الأربعاء 14-07-2010
المصري اليوم
بدأنا هذه المجموعة من المقالات برصد تسعة تحديات ذكرتها فى مقالتى السابقة تأتى فى مقدمة ما يفرضه تطوير التعليم والواقع السكانى فرض علينا مواجهتها:
وهى باختصار: 1) ضعف ثقة المجتمع بمؤسسات التعليم الرسمية،2) ضعف الثقة فى الركن الأساسى للعملية التعليمية وهو المعلم،3) انخفاض درجة إتقان اللغات بما فيها اللغة العربية، 4) انخفاض حجم الأنشطة الطلابية، 5) تسارع الزيادة فى المعارف، 6) الانتشار الجغرافى غير المسبوق للمدارس فى كل مصر، 7) وجود أكثر من فترة يومية فى حوالى 20% من المدارس، 8) ضغط الامتحانات العامة بشكلها الراهن، 9) تراكم القوة المقاومة للتغيير والتطوير.
وذكرنا خمسة أسباب رأيت أن معظم هذه التحديات ترجع إليها، ورصدنا تداعيات ثلاثة ستحدث فى حال عدم مواجهة هذه التحديات بالإصرار اللازم والأولوية الواجبة، وأشرنا إلى بعض التحديات التطبيقية، وفى هذا المقال سوف نتناول بشيء من التفصيل التحدى التطبيقى الأول، وهو ..
تحدى عدم ملاءمة الموازنات المخصصة للتعليم لاحتياجات التطوير الشامل:
فى حين يعتبر الإنفاق على التعليم، هو أحد أكبر مجالات الإنفاق الاجتماعى فى مصر، إلا إنه يمثل تحديا كبيرا، لأنه مازال تمويلا حكوميا فى مجمله يتنافس مع مصارف أخرى للإنفاق داخل موازنة الدولة المحدودة بالنسبة لعدد السكان. وقد شكل الإنفاق على التعليم نحو 12.6% من موازنة 2006/2007 وأصبحت هذه النسبة 10.4% فى موازنة 2008/2009. وهو ما يتضح عند النظر إلى تطور الإنفاق على التعليم خلال الأعوام 2002/2003 وحتى عام 2009. كما أن الإنفاق على التعليم كنسبة من الناتج المحلى الإجمالى، بلغ نحو 3.3% عام 2008/2009 و3.5% عام 2007/2008 و4.1 % لعام 2006/2007 مقابل 4.8%، 4.2% لعامى 2004/2005، 2005/2006.
ويفسر خبراء المالية الانخفاض النسبى فى موازنات التعليم فى السنوات الأخيرة إلى تضمين الموازنة العامة للدولة اعتبارا من 2005/2006 قيمة الدعم غير المباشر للمنتجات البترولية، مما أدى لتراجع الأهمية النسبية لمكونات الإنفاق الأخرى، وعلى رأسها التعليم، بالرغم من زيادة هذا الإنفاق الرقمى عاما بعد عام. ولقد بلغ الإنفاق على التعليم 2008/2009 حوالى 36 مليار جنيه، إلا أن هذه الموازنة تظل غير قادرة على تلبية احتياجات التعليم وتطويره، تنفيذا لسياسات واضحة للتوسع فى الاستيعاب، ورفع الجودة وتحقيق نقلة نوعية تتراكم عبر السنين لتحقيق النهضة.
وتعد موازنة التعليم فى مصر مرشحة للزيادة خلال الأعوام المالية القادمة، كنتيجة مباشرة لصدور قانون الكادر الخاص للمعلمين، والذى سيؤدى لا محالة إلى زيادة فاتورة التعليم فى مصر بنسبة ذات أهمية. الجدير بالذكر أن ضم معلمى الأزهر إلى الكادر الخاص، قد يقود إلى زيادة فعلية للإنفاق الحكومى على التعليم فى مصر، إلا أن بيانات قطاع التعليم فى مصر لا تشمل التعليم الأزهرى، الذى تتعدى موازنته السنوية 2.5 مليار جنيه، كنتيجة لتطبيق النظام الجديد لتبويب الموازنة العامة للدولة، الذى وضعه فى قطاع الشباب والثقافة والشؤون الدينية.
وعلى الرغم من تزايد الإنفاق على التعليم فى مصر، على النحو السابق الإشارة إليه، فإن الجزء الأعظم من هذا الإنفاق يمول الأجور فقط، فقد مثلت الأجور ما يربو على 83% من إجمالى الإنفاق على التعليم قبل الجامعى فى مصر، خلال العام المالى 2006/2007، وهذه النسبة مرشحة للزيادة كنتيجة مباشرة لتطبيق الكادر الخاص. فى المقابل بلغت حصة الإنفاق على المستلزمات السلعية والخدمية الخاصة بقطاع التعليم قبل الجامعى، حوالى 13% فى المتوسط، خلال السنوات المالية الخمس الماضية، وهذه الحصة تعد متدنية للغاية، وبالأخص إذا ما أخذنا فى الاعتبار أن الجزء الأكبر من هذه الحصة تذهب إلى أنشطة ذات طبيعة إدارية، وإنفاق مباشر على المرافق العامة من كهرباء ومياه وتليفونات، فى مقابل جزء يسير يتم إنفاقه على الخدمة التعليمية ذاتها، والأنشطة المدرسية وطرق التدريس والتدريب والبحث والتطوير.
الأمر الأكثر خطراً، أن الزيادة المتنامية فى الإنفاق على التعليم قبل الجامعى فى مصر، هى بالأساس زيادة فى مخصصات الأجور للعلاوات الدورية والترقى والتوظيف، فى حين تظل معدلات الزيادة فيما يتعلق بشراء السلع والخدمات غير متناسبة على الإطلاق مع تزايد معدلات التضخم، وهو ما يقود إلى تدهور فى الأنشطة التعليمية وغير التعليمية على مستوى المدارس، خصوصا فى ضوء محدودية حصيلة الرسوم الدراسية.
إننى عندما أتحدث عن تحدى التمويل المتاح للتعليم، أعلم أن التطوير ليس مرتبطا فقط بهذا، لكنى أعلم أيضا أن عدم توافر التمويل اللازمة عائق جوهرى فى النظم الكبيرة التى تستوعب ملايين التلاميذ.
وسأناقش هنا سبع ملاحظات رئيسية فى إطار التطبيقات العملية لتمويل التعليم فى مصر وهى:
أولا: انخفاض الموازنة بنسبة من الدخل العام بالرغم من زيادتها الرقمية عاما بعد آخر، ويرجع ذلك إلى نقص فى تمويل الدولة وإلى عدم الاعتماد الحقيقى على مصادر أخرى أو الشراكات التى تدعم التمويل. إن هذا الانخفاض الذى يبرر دائما بمحدودية الموارد يتواكب مع أمر واضح لدينا فى أن الزيادة فى الموازنة فى السنوات المقبلة لا يتوقع أن تسد وحدها الفجوة التمويلية إذا ما أخذ فى الاعتبار الزيادة السكانية والتضخم والحاجة الملحة لتحسين نوعية التعليم. ولا يسعنى هنا إلا مراجعة حكمة الرئيس نهرو عندما قال للشعب الهندى عام 1957 إن الهند بلد فقير جدا لدرجة أننا يجب أن ننفق على التعليم بسخاء.
ثانيا: ضعف مشاركة القطاع الخاص والمجتمع، حيث لا يزال دور التعليم الخاص فى منظومة التعليم فى مصر محدودا ولا يزيد الطلاب المدرجون فى التعليم الخاص بمختلف مراحله على 8%. كما أن هناك قطاعات وتخصصات تكاد تختفى فيها استثمارات القطاع الخاص كلية مثل التعليم الفنى. ومازال المجتمع يعانى من تضارب الرؤى حول دور القطاع الخاص بالرغم من وضوح الرؤية لأهمية مشاركته الإيجابية للتنمية فى إطار دور للدولة يضمن العدالة وتكافؤ الفرص. يزيد على ذلك ضيق الأفق فى النظرة المجتمعية لنمط واحد من أنماط الإنفاق فى التعليم، يجعل مجرد المناقشة حول أساليب مبتكرة أو مختلفة، وكأنه إدانة نهائية بالخيانة لمكاسب الشعب فى التعليم المجانى، بغض النظر هل يحقق هذا التعليم أهدافه أم لا.
ثالثا: عدم ارتباط الموازنة بالأداء:
حيث لا يتيح النظام المالى الحالى بيانات مالية على مستوى المراحل التعليمية. وذلك مرجعه إلى أن الموازنة هى موازنة بنود وليست موازنة أداء. ونظام موازنات الأداء كما هو معلوم ييسر التخطيط السليم للتعليم ويهيئ المناخ للمتابعة والتقويم والمحاسبية. وجميع هذه الأمور تحفز المشاركات المجتمعية الهادفة فى النظام التعليمى.
رابعا: ضعف التمويل من الأنشطة الأكاديمية والمجتمعية:
حيث لا يمثل البحث العلمى والأنشطة البحثية وأنشطة الترجمة والنشر مصدرا أساسيا لتمويل التعليم فى الجامعات والمعاهد العليا . كما أن الأنشطة المجتمعية والمنتجات من مدارس التعليم الفنى لا تشكل نسبة محسوسة لتمويل التعليم بها.
خامسا: عدم تحقيق الاستفادة القصوى من منح ومساعدات التعليم:
تساهم العديد من الدول فى دعم التعليم فى مصر من خلال مشروعات محدودة أو بعثات علمية للطلبة أو المعلمين أو من خلال تقديم الخبرة الفنية أو الأجهزة المساعدة. وتمثل هذه المساعدات مليارات من الجنيهات التى ترصد سنويا لمختلف قطاعات التعليم. إلا أن العديد من هذه المساعدات تتماثل فى أغراضها ولا تتناول بالضرورة الأولويات. ومن ثم لا يتم توظيفها التوظيف الأمثل لتحقيق أفضل عائد. كما أن الاستمرارية والدعم لهذه المشروعات من الناحية المالية والفنية يحتاج إلى نظرة أخرى. والحقيقة أن هذا دور مهم للحكومة فى بيان أولوياتها للجهات المانحة، بل إدارة طرق إنفاقها بما يكمل صورة واضحة للتنمية والتطوير فى هذا الملف.
سادسا: انخفاض كفاءة استغلال الموارد المالية:
حيث يوجد العديد من أشكال التماثل بين أنماط التعليم والتخصصات فى العديد من القطاعات بما يقلل من التنوع فى المنتج التعليمى والاستفادة من الموارد والمساهمات. كما تحتاج بعض الأنشطة مثل طباعة الكتب الدراسية – إلى حساب التكلفة الاقتصادية المثلى لتقليل الإنفاق. ويمثل نظام الترقى الحالى هدرا ماليا حيث يتوجه الكثير من الكفاءات التعليمية والبحثية إلى المناصب الإدارية بما يقلل الاستفادة النوعية من الاستثمار البشرى.
كما يلاحظ أن هناك انحيازا فى التمويل للحضر على حساب الريف حيث تستحوذ العاصمة والحضر على النصيب الأوفر من الخدمات التعليمية وما يصاحبها من تمويل. وهو أمر يجب تغييره فى إطار التوجه نحو اللامركزية.
سابعا: الانخفاض النسبى للطلبة الوافدين وعدم وجود مؤسسات تعليمية نشطة خارج مصر:
يلاحظ أن عدد الطلبة الوافدين إلى مصر لا يتجاوز بضعة آلاف وهو رقم صغير إذا ما أخذ فى الاعتبار مكانة مصر ومركزها الإقليمى والعالمى ودورها التاريخى. كما أن هناك رغبة متزايدة للعديد من الدارسين فى العالم لدراسة ثقافة وتاريخ وعلوم المنطقة وهنا تمثل مصر بالنسبة لهم مقصدا متميزا لهذا الغرض. ويلاحظ أيضا تقلص وجود وأدوار المؤسسات التعليمية المصرية خارج حدود مصر بما يضعف من تواصل مصر التعليمى مع دول العالم فى وقت يمكن لهذه المؤسسات أن تكون واجهة وقناة لقدوم العديد من الدارسين إلى مصر بما يحمله ذلك من قيمة اقتصادية مضافة