قال الشاب المتألم: مش معقول يا دكتور تكرار حوادث القطارات، وفى كل مرة نتوعد ونعد وتصرخ أجهزة الإعلام ويستقيل الوزير ويهدد رؤساء الحكومات بالقضاء على الإهمال والفساد ثم نعود للنوم حتى موعد الحادث الجديد.
وقالت شابة حزينة: أنا لم يعد عندى أمل، الكل يكذب والكل يتجمل وبلادنا تتحمل. نعمل إيه.
وهب شاب آخر صارخا فىّ: يا دكتور تكلمنا عن الأمل وعن التفاؤل وعن الثقة بالنفس والإعلام المقروء والمرئى، عناوينه كلها إنجازات ولكن الواقع يقول عكس ما نراه في التليفزيون ونقرؤه في الجرائد، نصدق مين.
قلت: شوية شوية علىّ يا شباب. أنتم متأثرون بحادث القطار- وأنا معكم- الذي استخرج من وجدانكم ألما تلومون فيه كل شىء. فتعالوا لا ننجرف وراء الإحساس فقط ونتكلم بالعقل ومنفتحون حلولا بدلا من النواح حول الحدث المتكرر بأشكال مختلفة. ودعونى أسألكم ونشخص سويا ونجد حلولا سويا.
سؤالى الأول لكم: هل تحدث حوادث القطارات عندنا فقط أم يمكن حدوثها في أي مكان في العالم برغم كل تقدمهم؟.
والإجابة جاءت سريعة، نعم تحدث الحوادث في الطائرات والقطارات والسيارات ولكن لماذا تحدث ونسب حدوثها وأسبابها هي التي تجعلنا غاضبين في مصر.
سؤالى الثانى: هل تعتقدون أن ما نعانى منه (وحادث القطار مثالا) مشكلة مالية أم مشكلة إدارية أم هي مشكلة بناء الإنسان المؤهل للوظيفة والنظام الذي يعمل فيه؟.
رد الكل في وقت واحد: إدارة وتأهيل. قلت وأنا معكم، الأموال يمكن الحصول عليها ولكن الإدارة والتأهيل المهنى والنفسى يحتاج بناء ويستلزم رؤية وتطبيقا تراكميا عبر السنين.
الآن سؤالى التالى لكم: هل وظيفة اليوم لقائد قطار حديث هي نفس وظيفة الأمس لسائق القطار منذ سنين؟.
رد الكل مقاطعين بعضهم: يا دكتور القطار مثل الطائرة الآن ومحطة السكة الحديد مثل المطار، ونحن نتعامل مع الأمر زى فيلم باب الحديد ليوسف شاهين زمان. ده شكل انتهى وتطور في العالم.
قلت: إذن نتفق أن منظومة السكة الحديد والمواصلات بشكل عام تتغير واحتياجاتنا من البشر المسؤولين عنها تتغير، ومما شاهدنا من «الإنترفيرو» مع سائق القطار أننا لم نتغير لنلائم التطور.
قالت الشابة الحزينة: نحن نشترى الأجهزة والحاسبات الآلية ولا نهتم بالبرامج المشغلة لها، نشترى القطارات الحديثة ولا نتعامل مع تركيباتها المتشابكة وآلياتها المتطورة.
قلت: ما رأيكم، ما المدخل للإصلاح، شراء قطارات جديدة وكمبيوترات حديثة وبناء عمارات شاهقة وجوامع وكنائس، أم بناء البشر القادر على استخدام الحداثة، القادر على دمج الحضارة الرقمية في وجدانه، واستيعابها ليضيف إليها ثم يكون قادرا على إبداعها أو مثلها أو أفضل منها.
قالوا: الأمر واضح من السؤال يا دكتور وكأنك تضع الإجابة في إذهاننا.
قلت: لا أقصد ذلك ولكنى أؤكد لكم أن التعليم والتدريب والإدارة والحوكمة والمساءلة جزء لا يتجزأ من تطوير الحياة وتجنب الكثير من الكوارث.
قال شاب آخر: إذن من المسؤول يا دكتور هل الشعب مسؤول عن جهله وهل من حق الحكومة لوم المواطنين كما تفعل طول الوقت على سلبيتهم وجهلهم؟.
وقالت شابة ذكية: هوه احنا بنختار حكومة ليه إذا كانت ستلقى اللوم علينا. نحن نختار حكومة لتقود وتضع الخطط وتوفر التمويل لتنفيذها بكفاءة ونختار برلمان ليسائلها لا ليطبل لها ويصفق لكل ما تفعله.
قال الشاب الثائر: نحن نستمع لخطابات القادة فيهيأ لنا أن المواطنين عليهم إيجاد الحلول. وأحيانا يهيأ لنا أن أجهزة الدولة ومؤسساتها تريد أن تقول لنا إنها تفهم والشعب جاهل، وأن المواطنين هم المشكلة أمام الحكومة لأنهم مش مقدرين ما تفعله. أولياء الأمور هم مشكلة التعليم، وسكان العشوائيات هم من اخترعوها وكأنهم لم يجبروا عليها، والأمية تصل إلى ثلث الشعب لأنهم يهربون من التعليم، والتكتوك وسيارات السرفيس تملأ الشوارع وتسبب الحوادث ليس لأن الحكومة لم توفر المواصلات العامة المحترمة ولكن لأن الشعب غلطان!!.
قلت وأنا أبتسم: أنا متفهم غضبكم ولكن من يقف في دائرة اتخاذ القرار ليس كمن يقف خارجها. ولكنى أيضا أتفق معكم أن البلد لا يحكم بالنيات الحسنة والصدق فقط بل بكفاءة الحكومات والمؤسسات، التي لا يمكن أن تتمتع بالقدرة والكفاءة بدون حوكمة إدارتها وبدون مساءلتها، حتى يحصل الشعب على أفضل من يحكمه.
إن اتخاذ القرارات وتنفيذها يؤثر إيجابا على البعض وسلبا على البعض. ولا يمكن لحكومة إرضاء كل الناس. لذلك كانت الديمقراطية هي أفضل الحلول تقريبا وليس مطلقا. وتصوروا معى حكومة تأتى بأغلبية ٥١٪ فمعنى ذلك أن ٤٩٪ غير موافقين عليها. الديمقراطية لا تعنى فقط فوز الأغلبية بالحكم بل أيضا احترام الأقلية لنتائج الاختيارات.
وإن الأقلية، مهما كان حجمها، عليها أن تقنع الناس بمنهجها ليس بالعافية ولا بالثورة ولا الانقلاب بل بتنوير الناس بالبدائل وإقناعهم بها ليأخذوا أصواتهم في انتخابات حرة شريفة تالية.
ضحك أحد الشباب قائلا: وإذا أغلقت السلطة المنتخبة الأبواب أمام الرأى الآخر واعتبرت أن المعارض عدو للبلاد ويتم التعامل معه بهذا المنطق فماذا نفعل؟.
قلت: هنا تأتى أهمية استقرار تداول السلطة في إطار دستورى يجعل استمرار أي وضع سياسى مستحيلا حتى لو كان أعظم نظام وأنجحه، ويسمح بالمشاركة الحرة في الاختيارات.
صدقونى يا شباب هذه الأمور لا تحدث للبلاد بقرار ولكنها تحتاج تجارب ونجاحا وفشلا ثم استقرارا وإيمانا بأن التداول السلمى للسلطة هو مفتاح الأمان والتطوير، لأنه الحالة الوحيدة التي تتراكم من خلالها أفضل الممارسات وينزوى ويختفى أسوؤها.
ولكن نعود لموضوعنا الأول وهو حادث القطار الذي أرى أنكم قد أجبتم عن تساؤلاتكم فيه.
إن الإجابة تكمن في التوافق بين العلم والمعرفة وبناء الإنسان، والتدريب والانسجام مع تغير المعطيات الذي يحدث بسرعة فائقة هذه السنين. فمرحبا بنظام إدارة الطائرة الأرضية التي كانت تسمى في زمن ماض قطارا، وبقادتها المختلفين علما وتأهيلا، وإدارتها المسؤولة رقميا عن تشابكاتها. حوكمة الإدارة والتنمية الإنسانية هي الحل.
والتعليم، التعليم، التعليم يا سادة هو مدخلها.