د حسام بدراوي يكتب في المصري اليوم: على مقهى «الحالمون بالغد».. القوى الناعمة والإعلام والحرية
قال الشاب الذى أعلم إعجابه بالفنون: ما الذى يجعل للفنون هذا التأثير على الوجدان؟
قلت: إن الآداب والفنون بأنواعها تلمس أجمل ما فى الإنسان، وتثير فى النفس الرغبة فى السمو النفسى والأخلاقى، ومن خلالها يمكن تأكيد ثقافه الشعوب بل ونشرها، وبها تصبح القيم الجميلة منهج حياة، وتنتقل إلى الأجيال تراكم الخبرات بشكل غير مباشر، وتتنور الطبقات الاجتماعية وتختلط وتشترك فى المتعة نفسها.
قال شاب آخر: هى فين القوى الناعمة فى مصر اللى بتتكلم عليها يا دكتور. لماذا لا نحس بها؟ أهلى يقولون لى إن الأفلام المصرية والغناء والكتب كانت فى مستوى عال، وإبداع وتنوير الفنانين والأدباء كان مؤثرا فى العالم العربى. لا يشتهر فنان إلا إذا جاء إلى القاهرة، والنقود فى العالم العربى اسمها مصارى، وأم كلثوم كان يأتيها القاصى والدانى شهريا للتمتع بحفلاتها وفنها، وعبدالحليم وعبدالوهاب والعقاد وطه حسين وأحمد شوقى وغيرهم وغيرهم.
قلت: كل ما تقول صحيح، ويظل السؤال: هل تعبر القوى الناعمة والثقافة عن واقع ما يعيشه المجتمع، فتنحدر عندما ينحدر وترتفع عندما يرتفع، أم أنها تصنع الحضارة وتدفع بالناس وترتفع بهم إلى أفضل ما فيهم. وهل ينفصل الفن والأدب وكل مناحى الثقافة عن واقع يتغير متأثرا بالفقر والأمية والغزو الثقافى السلفى المتشدد الذى ملك المال وتحكم فى اقتصاد البلاد الجاذبة للعمالة المصرية.
كلنا نعلم أن هجرة العمالة المصرية فى ثلاثة عقود من الزمان إلى السعودية والخليج، ونمو حركة الإخوان فى مصر، والمد الشيعى فى إيران، قد قاد الحركة الثقافية إلى الانغلاق وكتم أنفاس حرية التعبير.
قالت الشابة المتألقة دائما: ما إحنا خلصنا من الإخوان يا دكتور خلاص، ومازلنا نعانى من كبت حرية التعبير، بل انتشار الخوف من مجرد الحديث فى التليفون. أهلنا بيقولوا لنا ما حدش يلخبط فى الكلام لأن الكل مراقب ولا تسمح الدولة بنقد الوضع السياسى والاجتماعى.
قلت: مش قوى كده يا بنتى، إحنا مجتمع بيهول السلبيات زيادة عن الواقع، وينشر الشائعات، ويقزم الإيجابيات.
قال شاب أعلم توجهاته اليسارية: أعتذر لك يا دكتور، ولكن كلامك فيه دبلوماسية وكأنك أنت أيضا خائف من مراقبة حديثنا ووقوع اللوم عليك.
قلت: هات كل ما عندك بلا خوف.
قال: تعال نتفق أن «٣٠/٦» كانت موقفا حضاريا رائعا للشعب المصرى.
قلت: متفق، جدا، بل أذهب أبعد من ذلك وأقول إنه لم يحدث أن تحكم المد الدينى السياسى فى حكم وخرج منه إلا فى مصر.
قال: هل كان ذلك ممكنا بدون إعلام حر كان عنده الشجاعة أن يهاجم الإخوان ويكشف زيفهم ومنهم رئيس الجمهورية والحزب الحاكم وأغلبية البرلمان وكل الحكومة، ويسيطرون على الشارع، ويملأون استاد القاهرة فى عيد ٦ أكتوبر بحضور قاتل السادات الذى أخرجوه من السجن ويحاصرون مدينة الإنتاج الإعلامى. ألم يكن الإعلاميون هم الذين مهدوا لحركة الجماهير بالملايين لإنهاء حكم الإخوان.
قلت: صحيح.
قال: وبعد ذلك ألا يستحق هؤلاء مزيدا من الحرية أم كبتا لها؟
قلت: كل زمن وله لوازمه يا ابنى.
فإذا استنفر الإعلام الناس ليزيد سخطهم بشكل عشوائى على ارتفاع أسعار أو بطالة أو تضخم أو زيادة فقر، فقد يكون الوقت غير مناسب، ولابد أن هناك ما لا نعلمه ولا يمكن الكشف عنه وإلا أحبطت خطط مواجهته.
قال شاب آخر: معقولة يا دكتور أن عناوين الصحف القومية يوميا الآن هى للرئيس لدرجه تأتى بعكس هدفها، ويقال إن هناك منعا صامتا لحرية الرأى، ومد حالة الطوارئ فى كل البلاد مثل لذلك، وكان بيتعمل على قرار مدها ضجة كبيرة وبحث عن أسباب ذلك.
وتدخل آخر قائلا: إننا نذكر أنك اعترضت على مد حالة الطوارئ عام ٢٠٠٨ وطالبت بتحديد مدة الحكم، ونظن يا دكتور، مع كامل احترامنا لشجاعتك، أنك لا تستطيع أن تقول ما كنت تقوله وتعترض على مد حاله الطوارئ الآن.
– انتظرت قليلا لأستوعب موجة الغضب والانفعال التى لمحتها فى كلامهم، وقلت:
– بل أنتم فى هذا مخطئون.. أنا مازلت أكتب وأقول بحرية كل آرائى. من المهم أن تفهموا أننا نستطيع أن ننتقد ما نريد ولكن بدون أن نهدم الوطن.. بل إننى أدعوكم للتساؤل والحوار بحرية. حرية كل واحد فيكم يا أولادى هى جزء من حرية الوطن، وحدودها ألا تعتدى على حريات الآخرين.
– ومعكم الحق فى عنفوان السلطة التنفيذية على السلطات الأخرى، وتغولها أحيانا، وإذا كنا نريد تغيير ذلك فمكانه صندوق الانتخاب. صدقونى المشاركة الإيجابية هى المدخل وليس المظاهرات والهتافات والتكسير والهدم.
– قال أول المتحدثين:
– وماذا عن شراء الدولة كل محطات الإعلام أليس هذا احتكارا للإعلام؟
– قلت: فى كل دولة فى العالم يجب أن يكون للدولة إعلام ينفق على ما لن ينفق عليه القطاع الخاص، ويبنى ثقافة لمجموعة القيم المطلوبة فى المجتمع، ويكون المنبر للحقائق ويمكّن للفن والإعلام الذى يبنى الشخصية المصرية التى تفخر بماضيها وتؤثر فى حاضرها وعندها الأمل فى مستقبلها، فبدون إعلام تتبناه الدولة يوازن الأمور فقد تضيع الهوية وتتغير طبيعة المجتمعات. طبعا بدون احتكار حتى يكون هناك صوت آخر.
– وهل تحقق ذلك؟
– أعتقد أن هذا كان الهدف، ولكنى متفق معكم أن الوسيلة كانت غير كفء ولم تحقق أغراضها، ومن حق المجتمع أن يعرف التفاصيل بشفافية حتى لا تنتشر الشائعات التى قد تكون غير حقيقية.
– فى النهاية رسالتى لكم اليوم أننى أرى فيكم أملا وحيوية، وقدرة على العطاء.. فلنوجه هذه الطاقة إلى خلق مجتمع جميل وليس مجرد هدم ما لا نرضى عنه، ولنجعل التغيير شعارنا، فهذه سُنة الحياة، ولكن فى إطار الشرعية والقانون.
– إن ما يحدث فى العالم حولنا من إنجازات تكنولوجية علمية شىء لم يحدث فى تاريخ البشرية من قبل، وأنتم وقود هذا التطوير فى مصر.. فلنقرأ أكثر، ونتعلم أكثر، ونتواضع أكثر ونرسم البسمة على الوجوه كلما تسنى لنا ذلك، ونعبر عن أنفسنا ونناقش بلا رهبة ولا خوف، فالحكمة السياسية تقول: إذا سمحنا بزرع الخوف فى نفوسنا فلن نجنى سوى سلطة تحكمنا بلا مراجعة.