادى وأحفادى، يسعدنى تحقيق النجاح، يسعدنى تواصلى مع الله دون ضغوط أو إرهاب مدّعى التدين لأكون مثلهم أو أن أفعل ما يفعلون، يسعدنى أن ألعب على البيانو، وأن أرسم لوحة جديدة، يسعدنى الحوار الايجابى خصوصا مع الشباب، ويسعدنى أن أسجل كتابةً أفكارى، ويسعدنى التواصل مع أصدقائى، يسعدنى أن تسود المحبة والاحترام بين الناس. حقيقة الأمر، يسعدنى الكثير من نِعَم الله علىَّ.
من لا يبحث عن السعادة لن يجدها، فالسعادة قرار والتفاؤل ثقافة، ومصادر البهجة موجودة حولنا ولا تحتاج سوى أن نراها ونحسها وندمجها فى نفوسنا.
فليفكر كل واحد فيكم ما الذى يفعله فى يومه فيسعده ويفعله، ولنشكر الله على نعمته علينا بالعقل لنرى فضله وجمال خلقه، وسوية قلوبنا لتكون أرواحنا راضية مرضية دنيا وآخرةً.
المقالة في المصري اليوم
https://www.almasryalyoum.com/news/details/2502010
اللوحة بريشة د حسام وحفيدته ملك بيبرس

التعليقات

التعليقات