د بدراوي يكتب في المصري اليوم: اللغة والمواطنة والهوية
سألنى أحد شباب الحالمين: ما المقصود بالمواطنة يا دكتور؟.. نتكلم كثيرا عن المواطنين والمواطنة، وأشك أن كل أفراد المجتمع عندهم نفس التعريف للكلمة أو نفس الفهم للمعنى.
وقال آخر: وماذا عن الهوية أيضا. وهل يعنى أن كل مواطنى كل دولة يكون لديهم هويات مختلفة. ألسنا كلنا ننتمى إلى هوية واحدة هى الإنسانية.
وقالت شابة فيلسوفة: يحيرنى أننا نسعى إلى خلق مواطن عالمى من ناحية، وحصره فى حدود بلده من ناحية أخرى. أليس هذا تناقضا؟.
وقال رابع: أساسا ما هو تعريف الوطن قبل أن نتكلم عن المواطنة؟.
قلت: إن تعريف الوطن أوسع من مجرد مكان، وهذا ما فسره د. جمال حمدان فى كتابه «شخصية مصر» حيث قال: إن الوطن علاقة بين الجغرافيا والتاريخ، وإنه توافق للزمان والمكان فى نفس الإنسان. إنّ الوطنية عبارة عن مشاعر، ومن يعرف المعنى الحقيقى للوطن يتولد عنده الانتماء إليه، وتتولد عنده طاقة إيجابية تحُثّه على العمل والإنتاج والتفاؤل رغم كل الأزمات والمشاكل.
الوطن يا شباب ليس مجرد مكان، ليس فندقًا نعيش فيه عندما تكون خدماته جيدة ونتركه عندما تقابلنا التحديات. إننا نملكه كما تَملَّكه آباؤنا وأجدادنا، ونحن مسؤولون عنه وعن رفعته.
وفى اعتقادى أن مفهوم الانتماء للوطن هو الارتباط الفكرى والوجدانى الذى يمتد ليشمل الارتباط بالأرض والتاريخ والحاضر والمستقبل. والإنسان من طبيعته يحب الانتماء، فهو ينتمى إلى أسرة وإلى قرية ومدينة وإلى مدرسة وجامعة وإلى شعب وأرض. وإلا ما معنى أن يحب الفرد ناديًا بعينه حتى لو يخسر، أو أن يشجع فريق مدينته وبلده، بل يتطرف أحيانا فى هذا الحب. أعتقد أن الانتماء لشىء طبيعة إنسانية هو بمثابة شحنة تدفع المرء إلى الانفعال والفخر لنجاح من ينتمى إليه وكأنه امتداد لشخصه، ويدافع عنه وقد يموت من أجله.. ولا شك أن الثقافة والتعليم والإعلام لها دور كبير فى تراكم هذا الحب بمرور الزمن ليصبح جزءا مكونا لكل واحد منا.
وتختلف درجات الانتماء لكل إنسان من الجزء إلى الكل، والكل الوحيد للجميع هو الوطن.
كذلك فإننا يجب ألا نفصل بين الهوية والمواطنة التى هى بمعناها الأساسى علاقة الفرد بالوطن الذى ينتسب إليه، والتى تفرض حقوقًا وواجبات، والمواطنة الإيجابية لا تقتصر على مجرد الدراية بالحقوق والواجبات فقط، ولكن الحرص على ممارستها من خلال شخصية مستقلة قادرة على حسم الأمور لصالح نفسه وأسرته ومجموع الشعب الذى ينتمى إليه.
والانتماء للوطن لا يعتمد على مفاهيم مجردة، وإنما على خبرة معاشة بين المواطن والوطن. فعندما يستشعر المواطن من خلال معايشته أن وطنه يحميه، ويمده باحتياجاته الأساسية، ويحقق له فرص النمو والمشاركة مع التقدير والعدل، تترسخ لديه قيم الانتماء له ويعبر عنها بالعمل البناء لرفعته.
أما الهوية فهى مصطلح يستخدم لوصف مفهوم الشخص وتعبيره عن فرديته وعلاقته مع الجماعات (كالهوية الوطنية أو الهوية الثقافية). يستخدم المصطلح خصوصا فى علم النفس الاجتماعى.
الهوية هى مجمل السمات التى تميز شيئًا عن غيره، أو شخصًا عن غيره، أو مجموعة عن غيرها. كل منها يحمل عدة عناصر فى هويته. عناصر الهوية هى شىء متحرك ديناميكى يمكن أن يبرز أحدها أو بعضها فى مرحلة معينة، وبعضها الآخر فى مرحلة أخرى.
الهوية الشخصية تعرف شخصًا بشكله واسمه وصفاته وجنسيته وعمره وتاريخ ميلاده ومكان ميلاده. أما الهوية الجمعية فتدل على ميزات مشتركة أساسية لمجموعة من البشر، تميزهم عن مجموعات أخرى. أفراد المجموعة يتشابهون بالميزات الأساسية التى كونتهم كمجموعة، وربما يختلفون فى عناصر أخرى لكنها لا تؤثر على كونهم مجموعة متناسقة.
العناصر التى يمكنها بلورة هوية جمعية كثيرة، أهمها اشتراك الشعب أو المجموعة فى الأرض، اللغة، التاريخ، الحضارة، الثقافة، وغيرها.
عدد من الهويات القومية أو الوطنية تطور بشكل طبيعى عبر التاريخ، وعدد منها نشأ بسبب أحداث أو صراعات أو تغيرات تاريخية سرّعت فى تبلور المجموعة.
قال الشاب الأول: أعتقد يا دكتور أن للغة دورًا فى تأكيد الهوية، وأخشى على مصر ضياع هويتها من مدخل الأمية وتدنى تعليم اللغة العربية.
قلت: معك حق فى تخوفك، وحيث إن الهوية كما ذكرت تتحرك وتتغير عبر الزمن، لكن تظل اللغة مكوناً أساسياً لها.
إن الهدف من تعليم اللغة العربية ليس فقط محو الأمية شكلا، ولكن المضمون هو الإيمان بأن تعلم اللغة عظيم الأثر على كل مناحى الحياة فى أى أمة، إنها الوسيلة التى تنقل إلينا تاريخنا، وتوثق حاضرنا، وتنقل إلى الأجيال القادمة حضارتنا، وليس الهدف كما قلت هو القراءة والكتابة فقط، فهو هدف ضيق قصير المدى، لكن علينا أن نفهم أن هذه اللغة هى وسيلة فهمنا لبعضنا البعض، إننا لا نستطيع أن نفهم أنفسنا ولا بعضنا البعض بدون التفكير، ونحن لا نفكر فى فراغ، بل يفكر العقل بلغة ما، ويصور أفكاره لديه وللآخرين، مستخدمًا الألفاظ والجمل والصور التى ترسمها اللغة وتنقلها من فرد إلى آخر، أو الاحتفاظ بها فى الذاكرة.. ومن كل هذا تتكون الهوية.
وحتى تترسخ فى وجدان الطفل لغته الأم، فمن الواجب أن يتم تعليمها على أعلى مستوى وقياس قدرات الأطفال على الكتابة والقراءة والفهم من سن ثمانية إلى تسعة أعوام باختبارات قياس علمية.
إن اللغة لحياة الفرد ليست فقط أداة للتعامل فى المجتمع، بل هى وسيلته للتفكير والحس، وهى وسيلته لنقل أفكاره والاستفادة من أفكار الآخرين.. وهى وسيلته فى الفهم والتقدير والتقييم ثم الاختيار من البدائل.
قال الشاب: وهل معنى ذلك أن تعلم لغة ثانية وثالثة يصبح تهديدا للهوية؟
قلت: تعلم لغة ثانية أو استخدام المراجع الأجنبية لا يهدد الهوية، ولا يهدد معرفة اللغة الأم أساسا إلا لو كان تعليم اللغة الأم ناقصا وضعيفا. إن الطفل يستطيع استيعاب لغات متعددة أكثر من البالغين، ويجب ألا نتمسح فى أن تعليم لغة ثانية سيتغلب على لغته العربية ويجعل تفكيره وهويته مرتبطة بأمة أخرى. إننا كمن لا يريد دخول ميدان العلم مع الآخرين خوفا من الهزيمة ونستحسن فوزنا بدون منافسة.
إن الهوية كما قلت مرتبطة باللغة، ولكنها أيضا مرتبطة بالمعايشة فى الفصل، وبما يدرسه التلميذ من تاريخ وجغرافيه، وبوجدان يتكون داخل الفصل والمدرسة وفِى البيت مع الأسرة.
إن أطفالنا الذين يتعلمون اللغة الثانية فى مدارس الحكومة البالغة أكثر من ٥٠ ألف مدرسة لا يتكلم أغلبهم اللغة العربية الصحيحة ولا اللغة الأجنبية الصحيحة، والحقيقة أن تشتيت الهوية له أسباب أخرى تأتى من المعايشة داخل المدارس بتأثير أفكار وهوية سلفية اجتاحت الثقافة المصرية وليس هذا الحوار مكان مناقشتها.. الهوية المصرية تأثرت سلبا بانخفاض سقف الحرية وتدنى تأثير قوة مصر الناعمة على الشعب.. إن العقل الجمعى لأمتنا يحتاج إلى الإفاقة نحو أهمية التعددية، واحترام المواطنة بغض النظر عن الدين أو الجنس، وإلى أننا ننتمى تاريخيًّا إلى أول دولة نشأت فى تاريخ البشرية، وأننا نحمل چينات الحضارة المصرية العظيمة والحضارة القبطية والإسلامية.