قال الشاب المتابع: لقد اتفقنا على الحوار حول اثنى عشر أساسًا لبناء مستقبل البلاد، وبدأنا بالتعليم والتنمية الإنسانية، وبناء شخصية المواطن المصرى الإيجابية، القادرة على صنع مستقبل مشرق لبلادنا. وتحدثنا عن الشباب ووضع سياسات تستوعب طاقاتهم وتوجههم حسب المراحل العمرية المختلفة. كذلك ناقشنا المدخل الاقتصادى الذى يزيد الثروة ويقضى على الفقر، كما امتد حوارنا إلى تخوفنا من المد السلفى الدينى، الذى قد يتطور فى مصر ويزداد نتيجة بداية سقوطه فى السعودية وعدم اتخاذ البلاد منهجًا واضحًا تجاه مواجهته، ونعتقد يا دكتور أن ذلك يقودنا إلى الحوار حول ماهية الدولة المدنية الحديثة التى تتكلم عنها، وأُسسها، وترسيخ مفهومها لدى الأجيال الجديدة.
قالت الشابة المثقفة: وما الدولة المدنية التى تقصدها ويقصدها الدستور؟، وقال زميلها: ولماذا نريد دولة مدنية أساسًا، ولماذا نسميها هذا الاسم، الذى يجعلها فى مقابل الدولة الدينية أو الدولة العسكرية، وهو ما يثير الحساسيات بلا معنى؟.
قلت: الدولة المدنية الحديثة لها حكومة تحافظ وتحمى كل أعضاء المجتمع بغض النظر عن انتماءاتهم القومية أو الدينية أو الفكرية، وهناك عدة مبادئ ينبغى توافرها فى الدولة المدنية، والتى إن نقص أحدها فلا تتحقق شروط تلك الدولة، أهمها أن تقوم تلك الدولة على السلام والتسامح وقبول الآخر والمساواة فى الحقوق والواجبات، بحيث إنها تضمن حقوق جميع المواطنين، ليس كهبة من الحاكم ولكن كحق من واجبه الحفاظ عليه، ومن أهم مبادئ الدولة المدنية ألّا يخضع أى فرد فيها لانتهاك حقوقه من قِبَل فرد آخر أو طرف آخر، فهناك دومًا سلطة عليا، هى سلطة الدولة من خلال آليات ناجزة للقانون، يلجأ إليها الأفراد عندما يتم انتهاك حقوقهم أو تُهدَّد بالانتهاك، فالدولة هى التى تطبق القانون وتمنع الأطراف من أن يطبقوا أشكال العقاب بأنفسهم.
من مبادئ الدولة المدنية الثقة فى عمليات التعاقد والتبادل المختلفة، فالدولة المدنية لا يوجد بها تعسف ولا نقض للتعاقدات لصالح فئة على فئة. وتتميز الدولة المدنية بتكافؤ الفرص بين المواطنين والمؤسسات بأسس معلنة، كذلك الإيمان وتطبيق مبدأ المواطنة، الذى يعنى أن الفرد لا يُعرف بمهنته أو دينه أو إقليمه أو ماله أو سلطته، وإنما يُعرف تعريفًا قانونيًا اجتماعيًا بأنه مواطن، أى أنه عضو فى المجتمع له حقوق وعليه واجبات. وهو يتساوى فيها مع جميع المواطنين.
ومن أهم مبادئ الدولة المدنية أنها لا تتأسس بخلط الدين بالسياسة، كما أنها لا تعادى الدين أو ترفضه، بل إن الدين يظل فى الدولة المدنية عاملًا فى بناء الأخلاق وخلق الطاقة للعمل والإنجاز والتقدم. إن ما ترفضه الدولة المدنية هو استخدام الدين لتحقيق أهداف سياسية، فذلك يتنافى مع مبدأ التعدد الذى تقوم عليه الدولة المدنية، كما أن هذا الأمر قد يُعتبر من أهم العوامل التى تحول الدين إلى موضوع خلافى وجدلى وتفسيرات قد تُبعده عن عالم القداسة وتدخل به إلى عالم المصالح الدنيوية الضيقة.
كذلك تتميز الدولة المدنية بمبدأ احترام القانون والديمقراطية، والذى فى جوهره يمنع أن تؤخذ الدولة غصبًا من خلال فرد أو نخبة أو عائلة أو نزعة أيديولوجية، ويتم تداول السلطة فيها فى إطار من حرية الفرد فى التعبير والترشح والانتخاب، وتوضع كل مؤسساتها فى نطاق المحاسبية، وتتوازن السلطات التنفيذية والرقابية والقضائية فيها، فلا تتوغل سلطة على أخرى. أما لماذا نريد حكمًا مدنيًا بالتعريف الذى ذكرته، فذلك لأن تداول السلطة، والرقابة على مؤسسات الدولة، والتوازن بين السلطات، هو الحامى للأفراد وحقوقهم المذكورة فى الدستور. إن إمكانية تداول السلطة تضع كل حاكم أمام لحظة تركه الحكم وحساب الجماهير، فيتَّعظ ولا يتغوَّل على الحقوق ولا يتسلَّط فى الحكم. نعم، هناك نظم ديكتاتورية حققت طفرات تنموية، ولكنها الاستثناء، ويوتوبيا الديكتاتور العادل، الذى برغم دوام حكمه لا تأخذه سكرة السلطة ولا يظن أنه فوق القانون، غير ثابتة.
قالت زميلتهم: إذن، فأى نظام حكم يحقق هذا هو نظام حكم جيد؟
قلت: نعم.
قال آخر: وما المعاكس للدولة المدنية الحديثة؟
قلت: المعاكس للحكم المدنى هو الحكم الدينى، الذى يستخدم الدين والعقيدة لتحقيق سلطات سياسية، ولا يعترف بالمواطنة إلا لمَن يدين بدينه. هو حكم ديكتاتورى متسلح بالدين.
والمعاكس الآخر هو الحكم الديكتاتورى الذى يتسلح بأيديولوچية إنسانية مفروضة على الشعب، كما كان الحكم الشيوعى الذى فشل فانهار وسقط.
والمعاكس الثالث هو أى نظام حكم ديكتاتورى يتسلح بتخويف الشعب لفرض إرادة فئة منه بالحكم.
ويشترك الثلاثة فى شىء واحد، هو عدم تداول السلطة سلميًا فى هذه البلاد إلا بثورات وانقلابات وهدم واغتيالات.
قالت الشابة المثقفة: هل تتجنب الكلام عن الدولة العسكرية يا دكتور؟
قلت: لا يا ابنتى، إن تعريف الحكم العسكرى ليس من تأليفى، فهو الحكم الذى يتسلم فيه العسكريون السلطات كلها، ويوقفون فيه العمل بالقوانين المدنية أو يُخضعونها لسيطرتهم. وهو نظام استثنائى تلجأ إليه الدول فى حالة الأزمات الطارئة واختلال الأمن، وتُقرر فيه حالة الطوارئ بصفة دائمة حتى يزول الخطر عن البلاد، وتُمنح فيه السلطة التنفيذية سلطات واسعة حتى يعود الأمن والاستقرار إلى البلد.
ولكن يوجد تعريف آخر للحكم العسكرى، الذى يلتحف بالرداء المدنى، وهو الحكم الذى يمنع المدنيين بشكل مباشر أو غير مباشر من الوصول إلى الحكم، ويُجهض العمل الحزبى والسياسى حتى لا تكون للقوى المدنية قيمة فى الانتخابات، ويتداخل فى الحكم المدنى من خلال التحكم فى المؤسسات المدنية، فلا تسير أمور البلاد أو يُتخذ قرار إلا بموافقته، ويختل التوازن بين السلطات، وتُهمَّش كافة مؤسسات الدولة.
والخطير أنه بمرور الوقت تصبح حجة البقاء فى الحكم وإيقاف تداول السلطة مرتبطة بغياب البديل أو عدم كفاءته، وهو النتيجة الطبيعية لتهميش مؤسسات الدولة المدنية.
وكثيرًا ما يفقد المجتمع ثقته فى المؤسسات المدنية، ويتولد إحساس ويقين بأن المجتمع المدنى رخو بلا نظام، ولا يصلح لإدارة البلاد.
قد يحدث فى دولة ما كل ذلك أو بعضه، وقد تؤدى الأحداث إليه، ولكن التاريخ يقول إن جميع النظم الديكتاتورية، مهما أنجزت فى لحظات- كمَن يبنى قصرًا من رمل على الشاطئ- تنتهى فى الأغلب إلى انتهاكات للحريات أو انقلابات أو حروب أو ثورات أو اغتيالات تهدم ما تم إنجازه، وتعود بالبلاد إلى نقطة الصفر مرة أخرى.
قال الشاب الأول: وماذا عن مصر؟
قلت: إن الوسيلة الوحيدة لاستدامة نجاح أى نظام حكم هى وضوح الرؤية، والسماح بتراكم الخبرات، وتداول السلطة، أما ومصر الآن تدخل مرحلة ما بعد السنوات الانتقالية، ونحن فى فترة رئاسية دستورية جديدة، سيتجدد أثناءها انتخاب البرلمان، وتُطبق فيها إجراءات الانتقال إلى اللامركزية، ويتم أثناءها انتخاب المحليات لأول مرة بعد أكثر من عشر سنوات، فإننى بتفاؤل أرى توجهًا سياسيًا واقتصاديًا واجتماعيًا محمودًا للانفتاح ورفع سقف الحريات. وهو ما نؤيده، ونعرضه للاختبار فى إطار الشرعية والقانون، وأنا شبه متأكد من أننا سنلحظ ذلك فى عام 2020 أكثر وضوحًا. أنا يا أولادى رجل جيناتى متفائلة، وأرى فى الناس أفضل ما فيهم، وشبابنا وشعبنا فيه الكثير الذى يستطيع بناء المستقبل، ولديه تراكم خبرات تستطيع أن تجعل البناء مستدامًا.