قال الشاب السياسى الذى شجعته للدخول فى انتخابات البرلمان القادم بغضب: لقد استمعت إلى الرئيس الأمريكى دونالد ترامب أخيرًا فى خطاب له يقول «إن الأحداث والكوارث التى حدثت فى الشرق الأوسط كلها سببها المباشر تدبير الخارجية الأمريكية بقياده هيلارى كلينتون».. قال بالحرف الواحد «إنه قرر الإفراج عن مراسلاتها وزياراتها السرية التى كانت تخطط إلى الفوضى فى بلاد متعددة».
وزاد قائلا: لم يكن هناك داعش، وهى المنظمة الإرهابية التى أنشأتها ومولتها الولايات المتحدة لتحدث الحروب الأهلية فى البلدان العربية.
قالت زميلته: رئيس الولايات المتحدة يعترف يا دكتور بأن بلاده أنفقت بلايين الدولارات لتقطيع العراق الذى كان على خط استعادة التوازن، والحرب الأهلية فى سوريا، وتمزيق ليبيا.. وإن الخارجية الأمريكية كانت وراء الفوضى فى مصر وركوب الإخوان المسلمين على السلطة، وهو ما أدى إلى تدخل الجيش تلبية لطلب الشعب لإزاحة منظمة دينية متعصبة تحت عنوان الإسلام المعتدل.
قال ثالث: أرفق لكم «لينك» و«باركود» بهذا الجزء من خطاب رئيس الولايات المتحدة، معترفًا بالمؤامرة على مصر وباقى دول المنطقة.. ألا يجب أن تكون هناك محاسبة دولية على هذا؟!.
ملايين المهاجرين إلى أوروبا، دمار لحضارات امتدت عبر آلاف السنين، وقتل وانهيار اقتصادى.. ينتهى بمأساة إنسانية صنعتها سياسة هيلارى كلينتون وباراك أوباما وتدخلهما..
قلت: الحق يقال إننى أعرف كل هذا وأكثر، وكنت داخل دائرة السياسة ومُطلع على كل ما حدث أثناء ثورة يناير، ولكن الاستماع إلى هذه الحقائق من فم رئيس الولايات المتحدة نفسه شىء آخر يبدو كاعتراف نهائى.
والحق أيضا- ودعونى أذكركم- أن أيًّا من هذا ما كان يحدث لولا أصابع وأياد داخلية كان عندها نفس الأهداف، وأخرى أعماها هدف إسقاط نظام الحكم والعداء له عن حاضر ومستقبل أهم دولة فى الشرق الأوسط، ومائة مليون مواطن يمثلون تاريخ الحضارة الإنسانية. إن هدم دولة مثل مصر أمرٌ له تبعات، حيث إن البناء يحتاج إلى سنين والهدم يحدث فى سويعات.
يا شباب.. المهم أن الهدف من فتح هذا الموضوع أن مصر- حماها الله- يجب ألا تدخل فى مغامرات هدم داخلى مرة أخرى. وأنا أتفهم كلام رئيس الجمهورية الذى يعلم دقائق ما حدث فى يناير ٢٠١١ وما بعدها، ويعلم أن البلاد كانت على شفا الانهيار، فالثورة هدمت الواقع وتركت فراغًا مصنوعًا مقصودًا، ملأه الإخوان بمساندة أمريكية وتمويل أمريكى قطرى، لتكتمل لوحة القضاء على العالم العربى بسقوط عقل وقلب هذه الأمة، وهو مصر.
قال الشاب الأول: هل استمعت إلى الرئيس السيسى وهو يقول إنه لا مصالحة مع من يريد خراب مصر؟ وهل توافق على ذلك؟!.
قلت: أتفهم ما قاله رئيس البلاد بأنه لا مصالحة مع من يعمل لتخريب مصر وقتل أبنائها، وأؤيد توجهه الشجاع فى هذه اللحظة التاريخية، ولكن عليكم أن تعرفوا أنه لا يوجد خصام أبدى ولا مصالحة أبدية بين الدول والتاريخ يؤكد ذلك.. وأذكر لكم حكمة قرأتها للإمام على بن أبى طالب يقول فيها: «أحبب حبيبك هونا ما، عسى أن يكون كريهك يوما ما.. وخاصم كريهك هونا ما، عسى أن يكون حبيبك يوما ما».. (بالطبع جماعة الإخوان خارج نطاق كلامى لأنهم ليسوا دولة، ولأنهم عبر التاريخ الحديث مازالوا أعداء للحداثة ولا يؤمنون بالوطن ولا يتغيرون).
فى نفس الوقت أنظر إلى الانتخابات الرئاسية الأمريكية بقلق وأثرها فى حالة فوز الحزب الديمقراطى، وهم نفس الساسة الذين تآمروا وساندوا كل الفوضى التى حدثت فى منطقتنا. ولا أنسى أن الرئيس ترامب فى الحقيقة لا يمثل توجهات حزب المحافظين التقليدية فى السياسة الخارجية، وهو نفس حزب چورچ بوش الذى قام بغزو العراق دون وجه حق، وبدأ هذا الكابوس فى المنطقة. السؤال هنا: ماذا سنفعل لمواجهة احتمال تغير موازين القوى فى صنع السياسة الأمريكية فى المرحلة القادمة، إذا أتى لحكم أكبر دولة مؤثرة فى العالم من كانوا طرفا فى صنع الفوضى وهدم البناء؟
قالت الشابة الذكية: لابد من مساحة من الحريات تُنفس عن مكنون بعض الغضب أو الإحساس بالضغط الاجتماعى، ولابد من مساحة أرحب لتقبل الرأى الآخر والبدائل التى يطرحها الخبراء فى كل المجالات حتى لا نخلق المناخ الذى يتلاعب من خلاله أعداء الوطن، ويهدمون من جديد كل الجهود الجبارة التى تبدأها الدولة الآن للبناء والتنمية، ومن منطلق الحرية سنجد إجابات وإبداعات لا تخطر على البال يا دكتور.
ابتسمت وقلت: إن للحرية جانبها السلبى وجانبها الإيجابى. وقد ألفنا ألا نفهم من حرية الإنسان إلا الجانب السلبى وحده الذى يكسر القيود، ويفك أسر السجين، ويزيل الاستبداد، وهو ما تفعله الثورات والانقلابات، ويصبح الإنسان حرًا فى أن ينطلق إلى حيث شاء. أما الجانب الإيجابى الذى بفضله تبنى الحضارات وتقام الثقافات، فهو إلى أين ينطلق، وكيف ينطلق، وعند هذه النقطة يأتى دور قادة الفكر والعلماء.
الحرية لها قيود وإلا أصبحت فوضى تزيد من الاستبداد بعد قليل من الوقت.
قالت زميلته: ما حدود الحرية؟، وأين الفاصل بين حرية الفرد وحرية المجتمع؟
قلت: إن الجمع بين حرية الأفراد المكونين لمجتمع ما، والتزامها حدود الكيان التى هى أجزاء فيه، إنما هو سر عظمة الخلق. من الكهارب داخل الذرة إلى الكواكب فى فلكها والمجرات فى تكوينها. الكل داخل تكوين أكبر يتمتع بحرية تحكمها قوانين وقواعد، وإلا انهار كل شىء.
الأساس- إذن- فى نظام الكون كله مجتمعًا فى كيان واحد، وفى كل كائن من كائناته هو حرية الأجزاء، أو قل حرية الأفراد، حرية مقيدة ومحكومة بطبيعة الكيان وليس فى ذلك تناقض.
قال الشاب: ومن الذى يضع القوانين والقواعد؟
قلت: هذا هو مربط الفرس.. فإذا وجد القانون الذى يحكم علاقة الحرية الفردية بالمجموع فهناك أسئلة: من يضعه، من يطبقه، من يراقب حسن تطبيقه، ومن يقيس آثاره؟ هل أتاح تطبيقه الفرصة للإبداع والتفوق أم زادت جرعة التكتيف فأغلقت أبواب الحريات تحت اسم حماية المجتمع؟. إن تطبيق العدالة دون انتقائية هو أساس حرية الأفراد.
قالت زميلته: يعنى لو سألناك عن روشتتك كطبيب لإتاحة حرية الفرد ونمو المجتمع.. ماذا تقول؟
قلت: مؤسسة العدالة هى المدخل الأول، ومؤسسة إنفاذ القانون هى المدخل المندمج معها، مع مؤسستى التعليم والإعلام اللتين تبنيان المعرفة بالحقوق، وتدعوان إلى التمسك بهما ووسيلتهما الثقافية فى ذلك هى الكتب والفن والسوشيال ميديا.
المعرفة والعدالة يا أبنائى هما سر الحضارة وضمان الحرية الإيجابية.
قال الشاب: وما صعوبة ذلك يا دكتور؟ إن الاتفاق على ذلك سهل!.
قلت منهيا حديثى: الاتفاق سهل، ولكن التطبيق يحتاج إلى سعة أفق وإدارة فعالة.
فهناك بلاد بلا موارد وارتفعت، وبلاد تملك من الموارد ما يبنى، وانحدرت. وانظروا لشعوب لها نفس الجينات ونفس الموارد فى ألمانيا الشرقية والغربية وكوريا الجنوبية والشمالية، والفارق بينهم كان فى إدارة البلاد، وشعوب ملأ البترول والغاز والموارد الطبيعية خزائنهم ولم يقودوا تقدما ولا تنمية.
عندما تخسر البلاد وتضيع فرصها واحدة بعد الأخرى فأنا لا ألوم الشعوب بل الحكومات.
قال الشاب مرة أخرى: تبدو الأمور غير معقدة، لماذا نعقدها ونكرر أخطاءنا ونتوقع نتائج مختلفة؟
قلت: مرة أخرى.. تراكم المعرفة والخبرة مع طاقة الشباب والشغف بمستقبل الوطن واستدامة التنمية هى الطريق.
وزدت قائلا: بكل الثقة أقول لكم إن مصر تملك مقومات الحضارة تاريخا ومستقبلا، وعلينا الإيمان بأنفسنا، وبأننا شعب عظيم.
بكل الثقة أقول لكم إن مصر تملك مقومات الحضارة تاريخا ومستقبلا، وعلينا الإيمان بأنفسنا، وبأننا شعب عظيم.