علي مقهي الحالمون بالغد
سيكولوجية المواجهة بين الشعوب
بقلم
حسام بدراوي
اجتمع مجموعة من الشباب معي في حوار مثير بادَرت فيه، الشابة المغامرة النشيطة، بمشاركة الحاضرين في تجربة مرت بها منذ أيام في إيطاليا، حيث كانت وصديقتها في رحلة ثقافية سياحية مع مجموعة من الشباب من أماكن متفرقة من العالم لحضور حفل موسيقي لواحدة من أشهر الفرق الموسيقية التي يحبها الشباب
قالت:
لقد مررت بتجربة إنسانية نفسية، وأنا وصديقتي نحب أن نشارككم فيها.
ذهبنا إلى مكتب استقبال الفندق الذي كنا ننزل فيه؛ لنحجز سيارة بسائق، ليأخذنا إلى الحفل الموسيقي، وينتظرنا ليعود بنا؛ خوفًا من عدم توافر سيارات تاكسي إذا ما تأخر موعد انتهاء الحفل.
كان هناك شاب وصديقته من مجموعة السياح معنا، وهما من ألطف من قابلناهم في هذه الرحلة .
قال الشاب: نحن نقوم بالإجراء نفسه، فما رأيكم أن نحجز سيارة واحدة، ونوفر في التكاليف؟
رددنا قائلين: ولِمَ لا؟
وسلم بعضنا على بعض، وعرّفت نفسي: أنا ليلي..
فقالت الفتاة وهي تبتسم: مش معقول! أنا كمان اسمي ليلي!
وصرخنا معًا: أنتم منين؟.
إحنا من مصر..
فصرخت ليلي الأخرى وصديقها: مش ممكن هذه الصدفة! نحن أيضًا أصولنا من مصر!
آباؤنا كانوا مصريين يعيشون في الإسكندرية، ثم هاجروا من مصر في بداية الخمسينيات إلى فرنسا، ومنها إلى إسرائيل، حيث عاشوا وأنجبونا هناك.
حكت الشابة قائلة: إحنا وكأن صاعقةً أصابتنا!
- يعني أنتما إسرائيليان؟!
- واضح أنه ظهر على وجهينا وجوم وتردد، فقال الشاب بعد لحظات صمت: يا جماعة، جمال الموسيقى يؤدي الي ذوبان الفروق بين البشر، فالفن يجمع أجمل ما في الإنسان.
- وجّهت ليلي الكلام إلى المجموعة قائلة: أنا لم أملك ساعتها الشجاعة لأعبر عن نفسي وغضبي وأقول: لا، لا، لا، لن أشارك إسرائيليًّا سيارة واحدة أبدًا.
- لم يكن لديَّ شيء ضدهما، ولكن في وجوم انسحبنا من المناقشة، وتعمدنا عدم الوجود معهما في مكان واحد حتى نهاية الرحلة في اليوم التالي.
- قالت الشابة للمجموعة: ممكن يكونوا ناس كويسة، ولكننا لم نستطع ركوب سيارة واحدة معهما، ودار في ذهننا كل القتل والقمع والظلم الواقع على الشعب الفلسطيني، وكأن أورلاندو وليلي الإسرائيليين كانا مسؤولين عنه.
- أنا صح ولا غلط؟!!
وأضافت قائلة : لقد فكرت وأنا أراجع نفسي هو إيه ذنب الأفراد في خطايا حكامهم، وجيوشهم، والسياسيين الذي يأخذون هذه القرارات؟
- لم أستطع -وأنا المتفتحة والمتعلمة والدارسة لعلم النفس- الفصل بين الشخصي والجمعيّ، ومسؤولية الفرد عن الكل ومسؤولية الكل عن الفرد.
- رد شاب من الحاضرين وقال: أنا تجربتي عكسية؛ حيث جمعني مع شابين فلسطينيين لقاء عند واحد من الأصدقاء المشتركين، وانتقل تعاطفي وألمي ممّا يحدث للشعب الفلسطيني إليهما، وفتحت لهما صدري إلى أن اكتشفت أنهما من كبار مؤيدي حركة حماس -بعنف- بل يرون موقف حماس المتطرف والمعادي لمصر على أنه الحق، وتحميل بلدي كل سلبيات كل ما يحدث في فلسطين بعد اتفاق مصر علي استرجاع سيناء بدون حل شامل للقضية الفلسطينية .
- قال الشاب : زال من داخلي كل تعاطف وأسى، وتجنبت استمرار الكلام معهما؛ تفاديًا لتصاعد الحدة في منزل مَن يستضيفنا.
تدخل في الحوار صديق لي يعيش في بلچيكا منذ سنوات ، وقال : لقد واجهت موقفاً مختلفاً مع حفيدتي التي كانت ضمن فريق مدرستها للكرة الطائرة ، وكانوا في منافسة دولية رياضية في بروكسل . حفيدتي وزميله لها ، في السادسة عشر من عمرهن كانتا المصريتان الوحيدتان ضمن الفريق الذي يضم جنسيات مختلفة وكلهن أصدقاء.
جاءت المباراة قبل النهائية في بطولة المدارس مع مدرسة اسرائيلية وإذا بحفيدتي وصديقتها يقرران عدم اللعب مع الفريق حتي لا يضطران للسلام علي الاسرائيليات وداخلهن غضب شديد وألم . لم أكن أتصور حجم معاناة الشباب مما يحدث في فلسطين والخطيئة الغبية التي إرتكبتها إسرائيل بخلق كراهية أجيال جديدة من الشباب المصري والعربي والعالمي، وكانوا قبل الأحداث لا يكترثون بالقضية.
تناقشنا كعائلتين بتقدير لشعور أطفالنا واتفقنا أن لا ينسحبا من المواجهة بل يلعبان المباراه ويتجنبان السلام اليدوي فقط..
المهم أن شعور الانتصار في المباراة كان أكبر لديهن من مجرد مباراة رياضية وعبرتا عن ذلك وكأنهن إنتصرتا علي عدو رغم أنها مجرد مباراة.
قال صديقي: إن تأثير ما يحدث في فلسطين يفوق ويتعدي لقطة في التاريخ وسيرسم أثره في وجدان أجيال قادمة..
- قالت الشابة الأولي : أنا وكثير ممن أعرفهم نرى ما تفعله الحكومات الغربية، بدءًا من وعد بلفور بإنشاء وطن لليهود في فلسطين، إلى ما تفعله الولايات المتحدة الأمريكية حاضرًا من تمكين إسرائيل من القضاء على الشعب الفلسطيني، وما فعلته المخابرات الأمريكية والبريطانية في إحداث الفوضى في المجتمعات العربية، وتدمير العراق، وسوريا، والسودان، وليبيا، ولبنان ولكنني لا أكره المواطن الإنجليزي، أو الأمريكي، أو الأوروبي، وموقفي منهم ليس كموقفي من المواطن الإسرائيلي..
أليس هذا تناقضًا سيكولوجيًّا؟!
إلا يحتاج ذلك دراسة؟
قال زميلها : أنا مثلك ، لا أريد أن أظلم الأفراد ولكني لا أستطيع التعامل معهم. ما حدث أخيراً في أمستردام من مواجهة بين مشجعي كرة القدم لنادي إسرائيلي مع المغاربة الذين يعيشون في هولاندا كان دليلا آخر علي صعوبة خلق سلام بيننا وبينهم ، بين غطرسة وتكبر وشر متطرف ملأ وجدان الاسرائيليين كما هو الحال الحادث عندنا..
قال شاب يدرس سياسة : التحدي الذي أجده أمامي هو إيماني بحق الشعب الفلسطيني، ومأساة عموم أفراده من ناحية، وما أجد نفسي فيه من رفض طريقة زعمائهم ، وتوجههم لإيذاء الدولة التي وقفت عبر التاريخ معهم؛ مصر!
ينتابني شعور متضارب من الأسى على انتهاك حقوق الشعب الفلسطيني، ورفض تكرار عداء حماس في كل مناسبة للشعب المصري.
وأحيانًا أتساءل: كيف استطاعوا أن يوجهوا سهامهم وطعناتهم إلى مؤيديهم بدلًا من أعدائهم؟
أبكي من الظلم الذي يعانيه شعب فلسطين الذي تُهدر حقوقه على أرضه، ولكنني لا أستطيع تأييد حماس التي أراها تتكسب من آلام شعب فلسطين.
بل بالعلم ، والتجربة أري أن دولة عربية فلسطينية متطرفة قد تكون أقسي علي مصر من عدو مباشر كإسرائيل.
لا أعرف كيف أشعر من هذا التناقض بين حقي وشعوري ورغبتي في الدفاع عن بلدي ؟!بين رغبتي في مساندة شعب فلسطين المنتهكة حقوقه بين مطرقة إسرائيل العنصرية وسندان قيادات حماس، الذين كلما حانت فرصة ضربوا في مصر، وتاريخها، وشعبها، وجيشها، ولم يضربوا في إسرائيل إلا شكلًا ليعطوها مبررًا لإيذاء شعبهم.
لكن في النهاية علينا أن نقف مع حق شعب فلسطين المظلوم، ولا نأخذهم بجريرة قادتهم، ولا القادة العرب المتقاعسين عبر التاريخ.
قال شاب آخر موجهاً كلامه الى : هل ترى علاقة بين سد إثيوبيا وما يحدث في فلسطين المحتلة يا دكتور ؟
قلت: لا أستطيع أن أمنع تفكيري من الربط بين البدء ببناء السد في أثناء ثورة يناير ٢٠١١ والفوضى التي تلتها، والتي ساعد وأنجز فيها الإخوان مخططًا مرسومًا، بتدخل حماس، وغزوهم السجون، وحرق كل أقسام الشرطة المصرية في وقت واحد. لا أستطيع أن أمنع ربط الأحداث بعضها ببعض، وأنا أعلم وجود المخابرات الإسرائيلية المؤثر في إثيوبيا، وأشاهد الرئيس الإثيوبي يحصل على جائزة نوبل قبل تولي الحكم وبدء العداء مع مصر، وبعدها بأربع عشرة سنة، بعد الملء الأخير لبحيرة السد، الذي لا رجعة بعده في التأثير السلبي على مصر والسودان، وبين أحداث العنف الإسرائيلي في غزة، المبني شكلًا على عملية “طوفان الأقصى”، ثم هجومً٧ اكتوبر ويتحقق من ورائه أهداف نتنياهو في البقاء في السلطة، ويتحقق لقادة حماس تأييد عاطفي، والكل كسبان على حساب الشعب الفلسطيني، الذي تُهدم مبانيه فوق رأسه، ويُقتل أبناؤه بلا رحمة، ويُباد أمام نظر العالم.
الخيوط تتشابك، ولكن تلاقي الاهداف قد لا يكون مصادفة!
ولا ننسي أن مصر ستظل هي الخوف الحقيقي لإسرائيل، ولم يوجد،، ولن يوجد سوى مصر أملًا للفلسطينيين، وسندًا للشعب المقهور.
ثورة، وفوضى، وتخطيط، وإخوان في يناير ٢٠١١، بدأ في أثنائها بناء سد إثيوبيا، وثورة، وفوضى، وإخوان حماس، وعنف ضد الشعب الفلسطيني عام ٢٠٢١، ثم غزو وإبادة كاملة عام ٢٠٢٢ و2023 إلى الآن، ويتم التحكم في ينبوع الحياة لمصر؛ نهر النيل.
في السياسة، تعلمت أنه لا توجد مصادفات؛ ولكن مخططات، واحتمالات، وحسابات، وأهداف تتحقق..
الهدف النهائي -كما تعلمنا دروس التاريخ- هو فوز الصهيونية، وتحكمها في المنطقة وإضعاف -إن لم يكن قتل- القوة الوحيدة التي تقف أمامها حضاريًّا؛ وهي مصر.