الأحد , 22 ديسمبر 2024
الرئيسية / بقلم د حسام بدراوي / بعد 25 يناير / د. حسام بدراوى يكتب: أناسيكلوسيس

د. حسام بدراوى يكتب: أناسيكلوسيس

د. حسام بدراوى يكتب: أناسيكلوسيس
 
استكمالا للحوار مع شباب من الحالمين بالغد حول الانتخابات الأمريكية ونتائجها، شاركتهم فيما استمعت إليه فى ويبينار فى جامعة برينستون الأمريكية من الدكتورة آنا جريزمالا باس، الأستاذة فى العلاقات الدولية، والدكتور فرانسيس فوكوياما المعروف بكتابه «نهاية التاريخ» وآخرين، حول ما يسمونه الترامبيزم، نسبة إلى الرئيس ترامب استنباطًا من الشعبويه «populism» التى تمثل منهجه.
 
ضحك الشباب، وقال أحدهم: زدنا معرفة يا دكتور..
 
وقالت زميلته: ما معنى أناسيكلوسيس، وما هى الشعبوية التى يقصدونها؟
 
ابتسمت وقلت: تعالوا نفعل كما تعودنا ونبدأ بالتعريفات والعودة الى المراجع ثم نناقش الموضوع.
 
أناسيكلوسيس (أو الدورانية) هى نظرية فى علم الاجتماع والسياسة تدّعى أن تطور النظم السياسية لها حركة دورانية. وتستند النظرية على أن هنالك ثلاثة تصنيفات مبنية على نظم الحكم الدستورى فى اليونان القديم، وهى: الحكم من قبل شخص، الحكم من قبل قلة، والحكم من قبل عدد كثير.
 
أناسيكلوسيس أو الدورانية تنص أيضاً على أن هنالك ثلاثة نظم أساسية من الحكم تعتبر «حميدة»، وهى: (الملكية، والأرستقراطية، والديمقراطية)، وهى بطبيعتها ضعيفة وغير مستقرة، وتميل إلى التدهور بسرعة.
 
وهنالك ثلاثة نظم أساسية من الحكم تعتبر «خبيثة»، وهى: (الطغيان، الأوليغاركية، وحكومة الدهماء). و«حكومة الدهماء» تشير إلى حكم الرعاع، وليس مفهوم الديمقراطية الذى نعرفه الآن.
 
وفقًا للنظرية، فأنظمة الحكم «الحميد» تضع مصلحة الجميع فى الحسبان، فى حين أن أنظمة الحكم «الخبيث» تهتم فقط بفئة قليلة من الناس. ومع ذلك فإن الفساد السياسى يجعل كل الأنظمة تتدهور وتتحول من نظام إلى نظام آخر بحركة دائرية.
 
قالت الشابه النابهة: ما هو أصل النظرية ومفهومها؟
 
قلت: أصل النظرية يرجع إلى المؤرخ والسياسى اليونانى بوليبيوس، وقد استخدمها وطورها أفلاطون وبعده أرسطوطاليس فى كتبهم.
 
النظرية تبين أن الحركة الدورانية السياسية بدأت مع تطور الإنسان فى المرحلة البدائية التى كان يعيش فيها الإنسان فى القبيلة. وكل قبيلة تلجأ إلى اختيار ملك لها يكون هو الأكثر حكمة. ولكن بعد ذلك يورث الحكم الملكى إلى الأبناء الذين لا يكونون بنفس الحكمة، والذين سوف يستغلون سلطتهم ويصبحون مستبدين ويتحول نظام الحكم من الملكية إلى الطغيان.
 
بعد مرحلة الطغيان الفردى ستخرج فئة قلة من الناس تكون مستاءة من ذلك الاستبداد وتنقلب عليه وتُحول الطغيان إلى نظام جديد وهو الأرستقراطية ويبدأ حكم القلة. وكما هو الحال فى الملكية، سيورث الأرستقراطيون السلطة إلى أبنائهم الذين سيستبدون بالحكم وتتحول الأرستقراطية إلى الأوليغاركية التى تُعرف بأنها حكم من قلة تعتمد على الفساد والاستبداد.
 
وتدور الأيام، وبعد ذلك يصل الشعب إلى مرحلة الانفجار ويطالب بحكم أوسع يشترك فيه أغلب الناس، وهذا الحكم هو ما نسميه (حكم من قبل العدد الكثير من الشعب).
 
ومع الوقت سيطالب الناس بأشياء غير معقولة معتقدين أنهم يستحقونها، وبلا تخطيط، ويصبح ممثلو الشعب عبارة عن ديماجوجيين يقولون للناس كل ما يريدون أن يسمعوه بدلاً من قول الحقيقة أو المعقول.
 
وتتحول الديمقراطية إلى حكم الدهماء والغوغاء. وطبيعى مع هذا الحكم أن تنتج الفوضى ويكثر العهر السياسى من أجل استمالة الرعاع ويصبح هنالك صراع بين الديماجوجيين من أجل السيطرة على الفوضى. وتتم بعدها تصفية بقيتهم ويخرج من بينهم شخص يطالب بسلطة مطلقة بما أنه هو المنقذ، وتنتهى هذه الدائرة بالرجوع إلى حكم الفرد الذى يدمج الملكية بالطغيان لصالح الشعب حسب وجهة نظره.
 
قال الشاب الأول: ومن هم الغوغاء والرعاع والدهماء؟
 
قلت: الغوغاء فى اللغة الصوت والجلبة والكثير المختلط من سفلة الناس.. أما الدهماء فهم عوام الناس، ويقال رجل من الدهماء، أى مشعوذ يتلاعب بعقول الناس. أما الرعاع فهم سفلة الناس وجهلتهم وسفهاؤهم. وللأسف الشديد فإن الغوغاء منهم شرائح تنتمى إلى السوشيال ميديا الآن، وأصبح لهم تأثير ومكانة لا يستحقونها. فمنهم من هو متدنى الأخلاق، ملوث الفكر، ينعق مع كل ناعق، ويسب كل مفكر.
 
وعلى طول ما قرأت فى أحداث التاريخ العربى وما كان للغوغاء أو السوقة من أدوار لم أجد لهذه الفئة دورًا مشرفًا يستحق الإشادة أو الثناء بل نجدهم هم من يقوم بالنهب والسلب والتعدى على الأملاك والأعراض والجرأة على الدماء وإذكاء النعرات القبلية والمذهبية. هذا مسلك الدهماء الذين يشكلون فى كل مجتمع نسبًا متفاوتة حسب تحضر المجتمع ورقيه.. هذه الفئة موجودة فى العشوائيات وبعض التجمعات البشرية، مثل تجمعات بعض المهن غير المستقرة وغير المنضبطة بسلطة القانون والنظام، ومثل هذه الفئات تحمل الاستعداد القيمى لممارسة الفوضى والتحفز لها عند كل مناسبة مواتية.
 
وللأسف هنالك دائما من يعى أهمية هذه الفئة فيحتوى مسلكها من خلال خطاب دينى مبرمج أو خطاب أيديولوچى منمق، يحول النقمة باسم الحاجة أو التطلع بدون قيم إلى نقمة باسم الأيديولوجيا المتبناة، ويستثمر التعصب الفئوى والقبلى والعرقى والإقليمى بين فئات الغوغاء والسوقة لصالح التعصب الأيديولوجى ويستعملهم كمطايا لأهداف فئة معينة أو فئات ما كانت لتصل لأهدافها لولاهم فهم الوقود المحرك للفوضى الاجتماعية وللنعرة القبلية والتعصب الإقليمى.
 
قالت الشابة: وما علاقه كل ذلك بالشعبوية والترامبيزمية؟
 
قلت: ما سمعته وشاهدته فى هذا الويبينار يبدأ بتعريف الشعبوية populism، وأن أسباب ظهورها هو فشل النظم الحاكمة الحالية وكافة الأحزاب فى تحقيق طموحات وحقوق الشعوب. والحقيقه أن التوجه الشعبوى يهدف فى النهاية إلى إحداث الفوضى باستخدام هذه المداخل، عالمًا بأن حكم الغوغاء دائمًا غير مستدام، وأنه فى النهايه فهناك فئة ستستأثر بالحكم لصالح نفسها وتعيد الغوغاء إلى موضعهم. الحكم الشعبوى يبدأ بالتشكيك فى القضاء ومؤسسات الرقابة وإنفاذ القانون، ويستخدم الإعلام لتقليب فئات الشعب على بعضها، وهو ما يفعله الرئيس ترامب من وجهة نظرهم الآن.
 
الحكم الشعبوى يبدأ فوضويًا وينتهى تسلطيًا.. بعد تآكل مؤسسات الديمقراطية، وتشكيك الشعب فيها.
 
ويقول الكاتب محمد أسامة فى مقال له عن الشعبوية مسايرًا ما شاهدته فى ويبينار جامعه برينستون:
 
«عند تأمل الظهور الأول لمصطلح الشعبوية نجده لصيقًا بممارسة تحمل عنصرًا لا يكاد منظر يغفله، وهو الموقف المعادى للنخب، سواء كانت نخبًا اقتصادية أو سياسية أو ثقافية أو جميعها. إلا أنه فى كثير من الأمثلة اللاحقة نجد تحديًا واضحًا لتلك الرؤية المبسطة للحركة الشعبوية باعتبارها مجرد معاداة للنخب، إذ إن ترامب فى الحالة الأمريكية، أو برلسكونى فى إيطاليا، أو لوبان فى فرنسا، على سبيل المثال، هم القادة الشعبويون رغم كونهم نخبًا متأصلة بطريقة أو أخرى.
 
لذلك، إن أردنا مزيد دقة يسعنا القول إن الشعبوية معاداة للنخب نافذة الإرادة سياسيًا فى المقام الأول، باعتبارها النخب الأقدر- من وجهة نظر العامة- على حل الأزمات لولا تضارب المصالح، كما أنها النخب التى تتلقى اللوم الديماجوجى من أعدائها الطامحين إلى الصعود. ما إن يصل الشعبوى إلى الحكم حتى يجد نفسه فى مأزق، فإما أن يجرى حلولًا ديماجوجية للحفاظ على مؤيديه على حساب الدولة، وإما البحث عن غريم آخر بعدما أطاح بالساسة الحاكمين فى المعركة الانتخابية».
 
وأضيف إليكم يا شباب أن ما يفعله الرئيس ترامب الآن فى غايه الخطوره على النظام الديمقراطى فى كل العالم.. فالديمقراطية ليست فقط فوز الأغلبية بالحكم لمدة محددة، بل بقبول الأقلية بنتائج الانتخابات.
 
قالت الشابة: وماذا لو رفض ترامب تسليم السلطة؟
 
قلت: لقد استمعت إلى رئيس أركان الجيش الأمريكى الچنرال مايك مايلى وهو يقول، منذ أيام، إن القوات المسلحة الأمريكية لا تقسم على حماية شخص أو حزب أو حاكم أو طاغية، بل تقسم على حماية الدستور الأمريكى فقط، وهى تذكير للرئيس الرافض لنتيجة الانتخابات بموقف الجيش.. ولكن ترامب حتى فى حالة فشله فى مسعاه فقد قسم الشعب، وأدخل نبتة الشر إلى ما كان قد استقر فى وجدان المجتمع عبر سنوات كثيرة من احترام لنظامهم الديمقراطى.

التعليقات

التعليقات