حسام بدراوي
قال الشاب النابه: لماذا يقف المتهمون فى المحاكمات العلنية فى مصر فى قفص، سميناه قفص الاتهام، ولا نرى هذه الظاهرة فى البلاد المتقدمة؟
قلت: حسب فهمى أن القانون لا يلزم القاضى بذلك إلا لحماية المتهم من طرف آخر أو من جمهور أدانه قبل المحاكمة، وقد أكون خاطئا فى فهمى.
قال: ولكن هذا أصبح معتادا وأفهمه فى بلاد لا توجد فيها وسائل حماية للمحاكمات، ولكننا بلدٌ الأمنُ يمسك فيه بزمام الأمور.
قال شاب آخر: وما معنى وقوف رئيسين للجمهورية فى قفص الاتهام الذى تفننا فى أن نجعله زجاجيا، والآن غير قابل لنقل الصوت إلا من خلال أجهزة وتقنيات، وهم متهمون ولم تثبت إدانتهم. أليس هذا إهانة للمنصب الرفيع؟
قالت الشابة المتحمسة: أعتقد أن ذلك هدفه إعطاء رسالة للشعب بأنه لا أحد فوق القانون.
وقال آخر: يستاهلوا بعد كل ما فعلوه فى الوطن.
قلت: يعنى إنت خلاص حكمت عليهم بدون تدقيق، ومنطقك يقول إنه لا داعى للمحاكمات، وتعالوا ندين المتهمين من خلال استفتاءات أو استطلاعات رأى، ونضع جهاز العدالة كله على الرف. اسمعونى وتعالوا نفكر معا.. هل المتهم برىء إلى أن تثبت إدانته، أم أن المتهم مدان إلى أن تثبت براءته؟ ميزان العدل يقول إن جهة الاتهام هى النيابة، ومَن جمع الأدلة الأولية لاتهام شخص ما هو أجهزة الشرطة.. والجهتان أعتبرهما سلطة تنفيذية، أما مؤسسة العدالة فهى سلطة مستقلة لا تأتمر بأمر حاكم أو وزير، وهى الجهة التى تتوافر لها وأمامها كل وثائق الاتهام ودلائل البراءة، وهى التى تحكم باسم الشعب إن كان المتهم بريئا أم مذنبا. فى هذه المرحلة كيف يجب أن نتعامل مع المتهم.. ولنفترض أن مدة المحاكمة طالت، وأن المتهم برىء فى النهاية، هل يسكن السجون وتُنتهك حريته أم علينا الانتظار قبل فرض العقوبة؟
ولماذا إن كان المتهم ليس مسجونا تحت ذمة التحقيق يتم إدخاله القفص أثناء المحاكمة، إلا إن كان المقصود إهانته وتثبيت الانطباع فى وجدان المجتمع والإعلام بأنه مجرم؟!
أعتقد أننى أحيانا أشك أن مجرد الاتهام أصبح عقوبة، خصوصا فى العمل الاقتصادى والسياسى، وأن العدالة الانتقائية أشد وطأة على حرية المواطنين من انعدام العدالة.
وحتى فى عقوبة السجن، فالهدف منها إصلاح وتهذيب وتعليم كما كنا نسمع، وتكبيل حرية المذنب لا يعنى معاملته معاملة سيئة، أو نومه فى مكان غير مناسب، أو تكديره. العقوبة هى حجب الحرية وليست عقوبة بدنية.. وللأسف فإن الكثيرين من المتطرفين تطرفوا داخل السجون وليس خارجها.
لقد كنت عضوا نشيطا داخل المجلس الأعلى لحقوق الإنسان لمدة ٧ سنوات، تعلمت فيها وقرأت ودرست وفهمت الكثير الذى غيّر بعض مفاهيمى السياسية فى التعامل والتفرقة بين الحقوق والخدمات، والتفرقة بين فلسفة العقوبة ووسيلة تطبيقها. ولاحظت كثيرا التزيد فى إهانة المواطن أثناء محاكمته وخلال زمن عقوبته.
العدالة هى أهم محور من محاور تطبيق الديمقراطية، وبدون تطبيق ناجز لها واستقلالها عن السلطة التنفيذية والتشريعية يصبح انتهاك حقوق المواطنين حتميا.. الميزان يكمن فى فلسفة فعل كل شىء والهدف المراد منه. ولن تقوم لبلادنا قومة اقتصادية أو سياسية بدون ثورة إصلاحية فى مؤسسة العدالة.
وهنا أدخل عامل الزمن، لأن العدالة التى تأتى متأخرة تفتقر لكثيرٍ من قيمتها، ولأن القاضى الذى يحتاج التمسح بالسلطة التنفيذية لزيادة موارده يضرب استقلالية القضاء فى مقتل.
وكما أقول فى التعليم وأنادى، أقول هنا، العلم والتعلم والمعرفة والتواصل الإلكترونى، والرقمية، والتدريب، ومراجعة النفس، ودراسة الأخطاء ومنع تكرارها.. هى وسائل الأمم الناهضة والحريصة على مستقبلها.
رجال القضاء يجب أن يتوافر لهم المناخ والموارد التى تجعلهم بدون احتياج أبدا، فهُم محور تطبيق الديمقراطية، وهم أساس الحريات.
وعليهم أن يرتفعوا إلى مستوى ظنوننا العالية بهم، فلا ينساقون وراء عادة، ولا يتأثرون بضغوط سلطة، ولا انطباعات مجتمعية وإعلامية.. وهم أملنا فى ذلك.