الخميس , 19 ديسمبر 2024
الرئيسية / بقلم د حسام بدراوي / بعد 25 يناير / د بدراوى يكتب: عن أحوال البلاد

د بدراوى يكتب: عن أحوال البلاد

يسألنى الناس أينما ذهبت عن أحوال البلاد وهل هناك طريقة للخروج من المأزق؟. ولأن أغلب الأسئلة تأتى فى ظروف لا تسمح بالاستفاضة فى الكلام، فلا أجد غير جمل بسيطة تعطى الأمل وتشير إلى إمكانات مصر العظيمة.

وفى الحقيقة، فإن هذا الموضوع يحتاج عقولًا سياسية وخبرات متراكمة لتحديد تعريف الواقع حتى يمكن التفكير فى التغلب على صعابه.

تقول الحكمة إن تكرار فعل نفس الشىء بنفس الطريقة وتوقع الحصول على نتائج مختلفة هو طريق للفشل.

أما مع شباب الحالمين بالغد فلا أستطيع سوى الرد المستفيض..

قال الشاب المتشائم دائمًا: لقد عاشت مصر عقودًا مختلفة منذ ثورة 52، تتغير حولها الظروف، وتتعدد أساليب الخروج من مآزق الفقر والجهل وغياب الحريات بدرجات متفاوتة، وكذلك انتهاكات حقوق المواطنين بانتقائية سياسية أو اجتماعية. ولكن الملاحظة الدقيقة تُظهر أننا ندور فى حلقات، من التوجهات السياسية والاقتصادية تسلم بعضها بعضًا ولا ننهى أيًا منها ولا نصل إلى خط النهاية فى أى منها أبدًا. فى كل الأحوال تنقلب الأحوال لنبدأ من جديد من نقطة الصفر ونعاود السير فيما سرنا فيه سابقًا فى انتظار نتائج مختلفة. بل إننا نجادل فى نفس القضايا وبنفس الأسانيد منذ بدء القرن العشرين. ولو قرأنا ما كتب الإمام محمد عبده أو الأستاذ العقاد أو الدكتور طه حسين أو قادة الفكر والثقافة عبر السنين فى الحريات، وعلاقة الدين بالدولة، والتعليم، والمعرفة، والعدالة الاجتماعية وغير ذلك من الأمور، لوجدنا أنفسنا فى نفس النقطة وأحيانًا متخلفين عنها بعد مائة سنة من التطور والتنمية، فما آفة مصر عبر العقود يا دكتور؟

قلت: إن آفة مصر هى التوجه لعلاج العرض وليس المرض هروبًا من مواجهة الواقع الذى يحتاج تغييره شجاعة ومثابرة واستدامة ومسؤولية وشغفًا. ودعونى أبدأ بأن كل الحلول يجب أن يكون دافعها إرادة سياسية ومشاركة من المجتمع، وهو ما لن يحدث بدون قيادة تفهم وتوجُّه سياسى مستدام لفترة تسمح بالتأثير.

إذن البداية من السياسة وأسلوب الحكم. لن تحدث طفرة فى أى أمة بدون قيادة سياسية واعية بحقيقة الواقع ولديها حلول للتغلب على مصاعبه، وعندها العمق السياسى الذى يجعل الجماهير جزءًا من الحل وليست هى مشكلته.

قالت الفتاة، التى دائمًا ما تبحث عن الحلول: فلو افترضنا أن ما تقول صحيح، فلْنُحلِّل كيف تُدار البلاد سياسيًا حتى نضع توجهاتنا فى مكانها الصحيح، ولا ندور ونلف حول واقع نتجنب الكلام فيه أحيانًا.

قلت: فى رأيى المتواضع، وبحكم نضوج خبرتى السياسية، فإن دول العالم يحكمها- فيما عدا سويسرا ودول شمال أوروبا، ولا أستثنى الغرب الديمقراطى- واحد أو أكثر من أربعة مؤثرات:

القوة العسكرية، ممثلة فى قوتها المسلحة.

القوة الاقتصادية والمدنية، ممثلة فى شركاتها الكبرى من القطاع الخاص ومؤسساتها الاجتماعية.

الأيديولوجيا الدينية التى تسوق المجتمع بأمر الله وتمسح عقول الشعوب باسمه.

الأيديولوجيا الإنسانية التى أتى بها بشر مثل الشيوعية أو النازية أو الصهيونية.

والحقيقة أن المجتمع الغربى الذى ننظر إليه وصل إلى توليفة تفاهم بين قواته المسلحة وممثلى القوى الاقتصادية فيه، مفهوم واضح يجعل الحكم مدنيًا، ولكنه محدد المدة، وتزيد فيه مساحة الحريات وحقوق المواطنين فى إطار ديمقراطى له حدوده، ولا تتنافس فيه القوات المسلحة مع المجتمع المدنى على الحكم، حيث تدور عجلة التداول فى الحكم بوضوح، ويبقى للقوات المسلحة أثرها واحترامها وعدم التدخل فى الحكم المدنى.

قال الشاب اليسارى: ولماذا لم يحدث ذلك فى مصر ورجال الأعمال يتحكمون فى اقتصادها؟.

قلت: فى الدول النامية، ومنها مصر، المجتمع المدنى والقوى الاقتصادية مازالت تُعتبر منافسًا على الحكم وليست شريكة فيه. وكلما نما القطاع الخاص تأتى التغيرات بالثورات أو الانقلابات العسكرية لتحجيمه مرة أخرى، ثم نعته بعدم الكفاءة والفساد، بل خلق صورة ذهنية سلبية مستدامة له.

الأيديولوجيا الدينية أثبتت فى مصر غباء قادتها وعدم ملاءمتها لثقافة الشعب المصرى الذى تخلص منها فى سنة واحدة، وهو ما يُعتبر فى حكم التاريخ عملًا استثنائيًا. ولكن ما كان للشعب التخلص منها بدون القوات المسلحة، وهو ما وضع الجيش فى موقع الحاكم المطلق الذى- أردنا أو لم نرد- كان احتياجًا فى لقطة التخلص من حكم ممثلى الأيديولوجيا الدينية.

كيف يمكن للبلاد استخدام كل طاقاتها فى التنمية وكل إمكاناتها البشرية بدون توافق بين القوات المسلحة التى تحتاجها البلاد لحمايتها بكل عتادها وبين المجتمع المدنى والاقتصادى، الذى بدونه تصبح البلاد رهينة لفئة محددة فى مؤسسة واحدة؟.

وتدخل شاب آخر قائلًا: وما تعريف الدولة المدنية الحديثة التى نبحث عنها؟

قلت: الدولة المدنية الحديثة هى دولة تحافظ وتحمى كل أعضاء المجتمع بغض النظر عن انتماءاتهم القومية أو الدينية أو الفكرية وتُنمِّيهم. وهناك عدة مبادئ ينبغى توافرها فى الدولة المدنية، إن نقص أحدها فلا تتحقق شروط تلك الدولة، وأهمها:

تقوم تلك الدولة على السلام والتسامح وقبول الآخر والمساواة فى الحقوق والواجبات، بحيث إنها تضمن حقوق جميع المواطنين، ليس كهبة من الحاكم ولكن كحق من واجبه الحفاظ عليه. أهم مبادئ الدولة المدنية ألا يخضع أى فرد فيها لانتهاك حقوقه، وتتميز بتكافؤ الفرص بين المواطنين بأسس معلنة، كذلك الإيمان وتطبيق مبدأ المواطنة، الذى يعنى أن الفرد لا يُعرف بمهنته أو دينه أو إقليمه أو ماله أو سلطته، وإنما يُعرف تعريفًا قانونيًا اجتماعيًا بأنه «مواطن»، أى أنه عضو فى المجتمع له حقوق وعليه واجبات. وهو يتساوى فيها مع جميع المواطنين..

– ومن أهم مبادئ الدولة المدنية أنها لا تتأسس بخلط الدين بالسياسة، كما أنها لا تعادى الدين أو ترفضه، فرغم أن الدين يظل فى الدولة المدنية عاملًا فى بناء الأخلاق وخلق الطاقة للعمل والإنجاز والتقدم، فإن ما ترفضه الدولة المدنية هو استخدام الدين لتحقيق أهداف سياسية، فذلك يتنافى مع مبدأ التعدد الذى تقوم عليه الدولة المدنية.

فى الدولة المدنية يتم تبادل السلطة فى إطار من حرية الفرد فى التعبير والترشح والانتخاب، وتوضع كل مؤسساتها فى نطاق المحاسبية، وتتوازن السلطات التنفيذية والرقابية والقضائية فيها، فلا تتوغل سلطة على أخرى.

– وتتميز هذه الدولة بالتزام الأقلية بنتيجة الانتخابات الحرة على كل المستويات، ولكن تلتزم الأغلبية الحاكمة المنتخبة أيضًا بحقوق الأقليات التى يحميها الدستور، وبالالتزام بتداول السلطة وإجراء الانتخابات فى أوقاتها بمراقبة المجتمع المدنى، ولا مانع من مراقبة دولية لضمان ثقة الشعب فى النتائج.

الانتخابات فى الدولة المدنية ليست فقط صندوق الانتخابات، ولكن فى المناخ الحر للترشح، وعدم الإقصاء المبكر لأى معارضة مادامت تتواجد فى إطار الدستور والقانون.

والدولة المدنية مؤسساتها لا تحمى حاكمًا ولكنها تحمى الشعب والدستور.

قال شاب آخر: ما الذى تحتاجه مصر الآن؟

قلت: إن ما نحتاجه فى مصر هو الاعتراف بالواقع المحلى والعالمى، بدون القوات المسلحة تدخل البلاد فى فوضى تؤدى إلى هلاك البلد. وبدون تفهم القوات المسلحة أهمية صدارة المجتمع المدنى ونمو اقتصاده لن تقوم للبلاد قائمة، وسينهار فى لحظة ما التوازن الذى يحكم الاستقرار.

التعليقات

التعليقات