الأحد , 22 ديسمبر 2024
الرئيسية / بقلم د حسام بدراوي / د. حسام بدراوي يكتب في المصري اليوم “الهوية والمواطنة واللغة”

د. حسام بدراوي يكتب في المصري اليوم “الهوية والمواطنة واللغة”

إننا لا يجب أن نفصل بين الهوية والمواطنة التى هى بمعناها الأساسى علاقة الفرد بالوطن الذى ينتسب إليه، والتى تفرض حقوقا دستورية وواجبات منصوص عليها وأكثر من ذلك، والمواطنة الإيجابية لا تقتصر على مجرد دراية المواطن بحقوقه وواجباته فقط، ولكن حرصه على ممارستها من خلال شخصية مستقلة قادرة على حسم الأمور لصالح هذا الوطن. ويؤدى التطبيق المجتمعى لمفهوم المواطنة فى كافة المؤسسات إلى تنمية مجموعة من القيم والمبادئ والممارسات التى تؤثر فى تكوين شخصية الفرد، وهويته، والتى تنعكس فى سلوكه تجاه أقرانه وتجاه مؤسسات الدولة وكذلك تجاه وطنه.

أما مفهوم الانتماء للوطن فيمكن القول إنه الارتباط الفكرى والوجدانى بالوطن والذى يمتد ليشمل الارتباط بالأرض والتاريخ والبشر وحاضر ومستقبل الوطن.

والانتماء للوطن لا يعتمد على مفاهيم مجردة، وإنما على خبرة معاشة بين المواطن والوطن. فعندما يستشعر المواطن من خلال معايشته أن وطنه يحميه، ويمده باحتياجاته الأساسية، ويحقق له فرص النمو والمشاركة مع التقدير والعدل، تترسخ لديه قيم الانتماء له ويعبر عنها بالعمل البناء لرفعته.

إن الهدف من تعليم اللغة العربية، ليس فقط محو الأمية شكلا، ولكن المضمون هو الإيمان بأن تعلم اللغة عظيم الأثر على كل مناحى الحياة فى أى أمة، إنها جزء أساسى من هويتنا، إنها الوسيلة التى تنقل إلينا تاريخنا، وتوثق حاضرنا، وتنقل إلى الأجيال القادمة حضارتنا، وليس الهدف كما قلت هو القراءة والكتابة فقط، فهو هدف ضيق قصير المدى، لكن علينا أن نفهم أن هذه اللغة هى وسيلة فهمنا لبعضنا البعض، إننا لا نستطيع أن نفهم أنفسنا ولا بعضنا البعض بدون التفكير، ونحن لا نفكر فى فراغ، بل يفكر العقل بلغة ما، ويصور أفكاره لديه وللآخرين مستخدما الألفاظ والجمل والصور التى ترسمها اللغة وتنقلها من فرد إلى الآخر أو الاحتفاظ بها فى الذاكرة ومن كل هذا تتكون الهوية.

إن تعلم اللغه الأم، وأى لغة أخرى فى سن مبكرة يدرب الفرد على التفكير المتعدد بين اللغات، والمتعارف عليه أن الأطفال هم الأقدر على تعلم لغات متعددة عن الكبار.. وحرى أن تترسخ فى وجدان الطفل لغته الأم فمن الواجب أن يتم تعليمها على أعلى مستوى وقياس قدرات الأطفال على الكتابة والقراءة والفهم من سن ثمانية إلى تسعة أعوام باختبارات قياس علمية.

والآن يدور فى الأذهان، وهل معنى تعلم لغة ثانية أو استخدام المراجع الأجنبية يهدد الهوية. وهل الصحيح ألا يتعلم الطفل لغة أخرى فى مراحل التعليم الأولى.. والإجابة القاطعة هى لا.. تعليم لغة أخرى لا يهدد الهوية ولا يهدد معرفة اللغة الأم إلا لو كان تعليم اللغه الأم ناقصا وضعيفا. إن الطفل يستطيع استيعاب لغات متعددة أكثر من البالغين، ولا يجب أن نتمسح فى أن تعليم لغة ثانية ستتغلب على لغته العربية وتجعل تفكيره وهويته مرتبطة بأمة أخرى. إننا كمن لا يريد دخول ميدان العلم مع الآخرين خوفا من الهزيمة ونستحسن فوزنا بدون منافسة.

إن الهوية كما قلت مرتبطة باللغة، ولكنها أيضا مرتبطة بالمعايشة فى الفصل وبما يدرسه التلميذ من تاريخ وجغرافية، وبوجدان يتكون داخل الفصل والمدرسة وفِى البيت مع الأسرة.

إن أطفالنا الذين يتعلمون اللغة الثانية فى مدارس الحكومة البالغة أكثر من ٤٥ ألف مدرسة لا يتكلم أغلبهم لا اللغة العربية الصحيحة ولا اللغة الأجنبية الصحيحة، والحقيقة أن هويتهم مشتتة، لأن العقل الجمعى لأمتنا مشتت الهوية بين الفكر السلفى الذى يؤكد الهوية الدينية، والفكر القومى الذى يؤكد الهوية العربية والفكر الوطنى الذى يؤكد الهوية المصرية بتعدد مصادرها.

وعلينا أن نكون أكثر واقعية عندما نناقش الهوية، والانتماء والمواطنة، لأن غرسها فى وجدان الطفل مركب ومتعدد المداخل، ولا يجب أن نغلق باب تعلم اللغات الأخرى، لأننا غير قادرين على قياده المداخل المتعددة لهوية الإنسان المصرى.

إن الأطفال فى التعليم الألمانى، قوى الشكيمة فى مسألة الهوية، ملزمون بتعلم اللغة الإنجليزية فى سن ٨ إلى ٩ سنوات، ولكن الإحصاءات تقول إن تعليم اللغة الإنجليزية يتم من سن أكثر تبكيرا فى ألمانيا، يصل إلى أكثر من ٦٠ بالمائة من مدارسها. مع ملاحظة أن للمدرسة الحق فى التبكير وليس لها الحق فى التأخير، فى بدء تعلم اللغة الإنجليزية، لأن المدارس تملك حريات لا مركزية فى اتخاذ القرار. الأمر الإلزامى يقر حدا أدنى ويرفع سقف المرونة.

أقول ذلك لأن الجدل حول الثمانمائة مدرسه تجريبية التى تدرس العلوم والرياضيات والتكنولوجيا باللغة الإنجليزية، عليها أن تستمر فى ذلك مع رفع مستوى اللغة العربية والإنجليزية وليس إلغاء النظام.

فى نهايه الأمر هى ثمانمائة مدرسة وسط أكثر من خمسين ألف مدرسة تديرها الدولة لا تدرس علومها إلا بالعربية ومع ذلك يغيب عن أغلبها الجودة التى نتمناها وإتقان اللغة التى نسعى إليه.

التعليقات

التعليقات